سوريا ما بعد الأسد

سوريا ما بعد الأسد.. هل ينجو الاقتصاد من التيه؟

9 فبراير 2025

"سوريا الجديدة"، أو سوريا "ما بعد الأسد" كما يحلو للبعض تسميتها – مع أن كلمة "بعد" تبدو متفائلة أكثر من اللازم، كأننا نضمن أن "ما بعد" سيكون أفضل بالضرورة، وهذه مغالطة منطقية يعرفها أي طالب فلسفةٍ مبتدئ – تفتح فصلًا جديدًا. لا أتحدث عن "فصل سعيد"، أو "فصل وردي"، بل عن فصلٍ انتقالي حرج، محفوف بالتحديات، وكما هو الحال دائمًا في التاريخ، فإن التحديات الاقتصادية غالبًا ما تكون الأكثر تعقيدًا، والأكثر عنادًا، والأقل قابلية للحلول السريعة.

السياسة والاجتماع قد يبدوان فوضويين، ولكنهما على الأقل مجالات مألوفة، مجالات نعرف قواعد اللعبة فيها، حتى لو كانت قواعد قاسية وغير عادلة أحيانًا. لكن الاقتصاد؟ الاقتصاد هو شيء مختلف تمامًا، هو تيهٌ في طبيعته، حيث تتداخل العوامل المؤثرة فيه بشكل معقد، وحيث لا يمكن الاعتماد على الحلول السريعة، بل على الثقة، التحليل العقلاني، الاستقرار السياسي والأمني، وعلى تطبيق المبادئ الاقتصادية الثابتة، وعلى إعطاء الأولوية للإنتاج والتجارة الحرة؛ لخلق بيئة استثمارية جاذبة. 

إذن في قلب هذه المرحلة الانتقالية، يبرز القطاع الاقتصادي، ليس كلاعبٍ ثانوي، بل كركيزة أساسية، أو ربما كـ"محرك خفي" سيحدد معالم المستقبل السوري. الاقتصاد، في هذه اللحظة، ليس مجرد أرقام ومؤشّرات، بل هو مرآة تعكس بشكلٍ صارخ التأثير المدمر لعقود من الحكم الاستبدادي. تأثيرٌ لم يكن فقط سياسيًا، اجتماعيًا أو نفسيًا، بل كان تأثيرًا اقتصاديًا عميقًا، تجلى في سياسات اقتصادية غير مستدامة، في تشوهات هيكلية، في فساد مستوطن. هذه السياسات، هذه التشوهات، كلها تضافرت لتؤدّي إلى انهيار البنية الاقتصادية السورية، انهيار لم يكن مفاجئًا، بل كان نتيجة حتمية لمنطق اقتصادي مُعتل، لمنطق حُكمٍ استبدادي بامتياز.

ثم جاءت الحرب الأهلية، تلك الحرب التي بدأت في عام 2011، ولا تزال تتردد أصداؤها حتى اليوم. الحرب، كما نعلم، ليست مجرد صراع عسكري، بل هي زلزال يضرب كل شيء، يهز الأسس، يغير الخرائط، يعيد تشكيل الواقع. 

يقدّر البنك الدولي، أن خسائر الاقتصاد السوري منذ بداية الصراع وحتى عام 2024 قد تجاوزت 400 مليار دولار.هذا الرقم ليس مجرد إحصاء مالي، بل هو مقياس للدمار المتسلسل، هو مؤشر على تدمير البنية التحتية بشكل منهجي وشامل. وعندما ننظر إلى هذا الرقم، نجد أنفسنا أمام انعكاس دقيق لحجم الاضطرابات التي شكلت الواقع الاقتصادي والإنساني السوري: التدمير المادي، وتحطّم المؤسسات، وتحوّل حياة الناس إلى ما يشبه الأطلال التي تتراكم عليها طبقات من الألم والضياع.

بناءً على ما سبق يمكن القول إنّ الواقع الاقتصادي الراهن في سوريا، ليس واقعًا عاديًا، بل هو واقع استثنائي، واقع يشير بوضوح إلى عبثية حُكم آل الأسد. حُكمٌ استمر لأكثر من نصف قرن، ولم يحقّق أية تنمية اقتصادية شاملة، أية تنمية حقيقية، أية تنمية مستدامة؛ بل على العكس، ما حدث كان تبديدًا للموارد الوطنية، ليس تبديدًا عفويًا، بل تبديدًا ممنهجًا، لصالح شبكة من المصالح الضيقة والمحصورة المتمثلة في تجارة الكبتاجون. هذه الشبكة، شبكة المصالح، هي التي استفادت من حدود البلاد، وبينما ازدهرت هذه الشبكة، تكدس الشعب في زوايا النسيان، بين زنزانات الداخل ومهجر الخارج، فيما الاقتصاد ظل يتهاوى، كأنه صدى مستمر لتلك السياسات العمياء. فقبل اندلاع الحرب في عام 2011، كان الاقتصاد السوري يعتمد بشكلٍ كبيرٍ على قطاع النفط، وهذا الاعتماد في حد ذاته كان مؤشرًا على هشاشة الاقتصاد، على غياب التنويع، على الاعتماد على موردٍ واحد، موردٍ قابل للنضوب، موردٍ متقلب الأسعار. 

كان الناتج المحلي الإجمالي في ذلك العام حوالي 67.5 مليار دولار أميركي. رقمٌ قد يبدو كبيرًا، لكنه خادع، رقمٌ يخفي وراءه واقعًا اقتصاديًا هشًا يعاني من تحديات بنيوية عميقة، وهي تحدياتٌ لم تكن وليدة اللحظة، بل كانت نتيجةً لسوء إدارة الموارد، لتلك التشوهات الاقتصادية التي خلقتها سياسات الدولة، لتلك الهيمنة الممنهجة للشركات المملوكة للنظام على مفاصل الاقتصاد، على شرايين الحياة الاقتصادية في البلاد.

من جانب آخر، لا يمكن إغفال الدور المُدمِّر للعقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة على سوريا، والتي شكّلت عاملًا رئيسيًا في تفاقم الأزمة الاقتصادية. فالعقوبات الاقتصادية نادرًا ما تكون أداة دقيقة. إنها أشبه بقنبلة عنقودية اقتصادية، تصيب الأهداف المقصودة وأيضًا المدنيين الأبرياء. ولقد أُدرجت سوريا في قائمة الدول التي تخضع لعقوبات مشددة من قِبل الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، ردًا على الممارسات الاستبدادية لنظام الأسد، وعلى وجه الخصوص استخدامه المُفرط للقوة ضد الشعب السوري. وقد شملت هذه العقوبات قيودًا صارمة على التجارة، وتمويل المؤسسات المالية، وحظرًا على تصدير النفط؛ مما ساهم بشكل مباشر في التراجع الحاد في إنتاج النفط السوري، من 383,000 برميل يوميًا قبل الحرب إلى حوالي 40,000 برميل يوميًا في عام 2023.

وقد ازدادت تعقيدات الوضع الاقتصادي حدةً بسبب التدهور الكارثي في سعر صرف الليرة السورية مقابل الدولار الأميركي. في مطلع عام 2024، شهد الاقتصاد السوري انكماشًا مروّعًا، حيث تراجع الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 85%، ليصل إلى حوالي 9 مليارات دولار فقط، وهو ما يضع البلاد في المرتبة 129 عالميًا. كما شهدت الليرة السورية انهيارًا غير مسبوق، قبل الحرب الأهلية السورية، كان سعر الصرف حوالي 50 ليرة سورية مقابل الدولار الأميركي. بحلول كانون الأوّل/ديسمبر 2024، تدهور السعر إلى 15,000 ليرة سورية مقابل الدولار. 

ومع تولي الحكومة الانتقالية الحُكم وعودة السوريين إلى دمشق، تعززت الليرة السورية بنسبة 20%، لتتراوح بين 10,000 و12,500 ليرة مقابل الدولار. وذلك أن تداعيات سنوات الاستبداد والحرب لم تقتصر على تدمير البنية التحتية المادية فحسب، بل امتدت لتطال القدرات الأساسية للأفراد السوريين في مجالات حيوية كالصحّة والتعليم والمشاركة الاجتماعية والسياسية. هذا الانهيار الاقتصادي الراهن يعكس تدهورًا حادًا في هذه القدرات، مما يزيد من تعقيد عملية التعافي والانتقال.

في أعقاب الإطاحة بنظام بشار الأسد في 8 كانون الأوّل/ديسمبر 2024، تولّت الحكومة الانتقالية زمام الأمور في سوريا، وهي تدرك تمام الإدراك أن عملية الإصلاح الاقتصادي تتطلب خطوات جادة وسريعة، خاصة في ظل الاقتصاد المنهار الذي خلفته سنوات الحرب. وفي هذا السياق، يبرز القطاع النفطي كأحد الأولويات المُلحة للحكومة في مساعيها لإنعاش الاقتصاد السوري. ولكن هذه المهمة لن تكون يسيرة في ظل البنية التحتية المتهالكة، والعقبات التي تواجهها الحكومة في جذب الاستثمارات الدولية بسبب استمرار العقوبات الاقتصادية. وكما يقول المثل العربي، "لا يَفلّ الحديد إلا الحديد"، فإن تجاوز هذه التحديات الاقتصادية الهائلة يتطلب إرادةً جادة صلبة وعزيمة لا تلين. 

وفي سياق حديثه الأخير لصحيفة "Financial Times" في 22 كانون الثاني/يناير 2025، كشف وزير الخارجية في حكومة الأمر الواقع، أسعد الشيباني، عن نية الحكومة السورية خصْخصة مؤسسات الدولة، في خطوة قد تبدو للوهلة الأولى انعطافة نحو مبادئ السوق الحرة، وخروجًا ظاهريًا عن النهج الميركنتيلي الذي طالما ميّز الاقتصادات السلطوية، والقائم على هيمنة الدولة المُطلقة وتوجيه الثروات لخدمة مصالح النخبة. إلا أن هذا الإعلان، الذي يصدر في لحظة حرجة من تاريخ سوريا، يطرح تساؤلات جوهرية حول مدى جدوى هذه الخطة الآن ومآلاتها. 

ففي ظل اقتصاد مُنهك بفعل سنوات الحرب الطاحِنة والعقوبات الدولية المشددة، وفي ظلّ غياب شبه تام للاستثمارات الأجنبية الحقيقية، يبرز تساؤلٌ مُلح: من هم تحديدًا المستثمرون القادرون على شراء هذه المؤسسات المتهالكة، وهل ستؤول عملية الخصخصة إلى بيع أصول الدولة بأبخس الأثمان لمجموعة محدودة من المستفيدين المحليين النافذين أو قوى إقليمية ودولية ذات أجندات خاصة؟

إن مجرد الإشارة إلى خصخصة قطاعات استراتيجية كالموانئ الحيوية، والمصانع الرئيسية في قطاعات النفط والقطن والمنسوجات، ومشاريع البنية التحتية الأساسية كالطرق والمطارات والسكك الحديدية، دون تقديم ضمانات ملموسة للشفافية والمنافسة النزيهة وحماية حقوق العمال، والسوريين عامةً يُثير مخاوف جدية من أن تتحول هذه الخطوة إلى مجرد إعادة توزيع مُقنّعة للثروة والنفوذ بصورة لا تختلف جوهريًا عن منطق الاحتكارات القديمة، بدلًا من أن تكون محركًا أصيلًا للتعافي والإصلاح الاقتصادي المنشود. 

وبدلًا من التسرع في خصخصة القطاع العام وبيعه في ظروف بالغة التعقيد، قد يكون الخيار الأكثر حكمةً وفعاليةً هو التركيز أولًا على إصلاح وتأهيل هذه المؤسّسات الحكومية نفسها. يمكن للحكومة المؤقتة أن تتبنى برنامجًا شاملًا لإعادة هيكلة القطاع العام، وتحسين إدارته، وتعزيز الشفافية والمساءلة، ومكافحة الفساد المستشري فيه. يمكن أيضًا استكشاف صيغ للشراكة بين القطاعين العام والخاص، تتيح الاستفادة من خبرة القطاع الخاص وكفاءته دون التخلي عن ملكية الدولة للأصول الاستراتيجية بشكل كامل.

إن التركيز على الإصلاح المؤسسي وبناء بيئة استثمارية جاذبة بشكل عام، قد يكون أكثر جدوى على المدى القصير والمتوسط من برنامج خصخصة واسع النطاق. ولكن بعيدًا عن هذه المخاوف الاقتصادية المشروعة، يبرز تساؤلٌ أكثر جوهريةً يتعلق بشرعية اتخاذ أحمد الشرع مثل هذا القرار المصيري في هذه المرحلة الانتقالية. فالخصخصة، بما تمثله من تصرف بمقدرات الأمة وأصولها السيادية، هي قرار استراتيجي يتجاوز صلاحيات أي حكومة تصريف أعمال أو سلطة انتقالية. بل هو من صميم القرارات السيادية التي لا يجوز البت فيها إلا من خلال حكومة مُنتخبة شرعية ومجلس نيابي يمثل الإرادة الشعبية السورية الحرة. إن مصادرة الإرادة الوطنية والتصرف بمقدرات الشعب السوري دون سند دستوري وبرلماني واضح، هو أمر يُثير شبهات حول المساءلة القانونية والأخلاقية لهذه الخطوة في المستقبل. وفي ظل غياب بيئة استثمارية آمنة وسيادة قانون فعالة ورفع للعقوبات التي تخنق الاقتصاد السوري، تبدو هذه الخطة في أحسن الأحوال كمبادرة سابقة لأوانها، وفي أسوئها كمقامرة غير محسوبة العواقب قد تفاقم الأزمة الاقتصادية وتزيد من وطأة المعاناة على كاهل الشعب السوري.

فعلى الحكومة الانتقالية أن تتساءل: ما هو الاقتصاد الذي نريده لسوريا الجديدة؟ هل نريد اقتصادًا يركز على النمو المادي فقط، أم اقتصادًا يركز على رفاهية المواطن السوري وكرامته وعدالته؟ هل نريد اقتصادًا يكرس التفاوتات الاجتماعية، أم اقتصادًا يحقق العدالة الاجتماعية والمساواة؟ هل نريد اقتصادًا يخدم مصالح النخب، أم اقتصادًا يخدم مصلحة الشعب السوري بأكمله؟

وفي هذا السياق، أعلن وزير المالية في الحكومة السورية الانتقالية، محمد أبازيد، أن الدين الخارجي لسوريا يقدر بما بين 20 و23 مليار دولار أميركي، وهو ما يعكس حجم الضغوط المالية الهائلة التي تواجهها البلاد في الوقت الراهن. وفي ظل هذه الظروف الصعبة، يبرز دور التخفيف من العقوبات كأداة أساسية قد تساهم في تحسين الوضع الاقتصادي، خاصة في ضوء التحولات المعلنة في السياسة الأميركية تجاه سوريا.

وفي خطوة تعكس تحولًا نسبيًا في السياسة الأميركية، تم إصدار الترخيص العام لسوريا من قبل مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأميركية في 6 كانون الثاني/يناير 2025. يهدف هذا الترخيص، الذي يمتد لستة أشهر، إلى تسهيل عمليات تلبية الاحتياجات الإنسانية الأساسية والحفاظ على الخدمات العامة في سوريا خلال الفترة الانتقالية، من خلال السماح ببعض المعاملات مع المؤسسات الحكومية السورية.

ورغم أن هذا الترخيص يمثل تخفيفًا جزئيًا للعقوبات، إلا أنه لا يمس الجوهر الأساسي للعقوبات المفروضة على البلاد، خاصةً فيما يتعلق بالمعاملات مع الأفراد والكيانات المصنفة في قائمة العقوبات الأمريكية. على الرغم من إزالة العقوبات "الرسمية" التي قد تستهدف أي دولة بدأت تطبق معايير محددة لتنفذ التزامات بالتوازي مع ذلك الإلغاء، إلا أن تأثيرها لا يزول بالضرورة، ويعود ذلك لسببين رئيسيين. 

أولًا، قد تظل عقوبات محددة مفروضة على الأفراد والكيانات قائمة، مما يحد من قدرة هذه الأطراف على إجراء المعاملات. ويُعد قانون قيصر مثالًا على ذلك عندما يتعلق الأمر بالنظام السوري السابق. ثانيًا والأهم، يستمر الخوف والتردد في القطاع الخاص والبنوك حتى بعد رفع العقوبات الرسمية، حيث تخشى هذه المؤسسات من الوقوع في أخطاء غير مقصودة قد تؤدي إلى انتهاكات مستقبلية، أو من تغيير السياسات وعودة العقوبات، أو حتى من المخاطر المرتبطة بسمعة التعامل مع دولة كانت خاضعة للعقوبات لفترة طويلة.

وفي الحالة السورية، فإن سيطرة هيئة تحرير الشام على مناطق واسعة واستمرار تصنيفها كمنظمة إرهابية أجنبية يمثل عاملًا رئيسيًا في هذا التردد، حتى لو تم تخفيف بعض العقوبات الأخرى. ويشهد مثال كوبا على ذلك، فبالرغم من التقارب التاريخي مع الولايات المتحدة في عهد الرئيس أوباما، ظل رفع الحظر الاقتصادي الشامل المفروض منذ عقود تدريجيًا ومحدودًا. وحتى بعد استعادة العلاقات الدبلوماسية، بقيت العديد من القيود التي أعاقت النمو الاقتصادي الكوبي ومنعت الشعب من الاستفادة الكاملة من الانفتاح، مما يعكس استمرار تأثير العقوبات الجزئية والتردد المحتمل لدى بعض الجهات. 

وكما هو الحال في ميانمار (بورما)، حيث بعد فترة من الإصلاحات الديمقراطية، رُفِعَتْ بعض العقوبات مؤقتًا، إلا أن التأخير في رفعها بشكل كامل ربما فوّت فرصة لتعزيز الاستقرار والتنمية، قبل أن يُعاد فرض العديد منها بعد الانقلاب العسكري في 2021، مما يؤكد هشاشة المكاسب الاقتصادية في ظل عدم اليقين بشأن استمرار السياسات. لذا، فإن إزالة العقوبات الرسمية لا تمثل نهاية المطاف، بل يجب أيضا معالجة مخاوف القطاع الخاص لضمان عودة التدفقات الاقتصادية بشكل كامل. يُضاف إلى هذه التحديات الاقتصادية تعقيدات الوضع الأمني والسياسي.

تؤكد الولايات المتحدة على أهمية احترام حكومة أحمد الشرع للحقوق والحريات الأساسية كشرطٍ أساسي للتقدم نحو رفع العقوبات. كما تشدد على ضرورة منع استخدام الأراضي السورية كقاعدة للإرهاب لتحقيق هذا الهدف. ومن جانبه، أوضح الاتحاد الأوروبي أن رفع العقوبات مرتبط باتخاذ الإدارة الانتقالية في سوريا خطوات ملموسة نحو تشكيل حكومة شاملة تضم جميع الأطياف، مع ضمان حماية الأقليات وحقوقهم.

في شمال وشرق سوريا، يتجسد الوضع الأمني كمشكلة معقدة تتداخل فيها الديناميكيات الجغرافية والسياسية. تسيطر قوات سوريا الديمقراطية المدعومة من الولايات المتحدة على حقول النفط الحيوية في دير الزور والحسكة، حيث تمثل محافظة دير الزور وحدها نحو 40% من احتياطات النفط السورية. تلك السيادة على الموارد الطبيعية لا تمثل مجرد ميزة استراتيجية بل تُعد معضلة اقتصادية، حيث تتداخل مصالح الفصائل العسكرية المحلية مع خطط إعادة الإعمار الوطنية، مما يعوق الجهود الرامية لتحقيق الاستقرار الاقتصادي. 

في سياق هذا التعقيد، يبرز تراجع قوات سوريا الديمقراطية أمام الفصائل المدعومة من تركيا في بعض المناطق الشمالية الشرقية كمتغيرٍ جديد يزيد من تعقيد المشهد. هذا التحول العسكري ليس مجرد تبدل في موازين القوى، بل هو بمثابة إعادة تشكيل للواقع الذي يؤكد أن الوضع الأمني في سوريا لا يظل مجرد عامل سياسي أو عسكري، بل هو محرك أساسي يعوق أي مسعى لإعادة بناء الاقتصاد الوطني.

إن الوضع الاقتصادي في سوريا بعد نهاية حُكم الاستبداد يواجه تحديات جمة تتطلب استراتيجيات اقتصادية شاملة تتجاوز مجرد رفع العقوبات. يحتاج الانتقال الاقتصادي في سوريا إلى تجاوز الآثار السلبية التي خلفتها سنوات الحرب والعقوبات، مع التركيز على بناء مؤسسات اقتصادية قادرة على إدارة الموارد بشكل عادل وفعال. كما أن معالجة التحديات الأمنية والسياسية تظل حجر الزاوية في أي محاولة جادة للانتقال إلى مرحلة تنموية مستدامة. ومع ذلك، ولأن "الدهر دول"، فإن تقلبات الزمن والتاريخ تشهد على قدرة المدن العريقة على النهوض من جديد. ودمشق، هذه المدينة التي شهدت صعود وسقوط إمبراطوريات وحضارات عبر آلاف السنين، تجسد هذه القدرة على الصمود والتجدد. سوريا، بتاريخها العريق المتجذر في هذه الأرض، يمكنها أن تستلهم من ماضيها لتتجاوز محنتها الراهنة، وتبني مستقبلًا أكثر إشراقًا وازدهارًا.

وختامًا، هناك سؤال لا يمكن الهروب منه: ما الذي يجعل وطنًا وطنًا؟ الإجابة ليست في كثافة الثروات الطبيعية، ولا في الأرقام المتقلبة للناتج المحلي الإجمالي، بل في الأساسيات البسيطة التي هي بديهيات دون الحاجة إلى كتب القانون أو أمهات الكتب السياسية: دستور قوي، انتخابات نزيهة، وإحساس جماعي لدى الشعب بأنه يعيش تحت قواعد شفافة، لا أسرار فيها، لا خطط تُطبخ في الظلام؛ فالمستثمرون الأجانب ليسوا فلاسفة حالمين. إنهم أشبه بمهندسي مبانٍ؛ يحتاجون إلى أرضية صلبة، خرائط دقيقة، ودليل واضح أن هذا المكان لن ينهار في زلزال سياسي آخر. في سوريا الجديدة، هذه الخرائط غير متاحة حتى اللحظة. بدون تحول ديمُقراطي حقيقي ليس مجرد كلمات رنانة عن الحرية، بل أفعال ملموسة: دستور يحمي الجميع، وانتخابات تمنح الجميع صوتًا سيظل الأمل في جذب استثمارات مباشرة أقرب إلى بناء قصر من الرمال على شاطئ مهجور. فالمستثمر، مثل المواطن، يريد شيئًا واحدًا: وهو نظام سياسي يمكن أن يثق به. 

 

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

العقل الأعوج.. صعود الصحافة الذاتية

يتناول روبرت مور التحول الجمالي والفكري في الكتابة غير الخيالية الأميركية، من الصحافة الأدبية التقليدية إلى "الصحافة الذاتية". شكل هجين يجمع بين التحقيق الصحفي والسيرة الذاتية والتأمل الفلسفي

2

نور عسلية: الهشاشة كامنة في كل عمل فنيّ

تبدأ نور عسلية مما هو ضئيل وهش وحساس، تثبّته وتجمده في لحظات هي مزيج من الهدوء والقسوة، من التأمل الدافئ إلى الخشونة الحادة

3

الموسيقات الإيرانية وموسيقاتنا.. التقليد بين التحديات والمساءلة

هل يمكن أن نعرّف الموسيقى بالهوية؟ وهل يُمكن أن تكون هناك "موسيقى عربية" أو "إيرانية" أو "فارسية" كما نتحدث عن لغات وأمم؟

4

المذكرات ذاكرةً ثقافية.. جين مقدسي وكتابة التاريخ غير الرسمي

المذكرات بابًا إلى التاريخ غير الرسمي، من خلال كتاب جين سعيد مقدسي: جدتي وأمي وأنا

5

الصوابية السياسية.. الحدود بين العدالة والرقابة

عن مفهوم الصوابية السياسية وجذوره وآثاره على المجتمعات، بين تحقيق العدالة وتقييد الحريات

اقرأ/ي أيضًا

الأسيرات الفلسطينيات

الأسيرات الفلسطينيات قبل وبعد السابع من أكتوبر.. مشاهد من داخل المعتقل

تُظهر الوقائع أن خلق المعاناة للأسيرات الفلسطينيات في سجون الاحتلال ليس مجرد أحداث متفرقة أو حالات عرضية، بل سياسة ممنهجة تمارسها منظومة الاحتلال

زهرة خدرج

سبتمبر في اليمن بين ذاكرتين (ميغازين).
سبتمبر في اليمن بين ذاكرتين (ميغازين).

ذاكرة سبتمبر في اليمن: بين هيمنة الجماعة وتوق الشعب

سبتمبر في الذاكرة اليمنية بين 1962 و2014، صراع لم يعرف الحسم بعد

فوزي الغويدي

دمية لابوبو واستراتيجيات التسويق الخفية (ميغازين).

دمية لابوبو: كيف يمكن لاستراتيجيات التسويق أن تحطمنا؟

عن دمية لابوبو واستراتيجيات التسويق الخفية التي تخاطب لاوعي الإنسان ورغباته المكبوتة

مصطفى هشام

تتقاطع صور الحريم التي صوّرها الفنّانون المستشرقون مع خطابات التحرير المعاصرة

من الحريم إلى خطاب الإنقاذ.. تشريح الاستشراق الجنسي

انطلق الاستشراق الجنسي مع الحركة الرومانسية، وتجلّى في لوحات المستشرقين التي رسمت جسد المرأة الشرقية كرمز للفتنة والخضوع، ثم تحوّل التخيل إلى أداة استعمارية، عبر خطاب "إنقاذ المرأة المسلمة"

إسراء عرفات

ليبيا

حقوق الإنسان في ليبيا.. سنوات الإفلات من العقاب وجرائم بلا محاسبة

من سجون طرابلس السرية إلى مقابر ترهونة الجماعية، ومن مراكز احتجاز المهاجرين، نسجت ليبيا، خلال السنوات الخمس الماضية، واحدة من أكثر سرديات العنف والإفلات من العقاب قتامة في العالم المعاصر

خالد الورتاني

المزيد من الكاتب

رامز صلاح

باحث في العلوم السياسية

جدلية الصمت في تركة الاستبداد السوري

يقودنا الفهم العميق لآليات السلطة إلى معرفة الكيفية التي حوّلت بها تلك السلطة الصمت إلى استراتيجية للبقاء، لكن في المقابل تقودنا تلك العملية إلى معرفة طرق المقاومة الخفية التي قد تنبع من هذا الصمت نفسه

سوريا والظل الروسي.. هل انتهت السيمفونية؟

مع انتهاء عهد الأسد، تجد سوريا نفسها أمام لحظة تاريخية فارقة، حيث تواجه الإدارة الانتقالية تحدّيات معقدة تتعلق بإعادة بناء الدولة، واستعادة الاستقرار، وإعادة تعريف موقعها في المنظومة الدولية.