سقط الأسد وانهار حصنه الأمني. وبينما اندفع الآلاف من السوريين إلى الساحات العامة للاحتفال بهذا الحدث التاريخي، بقيت فرحة الكثيرين مرهونة بلقاء أحبة وأقارب وأصدقاء معتقلين أو مفقودين منذ سنوات وبعضهم منذ عقود. لم يكن لدى هؤلاء ترف الاحتفال، فتوجهوا مباشرةً إلى السجون في محاولة للعثور على أحبتهم، أو بحثًا عن قصاصة ورق تحكي أي شيء عنهم، حتى لو كانت تؤكد أسوأ مخاوفهم: وفاتهم.
من بين كل رموز حقبة الأسد، لم يكن هناك رمز أكثر قوة ورهبة من سجن صيدنايا. كثيرون ممن أُخذوا إلى ما سمّاه السوريون "المسلخ البشري" لم يخرجوا منه أبدًا. تُقدِّر منظمات حقوق الإنسان أن ما بين 13.000 و30.000 شخص قُتلوا في صيدنايا وحده منذ بداية الثورة السورية عام 2011. وهناك العديد من السجون الأخرى أيضًا، مثل عدرا ودوما. وفروع المخابرات، مثل فرع فلسطين سيئ الصيت، والمخابرات الجوية، والمزَّة، وغيرها الكثير. ونحن هنا نتحدث عن دمشق وحدها، وما عُرف من سجون فيها، فكيف الحال بباقي المحافظات والفروع والسجون السرية!
ورغم كل ما تخيله الناس عن سجن صيدنايا المرعب، وفوق كل الشهادات القاسية التي خرجت منه، فإن ما وجده الناس عندما وصلوا إليه كان أسوأ بكثير، ويصعب على الإنسان تصديقه، ويطرح تساؤلات تبقى دون إجابات؛ لماذا لم يصفِّ النظام معارضيه بطلقة بالرأس بدلًا من كبسهم في "المكبس"، أو إذابتهم في براميل الأسيد، أو تجويعهم وضربهم واغتصابهم حتى الموت؟ لماذا لم يكتفِ بسجنهم بدلًا من تعريضهم لعذاب يومي يجعلهم يتمنّون الموت في كل لحظة؟ لماذا حرص على محو إنسانيتهم وذاكرتهم وإفقادهم عقولهم؟ والأهم، لماذا فعل السجانون هذا أصلًا؟
حُشرَ السجناء والسجينات بالعشرات في غرف مظلمة لا تتسع لربع أعدادهم. أُجبروا على النوم جلوسًا في مساحة لا تتجاوز بلاطة في مطبخ. ذاقوا كل أنواع الألم، وسمعوا صرخاته تعلو ليلًا نهارًا. استنشقوا رائحة البول المُخزّن في زجاجات بلاستيكية، والعفن، والرطوبة، والجثث المتحللة. ناموا مع أشلاء وجرذان وديدان. وهذا كله في سجن رسمي معروف وذائع الصيت، وله موقع على خرائط جوجل. إذن، ما الذي فعلوه بالسجناء في السجون السرية؟
من بقي حيًا، يخرج من السجن نحيلًا منهكًا بمشية عرجاء وظهر محني. بعضهم لم يعد لديه إحساس بالوقت، وآخرون بلا ذاكرة، وهنا نتحدث عن المحظوظين الذين شهدوا هذه اللحظة وخرجوا من هذا "المسلخ البشري". لكن، هل يكفي أن نسمّي السجن "مسلخًا" والسجان "متوحشًا"؟ هل هذه سلوكيات حيوانية أساسًا؟

لفهم هذه العقلية المخيفة التي يتصرف من خلالها السجّان، يمكن العودة إلى كتاب "حيونة الإنسان" لممدوح عدوان، الذي لفت فيه إلى أنه عند إطلاق صفة "وحشي" و"متوحش" على هذه الممارسات، فإننا نتواطأ مع جنسنا البشري ونظلم الوحوش، فقد دلت الأبحاث والتجارب على أن ما نصفه بالوحشية هو سلوك خاص بالإنسان. كما أن إيريك فروم يقول إن الإنسان يختلف عن الحيوان في حقيقة كونه قاتلًا، لأنه – الإنسان – الحيوان الوحيد الذي يقتل أفرادًا من بني جنسه ويعذبهم، دون سبب بيولوجي أو اقتصادي، ويحس بالرضى التام من فعله لذلك.
يستحضر عدوان ما ورد في كتاب "التعذيب عبر العصور"، في محاولة منه للتمييز بين الإنسان والحيوان: "الوحوش لا تقتل المخلوقات الأخرى من أجل الابتهاج والرضى فقط، والوحوش لا تبني معسكرات اعتقال أو غرف غاز، ولا تعذب الوحوش أبناء جنسها إلى أن تهلكهم ألمًا، ولا تستنبط الوحوش متعة جنسية منحرفة من معاناة أقرانها وآلامهم".
وينقل الكاتب أنه: "قد يحدث للذئاب أن تقتتل في ما بينها، ولكن رادعًا غريزيًا يحول من دون اقتتالها حتى الموت". وبالتالي، فإنه لدينا الكثير من الآراء الخاطئة حول الحيوانات. فالحيوانات المسلحة بأنياب ومخالب، والقادرة على القتل، هي الأقل فتكًا بأبناء جنسها. إذ إن امتلاك السلاح الطبيعي القوي يترافق مع وجود رادع غريزي ضد القتل. لكن هذا الرادع يضمحل كلما كان الحيوان أكثر ضعفًا وأقل تسلحًا.
إن وجود الأسلحة يولد الخوف من استخدامها، ولذلك فإن الأسلحة تطورت بحيث تقتل من دون أن تثير هذا الخوف أو الكوابح الأخلاقية. ففي القتل عن بعد، سواء باستخدام الرصاص أو القنابل، أو حتى في الإعدام شنقًا، تبقى يد القاتل بعيدة عن جسد الضحية، وتكون المسافة كبيرة بما يكفي لتجعل القاتل/السجان بمنأى عن المواقف التي قد تحرك كوابحه ضد القتل. وعلى سبيل المثال، لا يمكن لإنسان طبيعي أن يستمتع بصيد الأرانب لو وجب عليه أن يقتل طرائده بأسنانه وأظافره.
يرى الكاتب الإنجليزي جورج أورويل أنه ما من أحد يتسلم السلطة بنيّة التخلي عنها، ذلك أنها ليست أداة بل غاية. وعلى المنوال نفسه، لا يقيم "الزعيم" دكتاتورية من أجل حماية الثورة، بل يقوم بالثورة ليبني حكمًا دكتاتوريًا. وبالتالي، فإن دافع الاضطهاد هو الاضطهاد، ودافع التعذيب هو التعذيب، كما أن دافع السلطة هو السلطة وحدها.
وفي دراسة نُشرت في مجلة "التايم" (العدد 5، أيلول/سبتمبر 1983)، أظهر بحث حول مرتكبي جرائم الاغتصاب أن الجنس ليس وحده ما يحرك المغتصب، لأن الاغتصاب كان غالبًا "التعبير الجنسي عن العدوانية". وتبيّن أن معظم هؤلاء المغتصبين ينظرون إلى الفعل الجنسي ليس فقط على أنه مفرّج عن الكبت، بل على أنه "يحط من قدر الطرف الآخر".
وإذا ما أسقطنا النظرية على هؤلاء السجانين والضباط، سنجد أن سلوكهم نتاج لثقافة زرعها نظام عائلة الأسد على مدار نحو خمسين عامًا، قامت على استراتيجية "صناعة العدو" (كما أسماها بيار كونيسا)، بحيث تلبي حاجة النظام لخلق "آخر" يحذر حاشيته منه عبر الادعاء بأنه "قادم ليغتصب ويذبح زوجاتكم وأبنائكم"، وهي ضرورية استراتيجية لتبرير العنف المفرط تجاهه بنزع الإنسانية عنه، وتشكيله لتهديد اجتماعي أخلاقي تجاه من يحمي وجود النظام، الذي يرى أن الطريقة الوحيدة التي تحفظ وجوده هي بجعل "الآخر" يخشى منه، الأمر الذي عبّر عنه حافظ الأسد لضباطه، إذ يُنسب له القول التالي: "لا أريد للشعب أن يحبّني بل أن يخافني".
ومع أن هذا كله لا يفعله الحيوان، لكننا لا نجد إلا التعابير المشتقة من كلمات مثل "وحش" و"حيوان" لوصف هذه الحالات، التي يمارسها "إنسان" على تماس فعلي مع رجل الكهف الكامن في أعماقه، أكثر من قربه من البيئات الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، التي تطورت عبر العصور. وبالتالي، وبدلًا من أن يتحرك لديه "الكابح"، فإنه يصبح أكثر انعزالية عنها لأنه يراها بيئات لا تلائم هذا الوحش ولا تساعده على البقاء.
يبدو أن هذا الضابط (السجان/الوحش/الحيوان)، وعبر مراحل تكوّن شخصيته في ظل الاستراتيجية التي خلقها النظام، سار عكس مسعى البشرية نحو تقليل اعتماد الإنسان على قواه العضلية، بحيث لا تظل قيمته مرتبطة بجسده وعضلاته كالحيوان. ولم يلائم طبيعة تفكيره المسار البشري الذي تطور لاستنباط المتعة غير الحسية في الأدب والموسيقى والفنون والتربية الحضارية التي تساعده في الابتعاد عن الوحش، وراح يفرض حياة أقرب إلى حياة الحيوان على بشر آخرين بمعاملتهم معاملة الحيوان، محاولًا الإبقاء على الحيوان في أعماقهم وأعماقه هو أيضًا، وتغذيته وتنميته وخلق الشروط الملائمة له كي يستفحل وينجح "بالنسبة له" في الإبقاء على وجوده، وبالتالي وجود النظام.
تتجلى هذه العقلية بأبشع صورها في السجون السورية، التي كانت نتاج طريقة تأسيس الجيش السوري والأجهزة الأمنية. ففي كتاب "الغولاك السوري: سجون الأسد 1970 – 2020"، يتتبع الباحثان جابر بكر وأوغور أوميت أنغور نشأة السجون السورية وطريقة عملها المنبثقة من دور الأذرع الاستخباراتية مع وصول حزب "البعث" إلى السلطة عام 1963، حيث أسست اللجنة العسكرية البعثية حينها قوة عسكرية خاصة عُرفت لاحقًا بـ"سرايا الدفاع" (تحولت لاحقًا إلى الفرقة الرابعة بعد حلها نتيجة الخلاف بين حافظ الأسد وشقيقه رفعت). وبالإضافة إلى هذه الفرق المختلطة بين العسكري والاستخباراتي، يمتلك الجيش جهاز استخبارات خاص به يعرف بـ"إدارة الاستخبارات العسكرية"، التي تعتبر ذراعًا أمنية واستخباراتية ضمن المؤسسة العسكرية.
تتبع معظم السجون (مثل صيدنايا وأقبية الأجهزة الأمنية والسجون السرية) لوزارة الدفاع من الناحية الإدارية والمالية والتسليحية، إلا أن وزير الدفاع، لا يملك أي سلطة عليها، بل على العكس تشرف إدارة الاستخبارات العسكرية على عمل وزير الدفاع وتملك تأثيرًا في تعيينه منذ بداية حكم حافظ الأسد لسوريا، وتُعتبر الأكثر ولاءً للنظام وأكثرها طائفية، إذ تحوي أقل نسبة من العناصر والضباط غير العلويين مقارنةً بباقي الأجهزة، ويمكن ربط هذه الملاحظة بما قلناه عن "صناعة العدو"، والقدرة على جعل هؤلاء الضباط والعناصر على تماس مع "إنسان الكهف" عبر تهديدهم بالآخر.
أما شعبة الأمن السياسي، التي تأسست عام 1947 بموجب المرسوم التشريعي رقم 77، لوزارة الداخلية السورية؛ فيُعين رئيسها بمرسوم من رئيس الجمهورية، ويقدم تقاريره الأمنية مباشرةً إلى مكتب الأمن الوطني أو إلى الرئيس شخصيًا، ويقوم بتعيين قادة الفروع المركزية وفروع المحافظات بموافقة القصر الرئاسي دون الرجوع إلى وزير الداخلية، ويملك رئيس الشعبة سلطة مباشرة وحصرية على جميع الضباط والعناصر العاملين فيها، وهدفها الرئيسي هو مراقبة عمل وزارة الداخلية من الوزير وصولًا إلى أصغر عنصر، ليخلق بذلك سلسلة لا نهائية من القلق من الآخر والشعور بالتهديد الوجودي منه، وهو ما يعود ليصب في نظرية "حيونة الإنسان" وتغليب العنف لديه.

بالعودة إلى محاولات ممدوح عدوان لتفسير العنف المفرط عند عناصر وضباط هذه الشبكة المعقدة، نجد أن العذر الذي يختبئ خلفه الإنسان الأول الحضاري، هو أن "الحيوان" الآخر مسخر لخدمته فقط، وأنه ليس حيوانًا مؤذيًا، وحتى حين تكون تنمية هذا الحيوان في أحد جوانبها باتجاه العنف والدم. ما نسميه نحن بـ"الوحشية" يسميه إيريك فروم "العدوانية" أو "السلوك العدواني". ويقسم العنف إلى الذاتي، والموضوعي، والرمزي. وليس العنف الذاتي إلا الأبرز والأكثر وضوحًا بين الثلاثة في هذا السياق.
في كتابة "العنف: تأملات في وجوهه الستة"، يقول سلافوي جيجك إن ما لا يكف أبدًا عن مفاجأة الوعي الأخلاقي الساذج، هو كون الأشخاص الذين يقترفون ممارسات عنف مخيفة ضد أعدائهم، هم قادرون على إبداء العواطف الإنسانية الدافئة والاهتمام اللطيف تجاه أعضاء مجموعاتهم الخاصة.
ونجد أن الضابط "الجلاد/السجان" ذاته الذي ذبح مدنيين أبرياء، بات مستعدًا للتضحية بحياته في سبيل أسرته وأبنائه ومجموعته ونظامه. والقائد نفسه الذي أمر بتعذيب وقتل وحرق جثث السجناء أو كبسهم صباحًا، يعود مساءً ليتفقد عائلته وما إذا كانت بحاجة إلى أي شيء، وبكل حب!
هذا التناقض يوقعهم في ما يمكن تسميته بـ"تناقض ذرائعي"، حيث ينتهكون القواعد الأخلاقية الداعمة للجماعة التي يتكلمون لغتها. فحرمان الآخرين، الذين هم خارج جماعتهم، من الحقوق الأخلاقية التي يمنحونها لمن هم داخلها، أمر لا يتوافق طبيعيًا مع أي وجود إنساني، بل ويمثل انتهاكًا للنزعة الأخلاقية العفوية التي تميز البشر.
إن أشكال القسوة غير المعقولة التي خرجت إلى العلن، عبر شاشات التلفاز وفي مواقع التواصل الاجتماعي حول العالم؛ ستشكل صدمة كبيرة وغير مسبوقة. وعدا عن ذلك، فإن ما ينجم عنها – خصوصًا في ظل مرحلة انتقالية معقدة - من رغبة في الانتقام عند الضحايا وذويهم، قد يدفع إلى دوامة عنف لا نهائية.
مواجهة أشكال العنف هذه يجب أن يكون الشغل الشاغل اليوم. ومن واجب الإعلام والهيئات الحقوقية والحكومة المشكلة والمنتخبة القادمة، أن تولي هذا الملف اهتمامًا يتعدى القصاص والثأر، وأن لا يركز على هذا العنف بصفته نتاج أفراد أشرار وأجهزة قمعية طائفية متعصبة، لأن ذلك سيؤدي إلى صرف الأنظار عن بؤرة الشر الحقيقية، وطمس الأشكال الأخرى من العنف، وصولًا إلى المشاركة في ممارستها.