قبل كل شيء، وقبل المقدمة نفسها، يسعدنا أن نخبركم بأنكم ستجدون هنا كل ما يرفض أهل القانون إخباركم به. وأننا لن نحدثكم عن وقائع تاريخية مسجلة وموثقة في مصادر معلومة، بل عن حكايات تروى بشكل متقطع في أروقة ومدارج كليّات شبه فارغة.
ما سنرويه لكم هنا يشبه أخبار الغيلان، والأمراء، والجواري، وخبايا القصور وغيرها مما يتناقله الحكواتيون في مقاهي القاهرة ودمشق وفداوى باب البحر في تونس القديمة. لكن مع فرق بسيط في المكان والرواة، ذلك أن حكاياتنا سمعناها من رجال ونساء يرتدون بدلات رسمية أنيقة، ويحملون ألقابًا رنانة تسبق أسماؤهم، أساتذة ودكاترة، في مدرجات وقاعات كليات زجاجية. إنها قصص موغلة في الشخصنة والعاطفة، رُويت لنا على نحو متقطع، وبدون تأكيد، وخارج سياق الدرس، ذلك أنها تنسف كثيرًا من فحوى تلك الدروس والنصوص القانونية وقيمتها وموضوعيتها.
في هذه المقالة، حاولنا جمع بعضها وسردها لكم للإمتاع وللتدبر، ولتأريخ ما لا يؤرخ من الأسباب اللاموضوعية لتشريع الأحكام وإلغائها طوال سنوات حكم الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة لدولة الاستقلال (1956 - 1987).
في بعض من علوم القانون، أو مقدمة لا بد منها
مع ظهور المدارس الوضعية في القانون وترسّخها أواخر القرن التاسع عشر، تمّلك رجال القانون هاجس فصل الأخير عن الفلسفي والأخلاقي والشخصي، وإضفاء صبغة عقلانية وضعية وموضوعية عليه، ليصبح القانون أداة عقلانية لتنظيم المجتمع من زاوية الوظيفة، وكذلك المصادر: التقنين الصادر عن سلطات متخصصة لسنّ القواعد.
لكن رغم كل هذا، ما زالت رواسب المثالية وما قبل الوضعية حاضرة، إذ لا زال الانقسام لدى جمهور الفقهاء واضحًا بين رأيين؛ يذهب الأول، وهو الموغل في المادية، إلى اعتبار أن القانون محكوم بالمذهب الحتمي، وخلاصته أن القانون "يعكس حقيقة العلاقات الاجتماعية"، أي أن القاعدة القانونية لا تظهر إلا لاحقة للمعطيات الاقتصادية والاجتماعية، ولا تأتي إلا لتنظيم ما هو موجود دون التصادم معه (محمد الشرفي وعلي المزغني، "مدخل لدراسة القانون").
وعلى النقيض من ذلك، نجد رأيًا آخر يتمذهب بالمذهب الإرادي، أي بالدور الفعال للقانون وقدرته على توجيه الواقع ومواكبته وحتى إحداث التغييرات فيه، ولطالما ضُرب المثال الأشهر على نجاعة ومصداقية هذا الرأي في مجلة الأحوال الشخصية التونسية، الصادرة في 13 آب/أغسطس 1956، بتوجيه ودعم لا محدود من زعيم الاستقلال الحبيب بورقيبة.
ما الذي يهمنا مما سبق وقد قُلنا في البداية إننا سنسرد حكايات لا علوم؟ ما ذكرناه سابقًا قد يفيد في تأويل ما سنسرده لاحقًا. فحكاياتنا، بكل طرافتها وغرائبيتها، مثال صارخ لا على الدور الإرادي للقانون في شكله المثالي، بل على مظاهره المزاجية وحتى الانتهازية في أوضح صورها.
هي أمثلة على قدرة صاحب السيادة على وضع القوانين وفقًا لنظرته الخاصة للعالم، بل وحتى مزاجه المتقلب، وكذلك نقضها. وفي المقابل، هي أيضًا أمثلة على قدرة الواقع والمجتمع على تكذيب الافتراض والنص القانوني وهجرانه متى ما تنافر مع مصالحه أو "حاجته الاجتماعية"، كما يقول الوضعانيون (ليون ديجي، "التطوّرات العامة للقانون الخاص منذ مجموعة نابليون").
الزعيم وتحرير المرأة .. على المقاس
"حوّاء هي التي أكلت أو اتهمت بالأكل من شجرة الدستور فظهرت سوأة الأحوال الشخصية أو هي قبلها سوأة الدستور السابق". هذه الجملة الموغلة في الإلغاز هي جزء من خطاب رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، الذي ألقاه بمناسبة عيد المرأة عام 2020، المناسبة الوطنية المخصصة لذكرى صدور مجلة "الأحوال الشخصية".
لا أحد يعلم حقًا ما يقصده الرئيس سعيّد وما يرمي إليه من وراء عباراته تلك: تعريض أم تقييم أم عبرة أم تمهيد! لكن ما لا يبدو خافيًا أن القصة القابعة وراء الرموز، هي قصة الحبيب بورقيبة وزوجته "الماجدة" وسيلة بن عمار.
لم تكن قصة زواج بورقيبة ووسيلة قصةً عادية على الإطلاق. كان تزاوجًا بين مصالح كبرى، ومصالحة بين تناقضات شتى، ومفتاحًا لسلطة مطلقة. وبعبارة أبسط للصحفي صافي سعيد: "تزوجا ليحكما معًا" (الصافي سعيد، "بورقيبة: سيرة شبه محرمة"). وقد حكما فعلًا لسنوات طويلة خاضا فيها معارك شرسة مع وزراء ومنظمات ودول وأحزاب وأصحاب؛ معارك كانت لوسيلة اليد الطولى فيها.
لكن الأيام والأحوال تتبدل. وكلما طعن الزعيم الهرم في السن أكثر، كلما تكاثرت الذئاب الطامعة في العرش أكثر، بينما وسيلة في قصرها تضرب الأول بالآخر، وزيرًا تلو الوزير، ورويدًا رويدًا بدأت تميل كفتها. في كانون الأول/ديسمبر 1983، اندلعت شرارة ثورة الخبز التي تفجرت بالكامل في كانون الثاني/يناير التالي، لتخسر وسيلة أولى معاركها، وينسحب بعض من أوثق رجالها من المشهد.
وفي حزيران/يونيو عام 1985، دخلت سعيدة ساسي، ابنة أخت الزعيم بورقيبة، اجتماعات قصر سقانس وقرطاج، وبدأت بسحب الغطاء بسلاسة من الماجدة المريضة.
لم تطل الأيام حتى تسارعت الأحداث: عُزَل الوزير الأول، واختارت وسيلة بحدسها المنفى أوائل 1986. وبعد أشهر قليلة، تقدّم الزعيم العجوز بطلب الطلاق من زوجته في المحكمة. وفي واحد من أسرع الأحكام القضائية في تاريخ الدولة التونسية، صدر الحكم بإيقاع الطلاق للضرر بين الحبيب بورقيبة ووسيلة بن عمار. وفي اليوم الموالي مباشرةً، نُفذ الحكم.
طلّق بورقيبة زوجته غيابيًا وسط جدل واسع. فهناك من يرون بأن الحكم لم يناقض الإجراءات القانونية ولا أحكام مجلة الأحوال الشخصية. بينما يقول آخرون إن الطلاق فيه من الكيد والمراوغة الكثير، إذ إن الضرر المزعوم ليس سوى اتهامات سياسية.
كما أن الادعاء بمغادرة الزوجة لمحل زوجيتها، أو ما يعرف بـ"النشوز" في فقه القضاء التونسي، لا يوجد أي سند قانوني له في مجلة الأحوال الشخصية، بل هو وسيلة ذكورية ابتدعتها المحاكم، أو استلهمتها من الموروث الفقهي القديم، لتكريس هيمنة الرجل وسلطانه على زوجته. عدا عن مدى شرعية الطلاق الغيابي من عدمه أصلًا في القانون التونسي.
لم تستأنف وسيلة الحكم الابتدائي؛ رضيت به، وقبلت بالمنفى وبانتهاء عهدها. وهناك، في الوطن، تندر كثيرون وتهامسوا سرًا عن الزعيم الذي منح المرأة الحق في الطلاق القضائي، ثم طلق زوجته على سنة الشرع وعادات الأولين. أو هكذا خيل لهم (الطاهر بوسمة، "ذكريات وال في الزمن البورقيبي".
"حق الهواء".. حين تسد منازل الفقراء نفس الماجدة!
"حق الهواء" هو أحد الحقوق الناتجة عن الممارسات العقارية السائدة منذ قرون، ومفاده الانتفاع بالهواء أو الفضاء الذي يعلو بناء قائم الذات. ومع صدور مجلة الحقوق العينية، وهو النص القانوني الأهم في المادة العقارية سنة 1965، تم تحجير التعامل بجملة من الحقوق العقارية بموجب الفصل 191، وعلى رأسها الإنزال والكردار وحق الهواء.
أغلب هذه الحقوق، التي أُلغيت رسميًا، يمكن بسهولة فهم مبررات إلغائها وخاصةً تلك التي تعود لممارسات عرفية فوضوية، أو للفقه الإسلامي قبل التقنين. وبالتالي، لم تعد منسجمة مع المنظومة العقارية الحديثة، خاصةً فيما يتعلق بالأحباس (الأوقاف)، والإنزال، والكردار (علي كحلون، "التعليق على مجلة الحقوق العينية)، والتي سرعان ما انقرضت كليًا قانونًا وممارسة.
في المقابل، بقي حق الهواء محل تساؤل من جهة، وتطبيق مضطرد على أرض الواقع، إذ لا تزال ممارسة بيع أو هبة الهواء شائعة لدى أغلب التونسيين، خاصةً في المدن الكبرى والأحياء "العربي"، أي تلك التي لا يغلب على معمارها أسلوب الشقق والعمارات السكنية أو الفيلات المترفة.
وتحت مسميات شتى، مثل "التفويت في العلو"، واصلت الشرائح الوسطى، خصوصًا، هذه الممارسة. بل إن المنظومة القانونية التونسية نفسها حافظت على بعض الأحكام المتعلقة بهذه الممارسة، من باب الإقرار الضمني بعدم قابلية الإلغاء الكلي لها. وهنا نتساءل كطلبة حقوق وقانون عن السبب إذًا وراء الإلغاء التشريعي لهذا الحق.
يرفع الأستاذ كتفيه، ويجيب ببرود: في مطلع الستينيات، في الأشهر الأولى من الزواج السعيد بين الزعيم بورقيبة والماجدة وسيلة، وفي واحدة من زياراتهما إلى المدينة العتيقة في تونس، تتقزز وسيلة من المنظر المزري للمنازل وغياب التناسق والجمالية بين الطابق الأرضي وما يعلوه في عدد منها. حينها، نظرت إلى لزوجها، زعيم الوطن والأمة، وطلبت منه إنهاء حالة القبح واللاجمال هذه!
حين تفشل الكتب والمجلات في تربية أبناء الأعيان
يمثل السن عاملًا بالغ التأثير في القانون الجزائي، خاصةً في تحديد المسؤولية الجزائية وانتفائها. لذلك، عرف سن الرشد الجزائي تطورات وتغيرات عدة على امتداد تاريخ تقنين هذه المادة في عدة مناسبات: 1913 و1950 و1955، وصولًا إلى القانون عدد 23 لسنة 1966، والذي أقر تخفيض سن الرشد الجزائي من 18 سنة إلى 16 سنة.
وقد جاء في شرح أسباب هذا القانون وهذا التخفيض أن "الطفل في هذا السن أصبح أكثر وعيًا وإدراكًا من سابقه باعتبار أن الكتب والمجلات غزت منازلنا". لكن المشرعون لم يستقروا على هذا الرأي طويلًا، إذ تم بموجب القانونين عدد 54 و55 لسنة 1982 التخلي عن هذا الخيار، والعودة من جديد لما كان سائدًا في السابق، أي تحديد سن الرشد بـ18 عامًا.
في مؤلفه عن القانون الجزائي - القسم العام - يقول الأستاذ مصطفى بن جعفر إن أسبابًا "سياسية"، ويضع كلمة سياسية بين معقفين، إضافةً إلى أخرى اجتماعية، كانت وراء هذا التعديل، دون أن يخوض في تفاصيلها. لكن في الكواليس، يردد رجال القانون ما مفاده أن جملة من المراهقين، من أبناء الأثرياء والأعيان، وخاصةً كوادر الدولة والسياسة، تورطوا آنذاك في سلسلة من الأعمال الإجرامية، مثل السرقة، والتعنيف، والاعتداء على محطات الوقود في الضواحي الشمالية للعاصمة، مما سبب صدمةً وإحراجًا كبيرين لآبائهم الذين كانوا إما داعمين أو مساهمين في التخفيض القانوني السابق، وهم أنفسهم الذين يفترض أنهم أكثر من وفر التربية والتعليم والترفيه الحديث لأبنائهم.
قد تتحدث صحف تلك الفترة اليومية عن بعض هذه الأحداث "المعزولة" في أقسام الجرائم، أو قد تهملها تبعًا للقب وانتماء المراهق الجانح المتسبب بها. لكن الأكيد هو أن الكثير من جانحي الطبقات الوسطى والدنيا مدينون بهذا "الإسعاف" لنظرائهم من أبناء القلة المترفين.
العقوبة على مقياس "الحجاج" للعقوبات
ماذا عن الاغتصاب؟ طبعًا لسنا هنا للحديث عن كل ما شاب هذه الجريمة في القانون التونسي، وما طرحته من تحديات وانتقادات بلغ أثرها تنقيح الفصل 227 من المجلة الجزائية سنة 2017.
لكننا سنتحدث عن مرحلة أسبق، تحديدًا عام 1985، تلك السنة التي سبق لنا أن تحدثنا عنها بوصفها آخر سنوات حكم الزعيم العجوز، وسنوات الاحتقان المجتمعي والأزمة الاقتصادية الخانقة، حيث كانت الدولة تعاني من "الآثار الجانبية" القاسية لعقد ونيف من سياسة الانفتاح الاقتصادي، والتي كانت السياحة أحد أبرز معالمها.
وفي خضم كل هذا، تأتي الأخبار من واحات جهة قابس في الجنوب الشرقي، حاملةً معها نبأ قتل سائحة أجنبية بعد اغتصابها في إحدى الواحات. يستشيط الزعيم العجوز غضبًا بعد أن أصبحت سمعة بلاده على المحك. وبجرّة قلم، يأمر بتنقيح المجلة الجزائية، فترتفع عقوبة الاغتصاب، بموجب القانون عدد 9 لسنة 1985، من السجن لبضع سنوات سجن إلى الإعدام شنقًا. تلقت المحاكم والرأي العام هذا القرار بصدمة، وسرعان ما بدأت تصدر الأحكام بعنف وقسوة (عبدالله الأحمدي، "القانون الجزائي الخاص").
مرةً أخرى، هذا ما سمعناه يُروى لنا. نعود إلى بعض المراجع الأكاديمية فنجد أن الأستاذ الأحمدي يشير لمامًا إلى هذا دون تحليل. يحدثنا عن "حوادث جدت في البلاد" و"أحكام قاسية" دون تفسير، لكنه على الأقل ينقد ولو ضمنيًا ارتجالية هذه العقوبة وغياب التناسب بينها وبين الفعل المجرم، بل وحتى غياب نفعها على الواقع.
شبه خاتمة لقصة لم تكتمل
هي أربع حكايا اخترناها من بين توليفة أكبر يرددها الكثيرون في مدارج كليات الحقوق ومشاربها. بعضها قد يصح وبعضها الآخر لا. حاولنا أن نقارن بعضها بما يرد في الكتب الأكاديمية والعلمية، فوجدنا صدى ولو كان خجولًا لها.
طبعًا هي لا تذكر ضمنها صراحةً، ذلك أنها تحرج سردية متكاملة عن كمال التشريع ورفعة القانون الوضعي الحديث، فقد ولى زمان الأهواء ورغبات صاحب السيادة الشخصية التي تمسي في ليلة وضحاها أوامر. أو هكذا يزُعم في دولة الاستقلال والتحديث، حيث تسن القواعد بمشيئة الزعيم وبطانته، وتُلغى بمشيئته ذاتها!