يحتفل الوسط الثقافي العربي هذا العام بتسعينية الشاعر الكبير أحمد عبد المعطي حجازي، الذي وُلد في مثل هذا الشهر، وتحديدًا في الرابع عشر من حزيران/يونيه عام 1935 بمدينة تلا بمحافظة المنوفية شمال مصر، وعرَفَ طريقَهُ إلى الشعر مُبكّرًا ليُصبحَ واحدًا من الآباء المؤسسين لأول تطور نوعي في شكل القصيدة العربية، وهو ما أُطلق عليه "قصيدة التفعيلة"، وعُرف في حينه بالشعر الحُر.
متزامنًا مع بدر شاكر السياب (1926-1964) وعبد الوهاب البياتي (1926-1999) ونازك الملائكة (1923-2007)، وبصُحبة صلاح عبد الصبور (1931-1981) خاض حجازي الموجةَ الأولى في بحر الشعر العربي الحديث، موجة الانفكاك من البحر، التي شكلت وجهَ الشعر العربي لنحو نصف قرنٍ لاحق، وما زال حضورُ الشكل الشعري الذي أنتجته أساسيًّا إلى اليوم.
نشر حجازي قصيدته الأولى "بكاء الأبد" عام 1955 بمجلة "الرسالة الجديدة"، وتتابعَت بعدها قصائده على صفحات عديد من الدوريات، وعلى رأسها مجلة "الآداب" اللبنانية، لتنشر له دار الآداب ديوانه الأول "مدينة بلا قلب" عام 1959، ثم تتوالى بعده دواوينه "أوراس" 1959، "لم يبق إلا الاعتراف" 1965، "مرثية العمر الجميل" 1972، "كائنات مملكة الليل" 1979، "أشجار الأسمنت" 1989، وأخيرًا "طلل الوقت" 2011.
سبعة دواوين، ربما كانت عددًا قليلًا لشاعر جاوزت تجربته في الكتابة سبعين عامًا، خاصةً حين نلاحظ المسافات الزمنية الطويلة بين ديوان وآخر، تلك المسافات التي لم ينقطع فيها عن الإنتاج، فقد انشغل منذ مطلع السبعينيات بإصدار عدد كبير من الكتب النقدية والفكرية، واشتبك في معارك عديدة، وظل لعقودٍ يكتب مقاله الأسبوعي في "الأهرام" العريقة، ليُنتج لنا ثروةً منوعة من الإبداع الشعري والنقدي والفكري، لم يُتح تَنوُّعها لكثير من الشعراء الذين كانوا أغزر منه إنتاجًا للشعر.
حضورٌ شعري مؤسِّس
قطع حجازي بالشعر شوطًا مهمًّا من لغة المعجم إلى لغة الحياة اليومية، نستطيع تبيُّنَ أثرِه منذ ديوانه الأول، الذي تسيح فيه قصيدته في الشارع القاهري مُلتحمةً بأهله وزحامه:
"يا عمُّ..
مِن أين الطريقْ؟
أين طريق "السيدةْ"؟
-أيمِنْ قليلًا ثم أيسِر يا بُنيّ
قال ولم ينظُر إليّ
وسِرتُ يا ليلَ المدينةْ
أرقرقُ الآهَ الحزينةْ
أجرُّ ساقي المُجهدةْ
للسيدة!"
كما كانت عدستُهُ قادرةً على التقاط كثير من أدق النظرات الشعرية وأرقّها، وصوغها في عبارات رشيقة حاسمة تَعبر بها الزمنَ لتحضر في الشعور الإنساني في كل وقت ويرددها كل جيل، كما فعل مطلعُ قصيدته الشهيرة "مرثية لاعب سيرك":
"في العالمِ المملوء أخطاءَ
مُطالَبٌ وحدكَ ألّا تُخطئا
لأنّ جسمَك النحيلْ
لو مرةً أسرعَ أو أبطأَ
هوى وغطى الأرض أشلاءَ!"
إذ تجاوزَت عبارتا المطلع حالةَ لاعب السيرك، ليُحسّ بهما كلُّ إنسانٍ في هذه الحياة، يرى العالم كلَّه يُطالبُه ألا يُخطئ، ويُحاكمه إن أخطأ. ولا يجد مما تراكم حوله مِن عمل الآخرين إلا الأخطاءَ والثغرات والعثرات التي تجعل حياته أصعب، وتجُرُّه إلى الخطأ مهما تحرّى عدم الوقوع فيه واحتاط لنفسه، لأنّ كثيرًا من أخطائنا وليدةُ تراكم أخطاء السابقين.
ويختصر قصةَ الحياة في قصيدته "طردية"، التي نجد فيها صورةَ كل إنسان يضيع عمره وهو يحاول الإمساك بهدفه من الحياة:
"هو الربيعُ كان واليومُ أحدْ
وليس في المدينة التي خلَت
وفاح عطرُها سوايَ
قلتُ أصطاد القطا
كان القطا يتبعني مِن بلدٍ إلى بلدْ
يحطُّ في حُلمي ويشدو
فإذا قمتُ شرَدْ"
حتى يصل في أواخرها إلى لحظة اكتشاف العُمر الضائع، والغُربة الأبدية التي يغتربها الإنسان عن نفسه الأولى:
"صوبتُ نحوَهُ نهاري كُلَّهُ
ولم أصِدْ
..
ومُذ خرجتُ من بلادي.. لم أعُدْ"
حضور حجازي المؤسِّس تجاوز العينَ إلى الأثر، فتسربَت تقنياته في الكتابة إلى كثير من الأجيال اللاحقة من الشعراء، ومنها أسماء رُبما فاقته نجوميةً وحضورًا، مثل أمل دنقل (1940-1983)، الذي سرعان ما نلتقط عنده كثيرًا من آثار حجازي، حتى على مستوى الشكل الشعري، كالارتكان إلى تفعيلة الرجَز (مستفعلُن) والإكثار من الكتابة عليها، والعناية بالقافية والإتيان بها واضحةً صارمة، مفاجِئةً ومنطقيَّةً في آن.
ولا شك أن أمل دنقل كان صاحب تجربةٍ متحققة متينة ومتفردة الحضور في تاريخ الشعر العربي الحديث، لكن رُبما يُذكرنا حضوره هنا بعوامل قدَرية لعبَت دورها الحاسم في تثبيت نجومية بعض الشعراء الكبار في الواجهة، فدائمًا ما كان الموت المبكر سبيلًا إلى الخلود، ومُضاعِفًا لوهج الحضور، فيما كان طولُ البقاء مُشبِعًا حدّ التزهيد، قاتلًا للفضول مُثبِّطًا للرغبة في تتبُّع الآثار. ولا شك أن الموت المبكر قد ضاعف من حضور بدر شاكر السياب وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل، واجتمع للأخير مع الموت المبكر بطولة الرفض عبر موقفه الشهير في "لا تصالح"، ورحلتُه المرَضية المُشجية التي أنتجَت واحدةً مِن أعظم تجارب الشعرية الحديثة وأشفِّها في "أوراق الغرفة رقم 8"، فيما بقي حجازي يحقق حضوره الهادئ عبر كثير من الكتابات والمساجلات النقدية والفكرية، وبعض الشعر الذي يغيب خلفها حينًا ثم يعود إلى الواجهة، لأنّ الشاعر لا يستطيع أن يستغني عن الشعر بأي ضربٍ آخر من الكتابة، مهما امتلك القدرة عليه، ودعَته المناسبة إليه.
ومما هو جدير بالذكر عن حجازي الشاعر، أنه أحد أفضل الشعراء إلقاءً في العصر الحديث، ولديه قدرة باذخة على امتلاك الحضور بصوتٍ متينٍ مَهيب، يُحسن إدارته صعودًا وهبوطًا، وانفعالًا وهدوءًا، وصولًا إلى وقفاتٍ صارمةٍ قاطعة، اجتمع إليها في شيخوخته توقيعُهُ في بعض المواضع بعُكازته التي يُلقي متوكِّئًا عليها، فإذا بلغ القافيةَ ضربَ بها الأرض فرَنّت في آذان الحضور كالنقطة في ختام الجُملة.
معركة مع القديم.. وأخرى مع الجديد
حفلت مسيرة حجازي بالمطارحات والمعارك على الصعيدين الأدبي والفكري، وكان في صدارتها معركة شهيرة خاضها في سنوات شبابه مع الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد (1889-1964) الذي كان يمثل في هذا الوقت -مع طه حسين- قمة هرم الثقافة المصرية.
رفض العقاد قصيدة التفعيلة، ورآها نثرًا، وهاجمها بقسوة في مقالاته وفي لقائه التلفزيوني الوحيد الشهير. وحين كان مقرر لجنة الشعر بالمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب، تقدم عبد الصبور وحجازي إلى مسابقات اللجنة بقصائدهما فرفضها وأحالها إلى لجنة النثر!
ثم بلغت المعركة ذروتها حين سافر الشاعران -دون علم العقاد- إلى دمشق للمشاركة في مهرجان الشعر عام 1961، وحين علم العقاد ثارت ثائرته على يوسف السباعي سكرتير عام المجلس، وهدده بالاستقالة من لجنة الشعر ومن المجلس إن سُمح لحجازي وعبد الصبور بإلقاء قصائدهما في المهرجان.
ورضخ المجلس للعقاد بما يمثله من قيمة وتاريخ، ورجع الشاعران دون أن يلقيا شِعرهما، فرسّخت هذه الواقعة في نفس حجازي غضبًا شديدًا على العقاد، سرعان ما تَفجّرَ شِعرًا.
وإمعانًا في التحدي قرر حجازي أن يهجوَ العقاد بذات النمط الذي تَعصب له من الشعر، ليقول له بلسان الغضب: إننا لسنا عاجزين عنه، وإننا أقدرُ منك عليه، وإننا نكتبه حين نشاء لا حين تشاء أنت.
"مِن أي بحرٍ عصيِّ الريح تطلبُهُ
إن كنتَ تبكي عليه نحنُ نكتبُهُ
يا مَن يُحدِّث في كل الأمور ولا
يكاد يُحسن أمرًا أو يُقرّبُهُ
أقول فيك هجائي وهو أولُهُ
وأنت آخرُ مهجوٍّ وأنسبُهُ
تعيش في عصرنا ضيفًا وتشتمنا
أنّا بإيقاعنا نشدو ونُطربُهُ!"
خرجت أبيات القصيدة قذائف من الهجاء العنيف، عنفًا دفع بها إلى صراحة مسّت ما يمكن أن يُنتقد به العقاد فعلًا، كـ "تحديثه في كل الأمور"، وكونه في آخر عمره ضيفًا على عصر هذا الشباب الثائر.
ثم يزهو حجازي بقُدرته على كتابة الشعر على البحر، كالذي يغيظ العقادَ ويقول له انظر ما نقدر عليه، بل كالذي يُعرّض بشعرية العقاد التي ظلت دومًا مثار جدل:
"هذا هو البحرُ إن مسّته ريشتُنا
صفا لنا أفقُه وامتدّ مسربُهُ"
ثم يغيظه مرةً ثانية حين ينتزعه منه ويستأثر بامتلاكه دونه:
"أبناؤه نحنُ أعطانا ويُسعدُهُ
أنّا بهذا الذي أعطى سنَغلبُهُ"
حملت هذه المعركة مفارقة مثيرة للعجب، لأن العقاد قبلها بأربعين سنةً كان فارسَ التجديد وثائرَه الأكبر، وكان يشنّ حملات شعواء على أدباء عصره الكلاسيكيين، وعلى رأسهم شوقي الذي هاجمه في مقالاته هجومًا بلغ حد الهجاء والتطاول، وكأنّ الزمن اقتصّ لشوقي حين وضعَ حجازي في طريقه في آخر عمره يُذيقه ما أذاق شوقي في بداياته.
لكنّ حجازي -على ضراوة هجائه- كان مظلومًا يُدافع عن حقه في الإبداع الذي يُحب، أمام سلطة الإقصاء التي مثّلها العقاد، ولم يكن العقاد كذلك في هجومه على شوقي.
المفارقة الأعجب أن حجازي في شيخوخته سيكون طرفًا في معركة شبيهة مع تيار شعري أحدث، هو تيار "قصيدة النثر"، لكنّ النضج وطبيعةَ العصر حتّما على هذه المعركة لغةً مختلفةً، يغلب عليها الجدل النقدي.
رفض حجازي قصيدة النثر من وجهة نظر فنية، لكنه لم يبلغ في خصومته معها ما بلغه العقاد مع قصيدة التفعيلة، فكثيرًا ما نُشرت "قصائد نثر" في مجلة "إبداع" حين كان حجازي رئيسًا لتحريرها. لكنه لم ينقطع عن حِجاج أصحابها نقديًّا ومعرفيًّا، وبلغ هذا الحِجاج ذروته مع إصداره كتاب "قصيدة النثر.. أو القصيدة الخرساء" الذي نشرته مجلة دبي الثقافية عام 2008، واستهدف هجومه هذا الشكل الجديد عبرَ ثلاثةِ محاور:
أولها التأكيد على أهمية الوزن في تكوين الشعر، وأنه ليس مجرد حليةٍ شكلية، بل عنصر يشترك مع المعنى في مهمة الدلالة، لأنّ لغة الشعر انفعالية، والوزن والإيقاع أداة تُنشئ الانفعال وتُغذيه. كما أنّ الوزن الذي يبدو في ظاهره قيدًا شكليًّا يقود الشاعر إلى تفجير طاقات اللغة من الألفاظ والتراكيب على نحو لا يقوده إليه الكلام العادي غير الموزون، من هُنا كان الوزن قانونًا جماليًّا لا عبئًا شكليًّا، وهو ما لم يُدركه أصحاب قصيدة النثر.
وثاني هذه المحاور عدم نضج قصيدة النثر، وعدم وصولها إلى شكل أدبي مستقرّ يمكن الاصطلاح عليه والتماشي معه، رغم ما أثارته من ضجيج في العقود الأخيرة. ويُعيّرها حجازي هُنا بأنها أقدم ظهورًا من قصيدة التفعيلة، فالمحاولات الأولى لكتابة "الشعر المنثور" خاضها نقولا فياض عام 1890، ثم خليل مطران عام 1906، بينما ظهرت التجارب الأولى من شعر التفعيلة في مطلع ثلاثينيات القرن العشرين، ومع ذلك كان نجاح التفعيلة أكبر، وبقي مُنجز النثر محدودًا.
أما المحور الثالث فكان طغيان قصيدة النثر، وعَنى به ما يتمتع به "كُتابها" مِن غرور وإقصاء، رغم ما يعانيه معظمهم مِن فقر في المعرفة اللغوية والأدبية، وفشل تجربتهم -في رأيه- حتى لحظة صدور الكتاب.
ويميل حجازي هنا إلى استعمال لغة صارمة في هجومه، فيقول إنّ "الخارجين على القانون ليسوا دائمًا ثوارًا، ورُبما كانوا قُطاع طُرق!" ويقول: "إنّ الثوار يخرجون على قانون ليُحلوا محله قانونًا آخر أكثر تعبيرًا عن الحاجة وأقدر على أداء الوظيفة، والآخرون -قُطاع الطرق- يخرجون على القانون، لأنهم خارجون على الجماعة ذاتها لايستطيعون العيش في ظل أي نظام".
ويقول في موضع آخر إن"قصيدة النثر تتغذى من ضرعين مسمومين، انهيار اللغة وتراجع الشعور بالانتماء". كما يتهم هذا التيار صراحة بتغريب الشعر عن المجتمع "الفرق واسع بين ثورة في الشعر تجعله أقرب إلى نفوسنا وأوفى بحاجاتنا، وثورة تجعله غريبًا بعيدًا عنا وتجعلنا غرباء عنه". كما هاجم بقسوة طغيانهم وصلفهم بقوله: "الجميع الآن يُسلمون لقصيدة النثر بحقها في أن تجرب نفسها وأن توجَد، والمشكلة أن أصحابها لا يكتفون بهذا الحق ولا يريدون أن يُعتبَروا مجرد محاولين أو مجربين، بل يريدون أن ينتزعوا من الجميع اعترافًا مسبقًا أو توقيعًا على بياض الورقة التي لم يكتبوا فيها قصيدتهم بعد بأنهم شعراء". ويُبدي حجازي غضبًا وأسًى كبيرين لمهرجان الشعر العربي الفرنسي الذي دُعي إليه في باريس، بوصفه من مؤسسيه، قُبيل صدور هذا الكتاب، إذ وجد أن جميع الشعراء العرب المشاركين -وعددهم ثلاثة عشر- كُتاب قصيدة نثر! ليقول أخيرًا: "أنا غاضب للشعر العربي الذي أعتقد أنه لم يُمثَّل في هذا المهرجان".
ولسنا في معرض الموازنة النقدية بين ما يقوله حجازي وما قاله خصومه، لكنّ السياق يُجبرنا على العجب، أنّ الرجل الذي خاض في شبابه إحدى أعنف المعارك ضد القديم، يخوض في شيخوخته إحدى أعنف المعارك ضد الجديد. وأصرح هنا أنّ ذوقي في مسألة "قصيدة النثر" ينحاز إلى صفّه، لأبرئ نفسي من تهمة الوقوف ضده حين أقول إن الإنسان في الغالب لا يستطيع أن يضطلع بدَوْرتين كاملتين من التجديد، وأنّ العمر -مهما طال- تكفيه دورة واحدة، حتى يهضم عصرًا سبق وعصرًا يأتي، ويعرفهما حق المعرفة.
الناقد والمفكر المشتبك
غيرَ بعيد عن الشعر أصدر حجازي عددًا كبيرًا من الكتب في نقده وقراءته، مثل "إبراهيم ناجي" و"خليل مطران" و"قصيدة لا" و"أحفاد شوقي" و"الشعر رفيقي" و"أسئلة الشعر"، كما أصدر كُتبًا فكرية مثل كتابه "محمد وهؤلاء.. دراسة في السيرة النبوية كما كتبها المعاصرون"، و"الدنيا والدين" و"الثقافة ليست بخير"، فضلًا عن مقالاته في "الأهرام" التي شهدت كثيرًا من إسهامه الفكري وجداله مع تيارات عديدة كانت التيارات الدينية في الصدارة منها.
لكننا سنتوقف هنا مع كتاب نرى أنه لم يأخذ حقه من الشهرة والقراءة، ألا وهو كتابه "عروبة مصر" أو بعنوانه المطول "رؤية حضارية طبقية لعروبة مصر.. دراسة ووثائق".
صدر الكتاب عن دار الآداب البيروتية في تشرين أول/أكتوبر 1979، ولا تخفى دلالة التاريخ، ففي هذا العام حدثت المقاطعة العربية لمصر ردًّا على اتفاقية كامب ديفيد، وأنتج هذا الفعل العنيف ردود أفعال عنيفة في مصر عبر أصواتٍ نادت بالاستغناء عن العرب، كما أوغلت بعض الدول العربية في شنّ هجوم عنيف على مصر في كل المنابر الدولية، حتى غير السياسية منها. وعاثت اضطرابات السياسةِ -مِن الجانبين- عبثًا في هُويةٍ جامعة راسخة لم تكن قبل سنوات قليلة محلّ شك أو جدل، وزَعَم دعاة الانسلاخ من القومية العربية أنها إرث عبد الناصر لا إرث مصر، هُنا رأى الشاعر المفكر المشتبك أنّ له كلمةً لا بد أن يقولها ولا بد لهم أن يسمعوها، فصدح بها عبر هذا الكتاب، هادئةً صارمةً كإلقائه للشعر تمامًا.
"هذه الدراسة ليست محاولة في إثبات عروبة مصر، فعروبة مصر ليست شيئًا منفصلًا عن مصر، إنها مصر ذاتُها، فليس ينكرها إلا عدو أو خادم له، أو صفيق لا يستحي من إنكار الواقع الماثل". بعبارات كهذه يحسم الأمر مبكرًا، وكذلك يفعل وهو يقول: "وقد آن أوان الخروج من أحابيل هذه المُناظرة الخبيثة: مصريون أم عرب؟ فليس هناك عربي لا ينتمي لقُطر بالذات مِن أقطار الوطن العربي، وما دمنا مصريين فنحن عرب".
"الذين يعيشون مِن كدّهم وعرَق جبينهم ويدركون أنّ حياة أبنائهم متوقفة على تحرر بلادهم وتقدمها يرون أن أعداء مصر هم الاستعماريون والصهيونيون والرجعيون، وهم ذاتهم أعداء بقية الجماهير العربية. والذين ترتبط مصالحهم بمصالح الاستعمار والصهيونية والرجعية يقولون: بل إن أعداء مصر هم العرب. لكن هؤلاء لا يفصحون عن حقيقة وجوههم فينادون بالعودة صراحة إلى أحضان الاستعمار، وإنما يستترون تحت شعار مصر بعد أن يفرغوه من معناه الوطني الحق".
بهذه العبارات يُنهي حجازي القضية في المقدمة، أما في فصول الكتاب فيخوض بحثًا طويلًا في كون عروبة مصر تطورًا وتفاعلًا طبيعيًّا لمصر الفرعونية، ولا بد من الوقوف عند الجذور الطبيعية المشتركة التي حتمته وفرضته، لكنّ أهم ما في كتابه أنه يتتبع جذور فكرة القومية العربية/الوحدة العربية قبل عبد الناصر، بدءًا من محمد علي وابنه إبراهيم، اللذَيْن يرى أن فتوحاتهما في الجزيرة العربية كانت محاولة لوحدة عربية، مرورًا بعُمر مكرم ومحمود سامي البارودي والنديم وطلعت حرب ومكرم عبيد -القبطي الذي كان يقول: نحن عرب منذ الفراعنة- والمازني وزكي مبارك، وصولًا إلى أحمد حسين.
ليصل في النهاية إلى أن القومية العربية في مصر ليست صنيعة عبد الناصر، بل إن عبد الناصر هو النتيجة الطبيعية لتجذُّرها قبله بقرون وعقود.
ولئن كان الكتاب ابن سياقه التاريخي، فإنّ مادته تجدد حضورها مع كل سياق، خاصة مع انبعاث هذا الجدل كل حين لأسباب واهية. وتكتسب مادة الكتاب رونقها من تعدد مداخل الكلام في القضية، فبعض الذين تكلموا في عروبة مصر دخلوا من مدخل الأنساب والهجرات، وبعضهم من مدخل اللغة والثقافة، وبعضهم من مدخل السياسة والمصير المشترك، ويمتاز هذا الكتاب بتجذير فكرة القومية العربية في مصر قبل الحقبة الناصرية، لتجعل كلُّ هذه المداخل مِن محاولات إنكار عروبة مصر عبثًا لا طائل منه، وجهدًا ضائعًا يولد ويموت لوقته.
ومِثلَ هذا الكتاب، ربما كان كثير من كتب حجازي بحاجة إلى وقفة مطولة، تمنح الرجلَ حقه من القراءة وتمنح فكره حقه من التأمل، كما أنّ شعرَهُ كان وما زال يستحق كثيرًا من القراءة والدراسة والبحث عن أثره في اللاحقين، الذين طغت نجوميتهم عليه أحيانًا.
وفي التسعين، ما زال حجازي حاضرًا فاعلًا في الثقافة العربية، عبر صالونه الذي يقيمه بيت الشعر العربي بالقاهرة، وعبر كثير من المنابر واللقاءات التي يُدعى إليها، وما زال شعرُه ونقده وفكرُه أشدّ حضورًا وأدعى لقراءات جديدة، وكتابات عديدة.