"المرايا ممتلئة بالناس.
اللامرئيون يروننا.
المنسيون يتذكروننا.
عندما نرى أنفسنا، نراهم.
عندما نرى أنفسنا، هل يروننا؟".
- إدواردو غاليانو
لا يوجد أحد لم يفكّر بأن صورته في المرآة قابلة للانفصال عنه، وأخطر ما في هذا المنحى من الأفكار أنها تذهب لتخيّل الشخص الموجود في الصورة، أو في الانعكاس، مستقلًا قادرًا على صنع أفعاله الخاصة.
راودتنا هذه الأفكار، سواء بوعي واعيًا أو بتخيل لا سلطة لنا عليه، أمام المرآة في أوضاعنا العادية، خلال تنظيف الأسنان، أو الاستعداد للخروج، أو على نافذة الباص ليلًا، أو واجهة محل تجاري، أو مثل نرسيس في انعكاس الأقدم لصورنا على وجه الماء.
وما ظنناه دومًا هو أن صورتنا ستخلق لنفسها استقلالًا، وأن حياة الأسر التي نفرضها عليها آيلة إلى نهاية ما، لها سيناريوهات متعددة، من بينها أن الصورة ستقتل الأصل. رافقتنا هذه الأفكار والهواجس منذ عرفنا المرآة، ولا تزال كل وقفة أمامها قابلة لأن تضيف أشياء جديدة عن أنفسنا أو العالم.
وبمقدار ما تبدو المرايا رائعة فإنها خطرة، لأنها تتيح لنا رؤية غير عادية وغير طبيعية، نرانا من الخارج. عندما نرى مرآة فإننا نتخذ منظورًا غير طبيعي، لأننا عندما ننظر إلى المرآة نخرج من منظورنا.
كما هو الحال مع المواضيع الأخرى، يرتبط الخوف والانبهار ارتباطًا وثيقًا عندما يتعلق الأمر بالمرايا. كان من المعتاد في أجزاء كثيرة من أوروبا إغلاق المرايا في المنزل بعد وفاة الشخص، إذ كان هناك اعتقاد بأن روح المتوفى يمكن أن تدخل إلى المرآة ولا تجد السلام.
وهذا ما يؤكده الاعتقاد الشعبي بأن مصاصي الدماء غير قابلين لانعكاس كصور على المرايا، لأنهم كائنات غير حية، لأنهم كائنات بلا أرواح. ومن يكون كذلك لن تكون لديه صورة منعكسة على سطح أملس. وعليه، فإن الذي ينظر إلينا من المرآة هو روحنا، أو حامل تلك الروح.
يمكنك الآن أن تأخذ هذه الفكرة إلى أبعد من ذلك وتسأل نفسك ما إذا كانت جميع المرايا غير متصلة ببعضها البعض وتمثل عالمًا موازيًا تمامًا لعالمنا. هذا يعني أن جميع المرايا هي بوابات دخول إلى عالم آخر. كل ما لدينا في عالمنا نجده هناك أيضًا. لكن بالإضافة إلى ذلك - إذا كانت مخاوف عقلنا الباطن الجماعي صحيحة - فإن أرواح الموتى موجودة هناك، والأسوأ من ذلك: أن شبيهنا محاصر هناك، بما في ذلك الشخص الذي يقف أمامنا عندما ننظر في المرآة.
تستخدم العديد من الممارسات الخفية المرايا، لكن تأثير هذه المعرفة الاجتماعية لا يقتصر على مجموعة الأشخاص الذين يؤمنون بمثل هذه الممارسات أو حتى يمارسونها. حتى بالنسبة لأولئك الذين لديهم نظرة إلحادية أو مادية للعالم، فإن فكرة هذه الممارسات يمكن أن تسبب الخوف، لأننا نتحدث عن عالم لا نستطيع أن نفهمه ولا تنطبق عليه قواعدنا.
يمكن تفسير أفلام الرعب على أنها ترفيه خالص، مثل المعابر الحدودية الخاضعة للرقابة التي تسمح لنا بشم الخطر دون أن نكون في خطر فعليًا. لكن إذا نظرنا من منظور نفسي، فإننا نجد أكثر من مجرد إثارة خالصة: نجد علاجًا خياليًا لمخاوف الإنسان البدائية. غالبًا ما تستخدم أفلام الرعب صورة المرآة ودائمًا ما نجد هناك عالمًا لا نريد الدخول إليه لأنه مليء بالظلال والذي لا نريد بالتأكيد الدخول إليه.
هكذا إذن توحي المرايا بأن الشخص العالق فيها سيتحرر منها، ويخرج يومًا ما إلى حياة تخصه وحده دون ارتباط مصيري بأصل. وبالمثل، توحي بأن الناظر إليها من الخارج مهدّد بأن يعلق في داخلها، ويبقى محبوسًا في زجاجها إلى ما تشاء اللعنة التي حلت عليه.
مرآة من الشطرنج
في رواية "آليس في المرآة"، تدخل الفتاة الصغيرة إلى مغامرة جديدة في غرفتها، حين ترى المرآة تعكس غرفة تشبه غرفتها، غير أن الأشياء موضوعة في اتجاه معاكس، وحين تدخل من الزجاج الذي يصبح كالضباب، عابرةً إلى الطرف الآخر، تبدأ رحلةً في عالم أشد غرابة من تجربتها الأولى في رواية "أليس في بلاد العجائب". والعجيب أن الأحداث داخل المرآة تأخذ شكل لعبة شطرنج، وعلى الفتاة أن تعيش في كل مربع من مربعاتها مغامرة جديدة، حتى تجد نفسها في الخط الأخير متحولةً إلى ملكة.
مربعات الشطرنج هي مرآة بكل المواصفات، وبدلًا من أن يكون الانعكاس مقتصرًا على الاتجاه لأنه يتحول فيها إلى انعكاس عميق في اللون. يتحول الانعكاس إلى العكس، الضد.
تعثر أليس على القصيدة الجبروقية التي تعد أكبر قصائد الهراء في الأدب الإنجليزي، ولا تستطيع قراءتها إلا باستعمال المرآة لأن الكلمات مكتوبة بالمقلوب.
من هذه القصيدة العجيبة، بكلماتها الغريبة، غير المفهومة، مثل لغة الحلم، يمكننا أن نربط بينها وبين الحوار الذي يجري بين التوأم تويلدام وتوليدي حين يكون الأول نائمًا، ويقول الثاني لها إنه يحلم بك. لكن يسألها السؤال الذي خرج كانفجار في تاريخ الأدب، ولطالما استعمله الشعراء والكتّاب. يقول لها: "ما الذي سيحدث لك عند توقف عن الحلم؟"، تجيب بأنه لن يحدث شيء، فيحتد توليدي ويخبرها بأنها لن تكون في أي مكان لأنها جزء من حلم توأمه. وهذا يذكرنا بمقطع شعري لإلياس كانيتي: "مات في نومي/ بم كان يحلم؟".
التوأمان مرآة. كل توأمين مرآة واقعية تكرر الشخص مرتين. لكن أن يكون أحدهما نائمًا في الرواية والأخر صاح، فهذا يوحي بأنهما النوم واليقظة، أو الحلم والحقيقة.
في رواية "آليس في المرآة" تداخلت الألعاب: لعبة المرآة نفسها كباب إلى عالم آخر والشطرنج والألعاب اللغوية. وفيها أيضًا تتلاقى الأحلام بالصور الغريبة التي تراها الفتاة الصغيرة، التي تبدو لنا أنها أقرب إلى صورة للمخيلة البشرية منها إلى فتاة أو فرد من النوع الإنساني.
هذا الاحتشاد للكائنات والغرائب والأفكار والهراء واللعب والاساطير، يقول إن المرآة ليست مجرد ممر إلى عالم آخر، بل هي نفسها خزّان للعالمين: الحالي والآخر، الحاضر والغائب.
كل مرآة استعارة
فجّر بورخيس في أدب العالم حب المرايا، وعند استكشاف أعماله الشعرية والقصصية نجد المرآة رمزًا أساسيًا.
لا بد من الإشارة إلى أن بورخيس عبّر مرةً أنه عاش خوفًا كبيرًا من المرايا في طفولته، واحتوت غرفته على ثلاث مرايا كبيرة أثارت فيه خوفًا كبيرًا، لأنه في الضوء الخافت للغرفة راح يرى نفسه ثلاث مرات، وأكثر ما أخافه هو فكرة أن تبدأ تلك الأشكال الثلاثة في التحرك، ومن ثم الاستقلال عنه.
خوف بورخيس ذاك هو مزيج من خوفه من مواجهة الذات ومن مضاعفتها، أي من يصبح شخصًا مزدوجًا، من الاحتمال المرعب بأن انعكاسه في المرآة، أو شبيهه، يمكن أن يلعن الاستقلال عنه.
في قصة "مرايا محجوبة"، تحدث عن خوفه من المرايا في طفولته، وانطلق من ذلك ليحكي عن لقائه بفتاة في شبابه حكى لها عن فزعه الشديد من المرايا، وما حدث أن تلك الفتاة أصيبت بالجنون وصارت تغطي مراياها، لأنها تريها صورة بورخيس بدلًا منها. كأنها لم تخف من المرايا على النحو الذي شرح لها خوفه، بل خافت من خوفه هو، ولهذا صارت تراه في كل مراياها.
في قصة "المرآة والقناع"، كانت هناك مرآة مباشرة حصل عليها الشاعر من الملك الذي مدح بقصيدة، لكنه في النسخة الثانية من قصيدة المديح نفسها حصل على قناع، وفي النسخة الأخيرة حصل منه على خنجر.
وفي قصة "الخرائب الدائرية"، يحلم شخصٌ حلم شخص آخر، وهذا الأخير هو خلاصة حلم شخص ثالث. هذا التكرار التي تقوم به المرآة هو المتاهة. بورخيس قال إن بناء المتاهة لا يحتاج سوى لمرآتين متقابلتين.
حضرت المرايا في قصصه وقصائده على الدوام إذن، حيث رآها رمزًا للانهاية وعدم وضوح الحدود بين الواقع والخيال. ليس أفظع ما في المرايا أنها تضاعف الواقع، بل أنها تواجهنا بأنفسنا. وقصيدة "المرايا"، المنشورة في ديوانه "الخالق"، تبدأ بتعبير بورخيس عن خوفها القديم من المرايا، وتنتهي بالقول إن الله خلق المرايا "حتى يحسّ الإنسان بأنه مجرد انعكاس وغرور". وتدعم ذلك جملة من قصيدته "الفن الشعري": الفن، مثل هذه المرآة، يكشف لنا عن وجوهنا".
يكتب في قصيدة "أعمى":
"لست أدري أي وجه ينظر إلي
عندما أنظر في المرآة
لست أدري أي ترقب قديم ينعكس فيها
بغضب صامت ومتعب
بطيئًا في ظلي، أتفحص بيدي
ملامحي الخفية. ثمة وميض
يلامسني. لمحت شعرك
الذي من رماد أو ذهب
وأكرر أني أضعت ظاهر الِياء الباطل.
قوي هو عزاء ميلتون،
لكني أفكر في الحروف والورود.
لو كنت أستطيع رؤية وجهي
لعرفت من أكون في هذا الغروب النادر".
مرآة الزمن
من بين الأعمال الأدبية التي تداخلت مع المرايا قصيدة للشاعرة سيلفيا بلاث بعنوان "مرآة". المتحدثة في القصيدة مزدوجة، هي مرآة في البداية وبحيرة في النهاية. أو تبدأ المتحدثة لتخبرنا أنها مرآة، ومع الوقت تتحول إلى بحيرة. ويبدو أن اختلاف الانعكاس بين صفاء سطح المرآة وتشوه سطح البحيرة يجعل الصورة تغدو مرعبة، فالمتحدثة إلينا تخبرنا أنها صارت "سمكة مرعبة":
"أنا فضية وصادقة. لا تصورات مسبقة لدي.
كل ما أراه أمامي أهضمه على الفور،
مثلما هو تمامًا، لا يعكره حبّ أو كراهية.
أنا لست قاسية، أنا صادقة فحسب،
عين إله صغير، بأربع زوايا.
في معظم الأحيان، أصفن بالحائط المقابل.
إنه وردي اللون، مع نقاط صغيرة.
لقد نظرت طويلًا
حتى بات جزءًا من قلبي. لكنه يرتج.
الوجوه والظلام تفصل بيننا، مرارًا وتكرارًا.
الآن أنا بحيرة. امرأة تنحني فوق،
تفتش في أعماق عن صورتها الحقيقية،
ثم تلتفت إلى أولئك المنافقين، الشموع، أو القمر.
أرى ظهرها، واعكسه بإخلاص شديد.
تكافئني بالدموع، وارتعاش اليدين.
لي أهمية بالنسبة لها. تأتي وتذهب.
كل صباح، وجهها يستبدل الظلام
فيَّ غرقتْ طفلةً صغيرة، وفيّ تنهض
عجوزًا لتستقبل نهارها، مثل سمكة مرعبة".
الصورة والهوية
تحكي لنا رواية "أولاد الغيتو: اسمي آدم" للراحل إلياس خوري، في نهاياتها، قصة نهب مدينة اللد، إذ كُلّف شباب من غيتو اللد بحرق جميع الجثث في المدينة، وبعد ذلك كُلّفوا بأن يفرغوا محتويات بيوت المدينة في سيارات الجيش التي تنقل الأثاث إلى تل أبيب. عمليًا، كان اللديون ينهبون أنفسهم. يقول مراد رواي هذه المرحلة من القصة: "لماذا علينا أن ننهب أنفسنا؟ لماذا علينا أن نسرق مدينتنا لمصلحة هؤلاء؟".
خلال العمل المضني في الحمل والنقل، رفض الشاب الذي يسمونه بالمصري أن يأخذوا المرآة الكبيرة من بيته. مرآة التي اشتراها والده من دمشق عُلوُّها حوالي مترين، محاطة بإطار من خشب السنديان. أمسك المصري المرآة وقال لهم إنه سيأخذها لأهله. حاول رفاقه في السخرة أن يمنعونه من ذلك حتى لا يدخلوا في مشكلة مع جيش الاحتلال. قالوا له إنه ساهموا في سرقة كل المدينة، فما المشكلة في هذه المرآة بالذات؟
حين انتبه الضباط إلى ما يجري، أمروهم بأن يكملوا العمل، وقالوا إنه لا يحق لهم أخذ شيء من أملاك الدولة. ولما رأى أحدهم الرفض، رفع عصاه وتقدم معه جندي آخر: "وبدلًا من أن يتراجع المصري إلى الوراء التصق بالمرآة فامتزج بصورته. ورأينا أنفسنا جميعًا وقد صرنا داخل المرآة. خمسة فلسطينيين وجنديين إسرائيليين في داخل مرآة دمشقية. هجم علينا الجنديان وبدآ ضربنا، كان همنا أن نحمي المرآة منهما، فالتصقنا بها وضربات العصي تنهال على رؤوسنا. كنا نصرخ من الألم ونشتم. امتلأ الصالون بالجنود الإسرائيليين الذين كانوا يضربوننا بالعصي وأعقاب البنادق، وبدأ الدم يسيل وانهمر الزجاج. فجأة بدأت المرآة تتشظى. لم أكن أستطيع أن أرى بوضوح، لأنّ الدم غطى عينَيَّ، ورأيت كيف بدأت صورنا في المرآة تتكسر، وكيف احتلنا اللون الأحمر. وحين سقط المصري أرضًا سقطت المرآة فوقه وتكسّرت شظايا صغيرة. امحت صورتنا، وامتلأنا نحن والجنود الإسرائيليون بالدم الذي نزف من أجسادنا المغطاة بالشظايا".
إذا كانت النظرة التقليدية لدى كثير من شعوب العالم ترى أن روح الإنسان موجودة في صورته، سواء في ظله أو انعكاسه فوق الماء، فإن صورة الفلسطينيين في المرآة الدمشقية هي إدراك آخر للمعنى القديم للروح، لكنه هنا تجلى بشكل آخر: صورة الإنسان روحه، وروح الإنسان هويته.
القرن العشرين وما بعده
أدى الإنتاج الضخم للزجاج والمرايا إلى تحول ثقافي كبير يتمثل في العشرينيات الصاخبة في الولايات المتحدة، وباتت هذه الحساسية الحديثة أكثر من يعبّر عن معاني الاستهلاك والترفيه والإثارة.
كان مجتمع القرن العشرين يتلألأ بالأسطح العاكسة، وفي ذلك تعبير عن انتصار القيم السطحية بشكل متزايد. وكثيرًا ما صوّر الفنانون في ذلك الوقت النساء وهن يواجهن مراياهن الكاملة.
في بداية القرن، استخدم المُعلنون المرايا للترويج لسِلَعهم. كما أظهرت إحدى المرايا التي كانت تروّج للشركة الدولية للتأمين على الحياة، امرأةً تواسي طفلها، بالكلمات التالية: "إذا مات الرجل على الجانب الآخر، فهل سيتم إعالة أسرته؟".
دخلت المرايا في تصميم المتاجر والمطاعم والفنادق وزادت من حجم الضوء فيها بشكل لافت. الأحرى أنها وضعت في كل مكان، حيث باتت موجودة في المصاعد وغرف الانتظار، ليُعجب الناس بأنفسهم. لاحظ أحد مصممي ديكور متجر "جون واناميكر" أن الناس لا يشترون الأشياء، بل التأثير. ولهذا يمكن القول إننا، منذ القرن العشرين، انتقلنا إلى العيش داخل المرايا.