"رغمًا عن أنف الإرهاب والإجرام، الفلسطينيون باقون هنا، صامدون أمام جلاديهم، يجسّدون المقاومة البطولية لفلسطين، ويثبتون لكل بنغريون أن فلسطين لن تعيش فحسب، بل ستنتصر". هكذا عبّر المناضل الثوري اللبناني جورج عبد الله، في أحد تسجيلاته الصوتية النادرة من داخل معتقله بسجن لانميزان جنوب غرب فرنسا، ومن كلماته اقتبس شعار أحد أكبر المجموعات المناصرة لفلسطين في فرنسا، وأكثرها نشاطًا؛ مجموعة "فلسطين ستنتصر" التي تواجه حظرًا من السلطة.
علاوة عن كل هذا، وفي معظم المظاهرات المناصرة للقضية الفلسطينية التي شهدتها باريس، أو مدن فرنسا الأخرى، كان وجه جورج عبد الله حاضرًا بشكلٍ دائمٍ، مرفقًا بشعارات تُطالب بإطلاق سراحه، فيما يُحيل عن الارتباط الكبير بين الرجل ومظلوميته، بمظلومية الشعب الفلسطيني في مخيال الفرنسيين؛ حيث لا تزال السلطات الفرنسية، مستجيبة للضغوطات الأميركية والإسرائيلية؛ مستمرة في احتجازها للمناضل اللبناني بالرغم من انقضاء محكوميته وحقّه في السراح المشروط، ومنذ 1999، تقدّمت هيئة دفاع عبد الله بـ 10 طلبات إطلاق سراح لموكلها، آخرها شهر تشرين الثاني/نوفمبر، غير أن النيابة العامّة طعنت في الطلب، وأجلّت المحكمة البث بقرار نهائي إلى الـ 19 حزيران/ يونيو.
"أنا مقاتل ولست مجرم"
وُلد جورج إبراهيم عبد الله عام 1951 لأسرة مارونية في قضاء عكار، وكان من المفترض أن يُكمل حياته مدرسًا عقب تخرجه من دار المعلمين في الأشرفية عام 1970، غير أن انخراطه السياسي في صفوف اليسار القومي مذ كان عمره لا يتعدى الـ 15 عامًا، وبعدها دفعه في الحركة الماركسية الأممية،إخلاصه للنضال في سبيل نصرة المقهورين في بلده، وفي فلسطين التي اغتصب أرضها الاحتلال الصهيوني.
وفي عام 1975، أتت الحرب الأهلية اللبنانية لتؤكّد هذا التوجه النضالي لدى جورج عبد الله، حيث انظم خلالها إلى الحركة الوطنية اللبنانية، وهي تحالف القوى القومية والسيارية المسلحة اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تقاتل في تلك الحرب. وسجل جورج حضوره في جبهات مقاومة الاجتياح الإسرائيلي للبنان وقتها، وفي عام 1978 أصيب بجروح خلال مواجهات في جنوب البلاد. لينتهي الأمر به منتسبًا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، عام 1980، حيث كان قريبًا من زعيم الحزب وحكيم الثورة الفلسطينية جورج حبش وقيادات أخرى.
وفي نفس العام، كان طرفًا في تأسيس فصيلٍ مسلّحٍ ماركسي أممي مناهض للإمبريالية، تحت اسم "الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية"، إذ نشط في تنفيذ اغتيالات لشخصيات إسرائيلية وغربية في الخارج، خاصّة في فرنسا، وكان نشاطه وقتئذٍ تحت أسماء مستعارة منها "صالح المصري"، "عبد القادر" أو "عبد القادر سعدي". وعن هذه الفترة، يحكي أحد رفاق في "الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية"، في مقال على موقع "الجزيرة" نشر عام 2009، قائلًا: "أزمة الشباب خلال مراحل الحرب الأهلية اللبنانية دفعت عديدين منهم للبحث عن مجالات نضال سياسي يعبر عن تطلعاتهم، فكانت الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية".
وأضاف المصدر نفسه: "توجهنا إلى العمل الخارجي تحت الشعار الذي أطلقه القائد الفلسطيني وديع حداد (وراء العدو في كل مكان)، فنفذت الفصائل عدة عمليات في أوروبا، وتمكنت الأجهزة الأمنية الفرنسية من كشف بعض أعضاء المجموعة، واعتقلت جورج". وفي هذا السياق، نسبت للفصيل الثوري اللبناني عددًا من التصفيات السياسية، أبرزها نائب الملحق العسكري في السفارة الأميركية بفرنسا، ويعقوب بارسيمانتوف، المستشار الثاني في السفارة الإسرائيلية في باريس. كما تبنى خمس هجمات في أوروبا بين عامي 1981 و1982.
مقاتلٌ ولست مجرمًا
في الـ 24 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1984، أُلقي القبض لأوّل مرّة على جورج عبد الله في مدينة ليون الفرنسية، وكانت التُهمة الموجّهة إليه حمل وثائق هوّية مزوّرة. ويحكي إيف بونيه، المدير السابق لمديرية مراقبة الأراضي (وكالة الاستخبارات الداخلية الفرنسية)، عن هذه الحادثة بالقول: "أثناء إقامته في جنيف، ذهب عبد الله إلى ليون لجمع وديعة تأمين لشقة (...) وعلى الرغم من أن الأمر قد يبدو غير قابل للتصديق، إلا أن عبد الله ذهب إلى مركز للشرطة من تلقاء نفسه، طلبًا للحماية من ملاحقة عملاء الموساد له".
وخلال عمليات التفتيش، اكتشفت الشرطة الفرنسية أنه يحمل جواز سفر جزائري مزوّر باسم عبد القادر سعدي، فقامت باعتقاله؛ ويوضح بونيه: "لقد انتهى بنا الأمر إلى كشف هويته بمساعدة الأجهزة الجزائرية وبعض الأصدقاء الفلسطينيين الذين كانت لهم علاقات جيدة مع أجهزة مكافحة التجسس الفرنسية (...) لقد كنا نعلم أنه عضو مهم في الفصائل المسلحة الثورية اللبنانية، لأنه كان مطاردًا من قبل العديد من أجهزة الاستخبارات الأوروبية، خاصّة وأنه كان يتردد على الحركات المتطرفة العنيفة مثل (Action Directe) في فرنسا و(Red Brigades)في إيطاليا".
وتشير مذكرة من إدارته بتاريخ 7 أبريل/نيسان 1982 إلى أن عبد الله كان صديقًا مقربًا لإلييتش راميريز سانشيز الملقلب بـ "كارلوس الثعلب" الذي كان ملاحقًا دوليًا في ذلك الوقت.
هذا وكان يُفترض أن يُفرج على عبد الله، في إطار صفقة تبادل أسرى بين السلطات الفرنسية والفصائل الثورية اللبنانية، مقابل إطلاق سراح مدير المركز الثقافي الفرنسي بطرابلس جيل بيرول، الذي اختطف في آذار/مارس من السنة نفسها. غير أن الجانب الفرنسي أخلّ بالاتفاق، بدعوى وجود أدلةٍ جديدةٍ لتورط جورج عبد الله في اغتيال الدبولماسي الإسرائيلي والملحق العسكري الأميركي، وقالت السلطات الفرنسية وقتئذٍ إنها عثرت في شقة باريسية على السلاح الذي اغتيل به كلًا من راي وبارسيمانتوف عام 1982. هذا بالإضافة إلى 25 كيلوغرامًا من المتفجرات، وصواريخ، ورشاشات، وأسلحة أخرى.
أدين جورج عبد الله، بتهم حيازة أوراق ثبوتية مزوّرة، وتشكيل عصابة إجرامية وحيازة أسلحة دون ترخيص، وحُكم عليه بالسجن أربع سنوات، وأثناء محاكمته قال جملته الشهيرة: "أنا مقاتل، ولست مجرمًا". وفي عام 1987، أعيد عبد الله إلى القضاء، أمام محكمة خاصّة، في جلسات سرّية، وأدين للمرّة الثانية بالمشاركة في قتل راي وبارسيمانتوف، والشروع في قتل القنصل الأميركي لدى البرلمان الأوروبي روبيرت هوم عام 1984، وحكم عليه بأقصى العقوبات، أي بالسجن المؤبد.
وشابت محاكمة جورج عبد الله شبهات عدّة، أبرزها أنه تعرّض للخيانة من طرف أحد محاميه، جان بول مازورييه، الذي نجحت المخابرات الفرنسية في تجنيده لصالحها، لينقل كل ما أفضى به المتهم من أسرار، في خرق صريح لأعراف وضوابط مهنة المحاماة. وفي اعترافات له للإعلام الفرنسي، عام 1987، قال ميزورا: "لقد ارتكبت خيانة، لا في حقّ جورج عبد الله فقط، بل في حقّ مهنتي، مهنة المحاماة التي، مهما قلت ومهما فعلت، ستبقى المتراس الأخير الضامن لسيادة الحرية".
وبرر ميزورا خيانته موكّله، بأن عبد الله أفشى له عام 1984 بوجود مخطط عملية للضغط من أجل إطلاق سراح معتقلين سياسيين في فرنسا وإيطاليا وإسرائيل وألمانيا الغربية، ذلك "من أجل تنظيم أممي ثوري، هدفه ضرب مصالح الإمبريالية الدولية، وعلى رأسها فرنسا وإسرائيل والولايات المتحدة"، على حد زعمه. وبحسب ما نشرت جريدة ليبيراسيون الفرنسية، كان ميزورا يتلقى مبلغ ستة آلاف فرنكي فرنسي شهرياً لقاء تجسسه على عبد الله، وهو ما يعادل اليوم مبلغ 2000 يورو، وأكد المحامي: "كان بإمكاني أن أطلب عشرة أضعاف هذا المبلغ".
هذا بالإضافة إلى التدخل الأميركي والإسرائيلي الكبير في مجريات المحاكمة، وفي احتجاجه على الحكم أدان دفاع جورج عبد الله، المحامي الشهير جاك فيرجيس، اعتبار واشنطن طرفًا مدنيًا أثناء المحاكمة وحمّلها مسؤولية الأحكام الثقيلة التي صدرت في حقّ موكله. وكتب كلود كابانيس، الصحفي في مجلة "ليمانيتي"، بأن "واشنط انتصرت، تحت تصفيقات تل أبيب (...) إن محاكمة عبد الله، من أوّلها إلى آخرها، أديرت من قبل قوى أجنبية".
أقدم معتقل في أوروبا
حسب القانون الفرنسي، فإن الحكم بالمؤبد يستوجب قضاء المحكوم مدّة ما بين 18 و20 سنة في السجن، مع منحه إمكانية تقديم طلب إطلاق سراحه بعد انقضاء المدة. وهو ما يعني أن جورج عبد الله أنهى عقوبته السجنية في عام 1999، لكن إلى اليوم تستمر السلطات الفرنسية في إبقائه معتقلًا، في خرق لكل القواعد والقوانين الدولية. وبلغت طلبات الإفراج التي قدّمها جورج عبد الله 10، قوبلت 9 منها بالرفض، ويتماطل القضاء في قبول العاشر.
ويرجع متابعون للقضية تشبث السلطات الفرنسية بسجن جورج عبد الله، بإذعانها للضغوط الإسرائيلية والأمريكية في القضية. وفي تصريح سابق له، عام 2007، قال المحامي جاك فيرجيس، بأن رفض القضاء الفرنسي الإفراج عن موكله، "لا يعني فقط أن فرنسا فتاة خاضعة، بل هي عاهرة الأمريكيين". بالمقابل، أكّد إيف بونيه، المدير السابق لوكالة الاستخبارات الداخلية الفرنسية، بأن بلاده تعرضت ولا تزال تتعرض لضغوط أميركية وإسرائيلية كبيرة في قضية جورج عبد الله، وصرّح في عام 2011: "فرنسا تعرضت طوال هذه القضية لضغوط دبلوماسية هائلة لضمان بقاء الشخص الذي اغتال ليس دبلوماسيين، بل في الواقع عميل لوكالة المخابرات المركزية الأميركية وآخر للموساد، في السجن".
وفي عام 2024، تقدّم محامي جورج عبد الله بطلب إطلاق سراح مشروط لموكله، وأعطى قرار محكمة مكافحة الإرهاب، في الـ 15 تشرين الثاني/ نوفمبر، بصيص أمل في معانقة المعتقل أخيرًا الحرية، إذ أمرت بالإفراج عنه بشرط ترحيله إلى لبنان. هذا قبل أن تطعن النيابة العام في الحكم، وتعيد الملف إلى الاستئناف، هذه الأخيرة التي أرجأت، في جلستها يوم الـ 20 شباط/ فبراير الجاري، البث في الحكم لتاريخ 19 حزيران/ يونيو المقبل، حتى يتمكن المحكوم عليه من إبراز إثباتات على التعويض للأطراف المدنية (الأمريكية والإسرائيلية)، وهو ما كان يرفضه عبد الله حتى الآن.
وفي تصريحات سابقة لجريدة العربي الجديد، قال روبير عبد الله، شقيق جورج: "سبق أن مررنا بالخذلان، إذ خضعت فرنسا للأسف للتدخل الأميركي والصهيوني، إلا أننا نأمل هذه المرّة أن يستعيد القضاء الفرنسي شيئًا من استقلاليته". لافتًا إلى أنه "بعد 40 عامًا من الاعتقال، نتريث في وضع أنفسنا أمام الحقيقة الجديدة ونحاول تجنب الدخول بحالات شعورية حتى تتضح الأمور ويبنى على الشيء مقتضاه".












