الرئيس الأميركي دونالد ترامب

ستيف بانون أو عقل ترامب: ما المشروع الشعبوي الذي يحمله ترامب للأميركيين وللعالم؟

10 يونيو 2025

حَلف دونالد ترامب اليمين الدستورية في العشرين من كانون الثاني/يناير من هذا العام، ليصبح رئيسًا للولايات المتحدة لفترة رئاسية ثانية، في حدث نادرًا ما تكرر في تاريخ السياسة الأميركية؛ أن يقضي رئيس فترته الأولى ثم ينهزم أمام خصمه، ليعود بعدها في الانتخابات اللاحقة فينتصر ويقضي مدته الثانية، لكنّ هذه الفترة جاءت في ظروفٍ مختلفة تمامًا عن الفترة السابقة، فخلال إدارة بايدن اشتعلت الحرب الروسية الأوكرانية، ثم حرب أخرى في منطقة الشرق الأوسط وفي أكثر من جهة، وارتفعت معدلات التضخم لنسب غير مسبوقة منذ ما يزيد على أربعين عامًا، وتَدفّق المهاجرون غير الشرعيين من جنوب البلاد بما يزيد على عشرة ألاف مهاجر يوميًّا، مسببين أزمة في عدد من ولايات الاستقبال وضغطًا متزايدًا على مواردها وبنيتها التحتية.

فاز دونالد ترامب في هذه الظروف المضطربة، وحصل الحزب الجمهوري على أغلبية الأصوات في البرلمان بغرفتيه المحافظين والسيناتور، ما منح ترامب صلاحيات شبه مطلقة وخصوصًا مع ضعف مقاومة الحزب الديموقراطي ووجود هيئة قضائية عليا ذات أغلبية جمهورية، لتسمح تلك الظروف بتأسيس إدارة شعبوية تخضع بأكملها لإرادة ترامب وسيطرته المطلقة، وهي سيطرة تُمكّنه هذه المرة من تحقيق كل وعوده الانتخابية التي فشل في تحقيقها بشكلٍ تام في الفترة الأولى.

إيقاف الهجرة غير الشرعية وإغلاق الحدود تمامًا، وتقليص الحكومة الفيدرالية وإنهاء حرية التجارة وكل الاتفاقات المرتبطة بها، ومن ثم وضع تعريفات جمركية والتفاوض على موقع مميز للمنتج والمستهلك الأميركي في مواجهة الصين، كانت تلك أجندة ترامب التي طرحها في الفترة الأولى، واستغل الأزمات المتراكمة في فترة بايدن ليطرحها مرة أخرى وبشكلٍ أكثر راديكالية تحت شعار" make America great again"، وكي نفهم من أين أتت تلك السياسات ومن الذي طرحها، علينا أولًا أن نعي أن تلك السياسات ستُشكّل العالم اقتصاديًّا وسياسيًّا خلال المستقبل القريب، وبالتالي ستؤثر على كل فرد ومؤسسة اقتصادية وجماعة بشرية شاءت أم أبت.

لا يمكن أن نفهم أجندة ترامب دون أن نسائل السياق الذي أتى به، الظروف والخبرات والمؤثرين، ولعل أهم رمز في هذه الخلفية سيكون ستيف بانون.

ستيف بانون هو مخطط إستراتيجي ومدير مالي سابق في بنك جولدمان ساكس والشريك المؤسس لصحيفة وراديو Breitbart والتي وصفها عام 2016 بأنها "صوت أقصى اليمين"، شارك في انتاج 18 فيلم أمريكي، ومع قرب وصول ترامب للحكم في فترته الأولى؛ تولى بانون منصب نائب مدير شركة Cambridge Analytica وهي الشركة التي قامت بجمع وتحليل بيانات المستخدمين على منصة Facebook، وتدريب خوارزميات متخصصة من أجل الترويج لحملة دونالد ترامب في الولايات المتحدة وحملة Brexit في إنجلترا، ومن ثم ترويج الأخبار الكاذبة التي من شأنها دعم اليمين المتطرف حول العالم، وهي الفترة التي عمل فيها مديرًا تنفيذيًّا لحملة ترامب، ليصبح بعدها كبير مستشاري ترامب الإستراتيجيين لما يقارب ثمانية أشهر، قبل أن يقيله ترامب فيعود لدعم السياسيين الواقفين في اقصى يمين الحزب الجمهوري من خلال منصته الإخبارية.

وصول ترامب إلى السلطة لم يكن المساهمة الأولى لستيف بانون وإنما حلقة من مسلسل طويل، بدأ تحديدًا مع الأزمة المالية العالمية عام 2008 التي أقنعته بضرورة عمل تغيير سياسي واقتصادي ثوري، والبحث عن شخصية يمكنها أن تتولى عملية التغيير الراديكالي بعيدًا عن النخب السياسية التقليدية سواء الديموقراطيون أو الجمهوريون، ليقع اختياره على ترامب ويبدأ في تشكيل أهدافه وأجندته التي يحاول تنفيذها اليوم. لكن من أين بدأ؟

في البدء كانت أزمة 2008:

في الخامس عشر من سبتمبر عام 2008 أعلن بنك Lehman Brothers إفلاسه، إذ وقع تحت دين يُقدر ب 613 مليار دولار دون أي قدرة على تمويله، في تلك اللحظة من الخسارة المهولة في البورصات الأميركية والعالمية؛ جرى تعليق التداول لتلافي المزيد من الخسائر، وبتعليقه لأكثر من مرة خلال الأيام اللاحقة، دخل النظام المالي العالمي في حالة من الخطر، فأسواق الأوراق المالية (البورصة) هي الممول الأول والأهم لكل الشركات حول العالم، تعتمد عليها لتوفير تدفقات السيولة النقدية من أجل دفع الفواتير ومرتبات الموظفين وغيرها من النفقات الطبيعية التي تعتمد عليها أي مؤسسة للعمل اليومي، وبتعطل تلك العملية يُحتمل أن يواجه الاقتصاد العالمي انهيارات غير مسبوقة، ربما منذ الكساد الكبير.

أسرع وزير الخزانة الامريكية "هانك بولسون" ورئيس الفيدرالي الأميركي "بن برنانكي" وقتها؛ لمقابلة جورج بوش وطلب تدخل حكومي عاجل لإنقاذ الاقتصاد الأميركي وبالتبعية الاقتصاد العالمي، لتُعلن وزارة المالية الامريكية في 3 أكتوبر عن إنشاء مكتب جديد للثبات المالي يقوم بتنفيذ خطة TARP أو"Troubled Asset Relief Program" وهو برنامج يتم من خلاله التخلص من الأصول الاستثمارية السيئة والفاسدة التي قدمت لها البنوك الأميركية مئات المليارات، لكنها فشلت في تحقيق العائد الاستثماري المتوقع، والتي تركز أغلبها في الاستثمار في "الرهن العقاري".

هدف البرنامج بشكل أساسي إلى طباعة 700 مليار دولار، تشتري بها الحكومة الأميركية ديون البنوك الفاسدة، بحيث تتمكن البنوك من إعادة توفير ديونها وخدماتها للعملاء والبنوك والشركات الأخرى، فتستأنف البورصة عملها ويتلافى النظام المالي الانهيار التام كما حذر برنانكي، عُرفت تلك الاستراتيجية فيما بعد باسم "التسيير الكمي Quantitative Easing" وهي التي تسببت في ارتفاع دين الفيدرالي الأميركي حتى وصل إلى 6.7 تريليون دولار.

تسببت الأزمة المالية ومشروع TARP عام 2008، في تدمير قيمة مدخرات المودعين الأميركيين، فتوفير تريليونات الدولارات بلا غطاء وخفض أسعار الفائدة، أدّيا إلى زيادة معدلات التضخم وزيادة نسب اللامساواة لصالح 1% من الأثرياء الذين استفادوا من استراتيجية التسيير الكمي عبر السنوات.

يقول ستيف بانون: "كل أزمة مالية في تاريخنا الحديث؛ دائمًا ما أعقبها صعود لحركة شعبوية من نوعٍ ما، أحيانًا تأتي على صورة الفاشية، لكن في كل مرة تأتي عقب أزمة مالية. تذكر، هذه أكبر أزمة مالية في التاريخ الأميركي، أكبر حتى من أزمة عام 1870 والتي تسببت في مشكلة كبرى، وأكبر من تلك التي حدثت في عشرينيات القرن الماضي، وهي لم تحدث بسبب Ponzi Schemes بسيطة وانما تسببت فيها مؤسسات يتحكم بها نخبة من الماليين وأصحاب الشركات، التي تأبى أن تُنزع سيطرتها عن تلك المؤسسات، لدينا كثير من النخب التي تجنى الأموال، وعندما يحدث انهيار مالي فإنها تريد من دافع الضرائب أن يقوم بتعويضها".

ويقول مبررًا ميلاد الثورة الشعبوية: "لقد وضعنا بشكل أساسي عبء الإنقاذ في 2008، على عاتق الطبقة العاملة والطبقة الوسطى؛ لهذا السبب لا يمتلك أحد أي شيء. فجيل الألفية اليوم ليسوا سوى أقنان روسيين من القرن التاسع عشر، إنهم يتغذون بشكل أفضل، ويرتدون ملابس أفضل، إنهم في حالة أفضل، لديهم معلومات أكثر من أي شخص في العالم في أي وقت، لكنهم لا يمتلكون أي شيء. وعلى الأرجح لن يمتلكوا أي شيء، وهم متأخرون بنسبة 20٪ في دخلهم بالمقارنة بجيل آبائهم، ولا توجد خطة تقاعدية في المستقبل. وجميعهم يعملون في اقتصاد "السبوبة "، لقد دمرنا -حرفيًّا- الطبقة الوسطى في هذا البلد".

يعتقد بانون أن المؤسسة السياسية الأميركية، بحزبيها الديموقراطي والجمهوري، مسؤولة بشكل أساسي عن استمرار وجود النخبة المالية العولمية والعمل لصالحها، وهي التي تستفيد من الأزمة وتتربح منها، في مقابل انهيار الطبقة العاملة وزيادة فقرها وقلة حيلتها. حينها اجتمع عدد من السياسيين الجمهوريين غير التقليديين، الإعلامي ريك سانتيلي وستيف بانون والصحفي أندرو برايت بارت وغيرهم، لتشهد تلك اللحظة ميلاد حزب الشاي ومنصة Breitbart الشهيرة الناطقة باسم اليمين المتطرف الأميركي، ويبدأ حراك الشعبوية ومشروعها.

رحلة الاستيلاء على الحزب الجمهوري:

 في فبراير من العام 2009؛ أعلن الصحفي ريك سانتلي من مكتبه في Chicago Mercantile Exchange عن ميلاد تيار سياسي جديد في أمريكا باسم "حزب الشاي"، وفي اليوم التالي اجتمع 50 شخصية سياسية ومالية، ذات توجهات من أقصى يمين الحزب الجمهوري. ورغم عضوية هذه المجموعة في الحزب فإنها بدأت في التصويت والتحرك شعبيًّا وكأنها مجموعة مستقلة أو حزب خاص.

اتخذت المجموعة اسمها من أحداث عنف وقعَت بين الأميركيين والاحتلال البريطاني عام 1773 في ماساتشوستس، وعلى إثرها تكونت مجموعة حزب الشاي في بوسطن والتي أدت فيما بعد لوقوع الثورة الأميركية وإعلان الآباء المؤسسين ميلاد الأمة الأميركية واستقلالها.

ليقرر عندها ستيف بانون وأندرو برايتبارت؛ إنشاء موقع صحفي يتحدث باسم هذا الحراك، بدأ أولى مهماته السياسية بالاعتراض على مشروع TARP ثم الخروج في مظاهرات ضد الرئيس الأميركي الجديد وقتها باراك أوباما، والمطالبة بتخفيض الضرائب وتقليص الحكومة الأميركية للتوفير في نفقاتها، وفي العام 2011 قرروا نقل مقر الصحيفة إلى العاصمة واشنطن، لتتحول من جريدة إلى أداة سياسية يمكن من خلالها ممارسة ضغط سياسي.

اعتمدت الحركة الشعبوية في البداية على مهاجمة رموز الحزب الديموقراطي، مثل الرئيس أوباما وأهم أعضاء الحزب نانسي بيلوسي، لكن ما لاحظه بانون أن هذا الهجوم بلا جدوى، وأن الأفضل مهاجمة العدو الحقيقي، أي مهاجمة الحزب الجمهوري، واستهداف قياداته ومموليه وسرديته التي يقدمها للناخبين، يقول بانون: "لقد كان الحزب الجمهوري عرضةً للخطر؛ بسبب الفجوة الهائلة بينه وبين ناخبيه، فالشيء الوحيد الذي نجح فيه الديموقراطيون هو خلق حالة من التناغم بين المانحين وقواعد الحزب، بينما كان الحزب الجمهوري مُختلًّا وظيفيًّا تمامًا. إنه في جوهره حزبٌ للطبقة العاملة، فجميع الأصوات تأتي من تلك الطبقات، وفي النهاية لا يجدون من يمثل مصالحهم".

ويدلل على فشل الحزب الجمهوري بتمثيل مصالح ناخبيه، بقضيتين محوريتين، الأولى هي الهجرة، حيث يسمح الحزب الجمهوري لمموليه باستيراد قطاعات كبيرة من العمالة الخارجية، إما على هيئة مهاجرين غير شرعيين أو حتى شرعيين اعتمادًا على فيزا H-1B للعمالة الماهرة، وفي الحالتين تأتي تلك السياسة ضد الطبقات العاملة الأميركية سواء من السود أو اللاتينيين. والقضية الأخرى هي قضية التجارة الدولية، حيث تتنافس الطبقة العاملة الامريكية أمام عِمالة في بلاد أخرى (الصين مثلًا) لا تخضع لنفس القيود ولا الضرائب، ما يقلل فرص الطبقة العاملة الأميركية ورواتبها، ويزيد هوامش ربح الشركات وأسعار أسهمها.

من هنا جاءت الحاجة للاستيلاء على الحزب الجمهوري المنفصل عن واقعه، وفي العام 2010 نجحت مجموعة حزب الشاي بالحصول على 62 مقعد في غرفتي الكونغرس خلال الانتخابات النصفية، لتمثل تلك النقطة مرحلة التحول الكبرى في مسار صناعة خطاب شعبوي جديد للطبقة العاملة، وسيطرة مجموعة حزب الشاي على الحزب الجمهوري الضعيف، وصولًا إلى لتقديم كل مساعدة ممكنة لترامب في معركته ضد هيلاري كلينتون وفوزه بالانتخابات عام 2016.

 ترامب ومشروع حزب الشاي:

لم يكن المشروع الشعبوي مجرد صراع ثقافي ضد الأيديولوجية الليبرالية والتنوع الثقافي والعرقي والجندري، بل جاء في الواقع من توصيف حقيقي لمشكلة تسببت بها الأزمة الاقتصادية وطريقة علاجها في 2008، فلو كان المشروع مجرد حرب ثقافية؛ لما نجحت مجموعة حزب الشاي في اختراق الحزب والاستيلاء على قواعده وإعادة طرح أيديولوجية جديدة، فلطالما خاض الحزب الجمهوري تلك الصراعات الخطابية مع الديموقراطيين لصالح ثقافة أشد محافظةً دينيًّا واجتماعيًّا، لكن طبقة الممولين كانت واحدة ومشتركة بين الحزبين، ومن هنا جاء الحِراك الشعبوي.

يقول بانون: "لطالما امتلك الحزب الجمهوري فيتش بخصوص حرية التجارة، ولطالما ردد الجمهوريون شعارات حرية التجارة كالروبوتات، وهي فكرة راديكالية خصوصًا إذا كان خصمك اقتصادًا يعتمد على التصدير أولًا مثل الصين، لذلك سوف نرفع التجارة من المركز المائة الي المركز الثاني، ونرفع الهجرة من المركز الثالث الي المركز الأول، لكي تصبح أهم النقاط في مشروعنا هي الهجرة والتجارة، وسيصبح التركيز بشكلٍ أساسي على العمال، كل ذلك سيتحقق عن طريق إعادة بناء الحزب الجمهوري".

بوصول ترامب الي البيت الأبيض هذا العام؛ أعلنت إدارته معايير مناقضة لمساعي الإدارة السابقة عليه، حيث علق برنامج استقبال اللاجئين من كوبا وهايتي ونيكاراجوا وفنزويلا، وأعلن الأمر التنفيذي 14167 الذي يعطي الجيش الأميركي إمكانية العمل على طول الحدود الجنوبية وداخل أراضي الولايات، ومن ثم تحويل هذه المنطقة إلى منطقة عسكرية، يمكن لقوات الجيش الأميركي توقيف المهاجرين غير الشرعيين بها واحتجازهم، والذين جاوز عددهم خمسين ألفًا في نيسان/أبريل من هذا العام، مع وجود خطط لمضاعفة هذا العدد في السنوات القادمة، ووصول عدد المُرحلين إلى مليون مُرحل سنويًّا.

 المهمات العسكرية في حراسة الحدود، وإلغاء برامج اللجوء والحماية، والاحتجاز والترحيل، وأخيرًا وضع قائمة سوداء بالدول التي يُمنع مواطنوها من دخول أراضي الولايات المتحدة؛ كل تلك الخطوات تسببت في انخفاض عدد المهاجرين غير الشرعيين القادمين من جنوب البلاد بنسبة 95% في آذار/مارس من هذا العام بالمقارنة بالشهر نفسه العام الماضي.

أما عن التجارة التي جعلها بانون في المركز الثاني عام 2016، فقد بدأ ترامب في فترته الأولى بفرض رسوم جمركية على كل الواردات من الصين بنسبة 10%، وهي الخطوة التي لم تتراجع عنها إدارة بايدن خلفه وإنما عززتها تجاه قطاعات أخرى تأتي من الصين.

وببداية الفترة الثانية، عاد ترامب إلى تهديداته بفرض رسوم جمركية تبادلية تجاه جميع دول العالم، الحلفاء والأعداء، واعتبرها عقوبة مجدية في مقابل سرقة تلك الدول للوظائف والامتيازات الأميركية من العامل الأميركي، وبعد كثير من التهديدات والإلغاءات؛ أصدر ترامب قراره التنفيذي الموعود في 2 نيسان/أبريل، والذي فرض نسبة 10% تعريفات جمركية على كل دول العالم بشكل مبدئي، ونِسَبًا خاصة لدول أخرى، فوصلت التعريفات على الصين الي 34%، والاتحاد الأوروبي 25%، وكوريا الجنوبية 24%، واليابان وتايوان 32%، وهي الخطوة التي اعتبرها ترامب طريقًا لاستعادة الميزان التجاري الأميركي توازنه مع الشركاء التجاريين حول العالم، وتوفير تريليونات الدولارات سنويًّا وملايين الوظائف في الولايات المتحدة.

خطوة جاءت بكثير من العواقب، ففقدت البورصة الأميركية 5 تريليون دولار خلال أسبوع واحد، وقرر الشركاء التجاريون فرض رسوم عقابية على الواردات من الولايات المتحدة، وفي التاسع من نيسان/أبريل قام ترامب بتعليق الرسوم لمدة 90 يومًا على كل دول العالم وتشديدها على الصين فقط، لتبدأ حرب تجارية بين ترامب والصين وتتصاعد النسب لما فوق 100% بشكل متبادل، قبل أن يُعلن ترامب أنه في انتظار عقد صفقات مع تلك الدول، واستثمار الأموال الأجنبية داخل الولايات المتحدة من أجل إنشاء مصانع جديدة وتمويل أخرى، وهي الخطوة التي دفعته لزيارة دول الخليج فيما بعد.

هل ينجح المشروع الشعبوي؟

 تضافرت الحرب التجارية ومنع الهجرة وتقليص حجم الحكومة وإنفاقها معًا، لتصنع بنود مشروع شعبوي مثالي، يُحضّر له منذ العام 2009 وهو على الأرجح ما سيرسم مستقبل السنوات المتبقية من فترة ترامب وما بعدها، شاهدنا خلال المئة يوم الأولى من حكمه نموذجًا عمليًّا بلا مقاومة شعبية أو ديموقراطية تذكر، وهو ما يطرح علينا سؤالًا في غاية الأهمية: هل ينجح المشروع الشعبوي في الولايات المتحدة وينتشر حتى في أوروبا؟

تحدث ستيف بانون عام 2016 مع شبكة PBS، وذكر التاريخ القريب لمجموعة حزب الشاي ومشروعها بعد أزمة 2008، وعلى رغم توصيف المشكلة الدقيق إلا أن نظرته غير السليمة للسبب والنتيجة، تشي بفشل محتوم لكل المشاريع الشعبوية سواء التي يقدمها ترامب من أقصى اليمين، أو التي يقدمها بيرني ساندرس في الحزب الديموقراطي على أقصى اليسار، والتي يحتمل أن تأتي من داخلها الحالة الجديدة "ما بعد ترامب"، ويمكن أن نوجز تلك المعضلة في سببين فقط:

السبب الأول الذي يضمن فشل هذا المشروع هو مفهوم "العائلة"، يتحدث بانون عن عائلته وعن جده وأبيه وذكريات عائلته في مدينة ريتشموند في ولاية فيرجينيا، ويتحدث عن شركة الهواتف AT&T والتي عمل فيها جده ومن بعده والده منذ عشرينات القرن الماضي لأكثر من 50 عاماً، ويتذكر كيف قامت تلك الشركة بحماية عائلته عند كل أزمة اقتصادية، سواء مع الكساد الكبير او في الثمانينات، وحتى فشلها في فعل ذلك عام 2008، كانت الشركة توفر عددًا من الأسهم لكل عمالها من أجل تأمينهم ماديًّا بالإضافة للخدمات الصحية وغيرها، وهي الخدمات التي ساعدت على وجود عائلة أمريكية من الأساس، ليأتي تصور العائلة الأميركية في مقدمة أولويات بانون والمشروع الشعبوي، الذي يستهدف إحياء تراث العائلة النووية التي توشك على الاندثار في أمريكا.

جاءت العديد من العائلات الممتدة إلى الولايات المتحدة في بدايات القرن العشرين، مهاجرةً من أوروبا وظروفها القاسية، لتبدأ في تأسيس اقتصادها العائلي أو العمل في الشركات الأميركية الصاعدة، ليتحول الشكل الكلاسيكي "العائلات الممتدة" Extended Families تدريجيًّا إلى شكلٍ أخر هو الأسر النووية الصغيرة.

 فعلى امتداد العقود الثلاثة السعيدة (الخمسينيات والستينيات والسبعينيات) تربي 72% من الأميركيين مع والديهم في أسر نووية Nuclear Families تربطها روابط وشبكات اجتماعية في الأحياء السكنية أو من خلال التجمعات الدينية والعمالية. ومنذ السبعينيات بدأت ظروف تلك الأسر في التغير، فالأزمة الاقتصادية استدعت تفكيك الصناعة في أمريكا ونقلها إلى مناطق أخرى من العالم، ومع تمرد الأبناء على آبائهم والسياق الاجتماعي الذي تربوا فيه ومطالبتهم بمساحات أوسع للحريات الفردية والسياسية، أخذت العائلات الصغيرة في التحلل تدريجيًّا، بزيادة معدلات الطلاق وانهيار نموذج الأب المُربي الذي يعول أسرة كاملة، لينتهي شكل العائلة الأميركية التقليدية "الاسرة النووية" وتظهر أشكال أخرى شديدة التنوع اليوم.

يعتقد بانون واليمين الشعبوي، أن استعادة الصناعة تُمكنه أن يستعيد العائلة الأميركية التقليدية التي عاشت العقود الثلاثة وازدهرت، لكن الحقيقة أن تلك الرغبة تبدو أشبه بنوستالجيا رجل كبير في السن، لا يستطيع أن يدرك أن الاقتصاد الأميركي الخدمي هو الأقوى في العالم اليوم بأرباح تعادل التريليون دولار، ولا يستطيع أن يدرك أن العائلة التقليدية هي حدث عابر في التاريخ الأميركي وتاريخ الاجتماع البشري ولا يمكن السير عكس التاريخ.

والسبب الثاني في منطق ستيف بانون كما عند ساندرس؛ هي مشكلة ال1% الذين يمتلكون كل شيء، وبواسطتهم تحولت الرأسمالية لتأخذ شكل الإقطاعية Feudalism، سواء كانت تكنولوجية كما يروج اليسار الشعبوي أو مالية كما يروج اليمين الشعبوي، لتنحصر المشكلة كلها في فئة معينة تحتكر السلطة والمال وتتسبب في كل تلك المعاناة، وهو ما يذكرنا بشكل الخطابات السياسية في بدايات القرن الماضي، والتي رفعها الفاشيون الإيطاليون والنازيون الألمان وحتى الإنجليز والأمريكان، واتهمت اليهود وقتها بأنهم فئة ال1% التي تحتكر السلطة والمال، أي أن الخطاب الشعبوي الذي يستهدف فئة بعينها (حتى لو لم يحددها) ويعلق عليها كل المشاكل، لن يكون سوى ترس في ماكينة نظام اقتصادي عالمي يعيد إنتاج نفس المشكلة نفسها كل مرة، ويستخدم العنف والصراع السياسي والحروب لإعادة هيكلة نفسه لصالح منتفعين جدد، أي أنه دون تشخيص حقيقي لهذا النظام وميكانيزماته، ومن ثم تغييرها، سيصبح قدرنا أن نحيا لأجيال قادمة في أزمات اقتصادية دورية وحروب ونزاعات ومستفيدين وخاسرين.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

أشكال الجنس والزواج عند العرب.. الغريزة تحت الوصاية

تاريخ مشتبك من أشكال الزواج والعلاقات الجنسية وتحوُّلاتها عند العرب، في الجاهلية وبعد الإسلام، وصولًا إلى العصر الحديث

2

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

3

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

4

لقد تقاسموا العالم.. أغنية حزينة عن ماما أفريكا

تاريخ إفريقيا في العصر الحديث هو تاريخ نهب ثرواتها، يرصد هذا المقال مأساة إفريقيا منذ عهد جيوش الاستعمار إلى عهد الشركات العملاقة

5

من الأنقاض إلى الخوارزميات.. سوريا تعيد بناء ذاتها رقميًا

تمثل البيانات الضخمة فرصة، إذا واتتها الظروف التقنية واللوجستية المناسبة، لإنجاز كثير من المهام الكبرى في مرحلة إعادة إعمار سوريا، وإزالة آثار عقد ونصف من الحرب والشتات

اقرأ/ي أيضًا

تتقاطع صور الحريم التي صوّرها الفنّانون المستشرقون مع خطابات التحرير المعاصرة

من الحريم إلى خطاب الإنقاذ.. تشريح الاستشراق الجنسي

انطلق الاستشراق الجنسي مع الحركة الرومانسية، وتجلّى في لوحات المستشرقين التي رسمت جسد المرأة الشرقية كرمز للفتنة والخضوع، ثم تحوّل التخيل إلى أداة استعمارية، عبر خطاب "إنقاذ المرأة المسلمة"

إسراء عرفات

ليبيا
ليبيا

حقوق الإنسان في ليبيا.. سنوات الإفلات من العقاب وجرائم بلا محاسبة

من سجون طرابلس السرية إلى مقابر ترهونة الجماعية، ومن مراكز احتجاز المهاجرين، نسجت ليبيا، خلال السنوات الخمس الماضية، واحدة من أكثر سرديات العنف والإفلات من العقاب قتامة في العالم المعاصر

خالد الورتاني

اليمن

الخاص والمشترك في تجارب وأحوال الأمم

تنْبع الأخطاء المعرفية وما ينجرّ عنها من مخاطر ومفاسد عامة عن وضع ظواهر وحوادث مختلفة بالنوع والزمان والمكان في لائحة تفسيرية واحدة والتعامل معها معرفيًا وكأنها الشيء نفسه وجودًا وعدما، كمًّا وكيفا.

محمد العلائي

الاستبداد

تحولات نظام الاستبداد في المجال العربي

من طريف سجالات الصراع بين عبد الناصر والإخوان أنّه كان يتهمهم بالعمالة لبريطانيا، في حين كانوا يصرّون على اعتباره رجل الولايات المتحدة

زهير إسماعيل

الكرامة الحمصي

محمد قويض.. الكرامة في ملعب الدكتاتورية

قدّم محمد قويض أبو شاكر نموذجًا مناقضا لما واظبت السلطة على ترويجه وشكّل تفنيدًا صريحا لسرديتها وتهديدًا لسلامة مفهومها حول السلم الأهلي

حيان الغربي

المزيد من الكاتب

مصطفى هشام

كاتب مصري

العزوبية الاضطرارية: كيف يصبح المحرومون من الجنس مصدرًا جديدًا للإرهاب؟

من هم الإنسيلز حقًا؟ متى بدأت هذه المجموعات نشاطها؟ ولماذا تنشط على الإنترنت تحديدًا؟ وما هي الأسباب الاجتماعية والاقتصادية التي ولدت تلك المجموعات التي تتبنى وجهة نظر عدوانية تجاه النساء حصرًا؟

أزمات أكثر أطفال أقل: كيف تشكل معدلات المواليد المنخفضة المستقبل؟

يهدِّد انخفاض معدلات المواليد مستقبل البشرية أكثر مما تفعل التغيّرات المناخية

الاستراتيجية الأميريكية مع روسيا.. هل خلقت عدوًا مُتخيّلًا؟

بدأت الحرب الباردة الثانية بعد احتلال جزيرة القرم، والتي أخذت في التطور بدعم رموز اليمين المتطرف في أوروبا والذي يسعى إلى هدم الاتحاد الأوروبي والخروج من الناتو

تيلور سويفت والاقتصاد العاطفي: كيف تعيد الموسيقى إنعاش المدن

في أعقاب وباء كوفيد ونتيجة للإغلاقات، تعرض الاقتصاد العالمي وخصوصًا الأميركي، إلى حالة شديد من الركود، انهارت على إثرها أسواق البورصة والأصول العالمية