المؤرخ والسياسة

المؤرخ والسياسة.. من يكتب الماضي يرسم الحاضر

25 مايو 2025

هل يمكن أن يكون التأريخ فعلًا سياسيًا؟ وهل يكفي أن نُعيد سرد الماضي لنفهم الحاضر، أم أن في الكتابة عن التاريخ، مهما ادعت الحياد، تدخلًا حتميًا في بنية السلطة ومعارك الهوية؟

قليل من المفكرين من ذهبوا بعيدًا في هذا التصور، ومنهم المؤرخ النيوزيلندي جيه جي إيه بوكوك، الذي أعاد تعريف دور المؤرخ باعتباره فاعلًا سياسيًا لا مجرد راصد زمني، وصاغ رؤية راديكالية للتاريخ باعتباره فضاءً دائمًا للصراع والتفاوض، لا أرشيفًا مغلقًا ولا رواية متفقًا عليها.

في هذا النص الطويل، المنشور في "aeon"، لا يوجد سعي إلى تلخيص كتابه الأشهر "اللحظة المكيافيلية"، ولا إلى تصنيف أفكاره ضمن مدارس التأريخ التقليدية، بل إلى تتبع المسار المعقد الذي ربط فيه بين الفكر السياسي والجمهوريات المتعاقبة، وبين اللغة والهوية والسلطة، وبين نيوزيلندا وأمريكا، وبين التاريخ والذاكرة والمواطنة.

ـــــــــــــــــــ

في الوقت الحالي، يُعدّ تقدير المؤرخين كفاعلين سياسيين بمثابة إثارة للانحياز والمناورات السياسية وافتقار التفكير النقدي. هذا الوصف يقدم المؤرخين كأشباه محللين سياسيين، ينقبون في التاريخ بحثًا عن أدلة تدعم أهدافهم السياسية الخاصة، وقد يسقط البعض في فخ التفسير الحاضريّ. في العقود الأخيرة، شهدنا بروز هذا النموذج الهجين، وبينما يرى البعض أن السياسيين بحاجة إلى المؤرخين لتحويل النقاشات السياسية الحالية واستخدام خبراتهم للتوجه نحو المستقبل، حذرت أصوات نقدية من أن "التواريخ السطحية السريعة" قد تُستخدم لخدمة الأهداف السياسية على حساب دقة التاريخ.

لذا، فإن تعريف جيه جي إيه بوكوك (1924-2023) كمؤرخ وفاعل سياسي يتطلب مزيدًا من التوضيح، إذ يُمكن القول إنه لا يتماشى مع النقاش التقليدي الذي يقسم الفائدة السياسية للتاريخ إلى معسكرين متعارضين، بل على العكس، يُظهر كيف أن التاريخ يؤثر فينا على مستوى سياسي أعمق وأوسع بكثير.

صدر كتاب بوكوك اللحظة المكيافيلية لأول مرة عام 1975، ويُعدّ تحفة فكرية مرموقة، ومن أكثر الأعمال تأثيرًا في القرن العشرين لدى المؤرخين الفكريين، وفلاسفة السياسة، والمنظّرين السياسيين. وبحلول عام 2025، سيكون هذا العمل قد ألهم الباحثين وأغنى النقاشات العامة على مدى خمسين عامًا. يستعرض اللحظة المكيافيلية تاريخًا انسيابيًا يتجاوز التسلسل الزمني التقليدي، ومتعدد الجغرافيا للفكر الجمهوري، باعتباره لغة سياسية عابرة للأطلسي، قادرة على التنقل بين عصور وسياقات مختلفة، بدءًا من العصور الكلاسيكية القديمة، مرورًا بفلورنسا عصر النهضة، وإنجلترا الحديثة المبكرة، ووصولًا إلى أمريكا الاستعمارية.

أثار الكتاب جدلًا واسعًا في الأوساط الأكاديمية وبين جمهور القرّاء، إذ أعاد بوكوك موضعة تاريخ تأسيس السياسة الأمريكية، حين لم يُعامل الثورة الأمريكية على أنها لحظة محورية فريدة، بل اعتبرها مجرد فصل في سياق تقليد جمهوري واسع يمتد عبر الأطلسي. بعبارة أخرى، أعاد بوكوك جذور التأسيس الفكري للولايات المتحدة إلى مثُل المواطنة الأرسطية القديمة والروح الإنسانية المدنية لفلورنسا عصر النهضة. ومن خلال هذا التأطير، وجّه تحديًا مزدوجًا: أولًا، للتصور القائل بأن إعلان الاستقلال الأمريكي يُمثل ذروة الحداثة والتأسيس المتعمد لكيان سياسي فريد؛ وثانيًا، للفكرة التي تفترض أن الخطاب المؤسس لأمريكا كان محصورًا ضمن اللغة الليبرالية. في تأويل بوكوك، لم تكن تلك النقاشات مؤطرة بالكامل ضمن الليبرالية، ولا كانت دون سوابق في التاريخ السياسي.

لقد كُتبت هذه الرؤية التاريخية المُراجِعة أيضًا بواسطة مغترب نيوزيلندي وُلد في لندن، عاش في الولايات المتحدة. كان بوكوك مواطنًا في الكومنولث البريطاني، وكان عمله الفكري بمثابة إعادة النظر في السرديات الراسخة حول مستعمرة بريطانية سابقة تسعى لاستعادة هويتها السياسية واستقلالها الثقافي. وفي هذا الإطار، لم تكن تلك القصة غريبة عليه؛ فقد عاش بنفسه صراعات الهوية السياسية، باعتبارها جزءًا لا يتجزأ من تاريخ الشعوب البريطانية، وكان ينظر إلى التاريخ البريطاني ليس كحكاية واحدة، بل كحوار ديناميكي بين أمم متعددة تتفاعل داخل كيان إمبراطوري.

على الرغم من أهميته البالغة، لم يُصمم الكتاب الأكثر شهرة لبوكوك في البداية ليكون موجهًا للقارئ العام، وهو معروف بأسلوبه الاستفزازي وعمقه المعرفي الرفيع. على النقيض من ذلك، اعترف بوكوك نفسه أن جمهوره المستهدف كان يتألف من أكاديميين متخصصين للغاية. وقد أقر في وقت لاحق بأن كتابه لحظة مكيافيلية "كان مُخططًا ليكون صعبًا"، مكتوبًا بأسلوب "معقد وجدلي" لم يكن الهدف منه تبسيط التناقضات والصعوبات التي كانت تنطوي عليها القصة التي كان يسعى لروايتها. وبالنظر إلى اتساعه وعمقه، ليس من المستغرب أن تبقى الاستنتاجات الجوهرية التي طرحها بوكوك غير واضحة أو مفهومة بشكل جزئي.

"اللحظة المكيافيلية" هو دراسة تحليلية معمقة لتشكيل ونقل المبادئ الجمهورية الكلاسيكية في العالم الغربي. من خلال هذا العمل، يقدم بوكوك رؤية موسعة لبقاء الفكرة الأرسطية عن "الحياة الطيبة"، التي تعتمد على المواطنة النشطة والفضيلة المدنية، وكذلك الجهود المستمرة للوقاية من الفساد وعدم الاستقرار السياسي. القصة تتنقل بين ثلاث لحظات تاريخية حاسمة: عصر النهضة في فلورنسا، إنجلترا في القرن السابع عشر، والسياق الثوري الأمريكي. نيكولو مكيافيلي وجيمس هارينغتون هما الشخصيتان المحوريتان في هذه التحولات، وفي سياق المفاهيم التي تدور حولها لغة الجمهورية، تتواجد مفاهيم جوهرية مثل الزمن، والفضيلة، والفساد، والحرية في مركز هذا الخطاب. 

يوضح بوكوك كيف أن مكيافيلي، بما يتماشى مع الفكرة الأرسطية للمواطنة النشطة والفضيلة، كان شديد الاهتمام بالحفاظ على الفضيلة المدنية في وقت من الفوضى والانحلال في فلورنسا. وهكذا، تبرز فكرة "اللحظة المكيافيلية" كإشارة إلى الصعوبة التي واجهها مكيافيلي في التوفيق بين المثال الأيديولوجي للمواطنة وبين الطابع الزمني والغير مستقر للجمهوريات.

تُعرض لحظتان مكيافيليتان أخرتان في وقت لاحق ضمن إطار فكري جمهوري، وهو ما يبرز وفقًا لبوكوك استمرارية وتماسك هذا التقليد عبر الزمن والمكان. من جهة، كان هدف هارينغتون في كتابه كومنولث أوشيانا (1656) هو تصميم "كومنولث إنجليزي خالد" – محاولة جديدة للهروب من الفساد والفناء – وهو المبدأ الذي تبناه عدد من الكتاب المتأثرين بهارنجتون في القرن الثامن عشر. من جهة أخرى، وعند تأسيس الجمهورية الأمريكية، كان الفيدراليون منصبّين على بناء المؤسسات التمثيلية، مؤكدين أن الترتيبات الدستورية القوية قادرة على إنقاذ الجمهورية من الفساد. في تلك الفترة، كان التهديد الأكبر يتمثل في التجارة وصعود المجتمع التجاري، حيث كانت الثروة تشجع على الفساد. في تفسير بوكوك، كان شاغلهم الأساسي هو الحفاظ على الفضيلة والاستقرار السياسي، وهو ما كان يستدعي منع أفراد المجتمع، بما في ذلك الممثلين السياسيين، من الانغماس في الترف والشهوات الأنانية، وزيادة قوتهم الاقتصادية على حساب المصلحة العامة.

كما وصف بوكوك لاحقًا بمصطلح "تاريخ النفق"، أعاد كتاب اللحظة المكيافيلية إحياء الفكر الجمهوري في تاريخ الفكر السياسي، من خلال تتبع محاولات الحفاظ على الجمهوريات في فترات الأزمات. ولكن الفصل الأخير من الكتاب، "أمركة الفضيلة"، هو الذي أثار أكبر قدر من الجدل. في هذا الفصل، ربط بوكوك الثورة الأمريكية بالجمهورية الكلاسيكية عبر سلسلة زمنية تبدأ بمكيافيلي وتأثير هارينغتون في بريطانيا. كان هدفه أن يظهر كيف كانت لغة الفكر الجمهوري الكلاسيكي جزءًا أساسيًا من جهود بناء الأمة، التي سعت إلى ضمان الفضيلة الشعبية في مواجهة الفساد والانحلال الذي تمثله التجارة. والأهم من ذلك، أن هذا التحليل أظهر أن المجتمع الأمريكي الحديث حافظ على القيم المستمدة من عصر النهضة الأوروبية، مما يعني أن الثورة الأمريكية لم تكن مجرد انفصال عن النظام القديم، بل كانت فصلًا من فصول تاريخ أوروبا. وبالتالي، لم يكن إعلان الاستقلال والدستور ابتكارًا جديدًا بالكامل، بل كانا امتدادًا للغات سياسية قديمة، مما يقلل من أهمية هذه الوثائق التاريخية.

على عكس آراء بوكوك، كان ليو شتراوس وأتباعه، على سبيل المثال، يرون أن هناك ارتباطات سطحية فقط بين الفكر الجمهوري وتأسيس الولايات المتحدة، وأن الاستمرارية المبالغ فيها للجمهورية أغفلت تأثير الليبرالية وطابعها التأسيسي. وقد ادعوا أن بوكوك، من خلال تسليط الضوء على وجود الماضي الجمهوري، قد ترك مساحة ضئيلة للأفكار الليبرالية وللمفكرين الليبراليين مثل جون لوك. في كتابه "التقليد الليبرالي في أمريكا" (1955)، وتحت تأثير سي. ب. ماكبريسون، صور لوك كأب مؤسس شرفي، واعتبر أن الليبرالية، التي تدافع عن الفردية والتجارة والحكومة المحدودة، هي التي قدمت الأساس الفلسفي لجمهورية ناشئة. وهكذا تم تحديد المسرح لنقاش حول المواقف المتناقضة: حيث تمت مقارنة الفكر الجمهوري، المتجذر في نموذج الإنسانية المدنية والعقل والفضيلة، مع الليبرالية، التي تُعرَف بالفردية التملكية والرأسمالية الناشئة والاهتمامات الخاصة. كان المواطن الفاضل/الوطني يقف مقابل "الرجل الاقتصادي"، وكان إما مكيافيلي أو لوك هما من قدما الأساس الفلسفي للمجتمع الجديد.

كانت الفكرة القائلة بأن الجمهوريّة والليبراليّة هما تقاليد لغوية وسياسية متناقضة ومتفرّقة، فكرة تاريخية بحتة وكذلك فكرة سياسية مألوفة، وما تزال تشكّل إطارًا مقبولًا لفهم الخطاب السياسي حتى يومنا هذا. وقد أشار المؤرخ ديفيد كريغ إلى أن كتاب بوكوك ساعد في نشر، بل وتعميق، إشكالية التفريق الواضح بين الليبرالية والجمهورية. وفي تعليقه على اللحظة الميكافيلية بعد عدة سنوات من نشره، اعترف بوكوك بأن الكتاب "يظهر باستمرار الجمهوريّة على أنها تتعارض مع الليبراليّة"، رغم أن ما كان يرغب في توصيله هو وجود توتر معقد بين الجمهوريّة والليبراليّة في أذهان الآباء المؤسّسين للولايات المتحدة.

في فصله الأخير على وجه الخصوص، نجح بوكوك في أن يكون مُستفزًا عن قصد، مفجّرًا سجالًا تجاوز الإطار التأريخي ليبلغ أصداء ثقافية وسياسية واسعة. ففي مشروعه، تتشابك مفاهيم الزمن والسياسة والسياق ضمن نسيج معقّد لا تنفصم عراه. إن الطريقة التي يدرك بها الناس ماضيهم، وكيفية تأريخهم لهذا الماضي، ليست عملية معرفية فحسب، بل هي فعل سياسي يترك أثرًا بالغًا -وإن لم يكن مطلقًا، لكنه حاسم - في تشكيل الخبرة السياسية في لحظة تاريخية بعينها.

لا يقتصر دورهم المؤرخين، من هذا المنظور، على توثيق الماضي، بل يتولّون مهمة تأسيسية في صياغة وإعادة تشكيل السرديات التي تقوم عليها الهويات السياسية الراهنة. ووفقًا لمقاربة بوكوك، فإن التاريخ لا يمثل مجرد سجل لما كان، بل هو القوة الأكثر فاعلية في بناء أو تقويض وعي المجتمعات السياسية بذواتها، وأحد المحركات العميقة للشعور الجمعي بالانتماء والهوية.

وتتجلى رؤيته بوضوح في عبارته اللافتة: "ما يفسّر الماضي، يُضفي الشرعية على الحاضر، ويُلطّف أثر الماضي عليه." بمعنى آخر، لم يكن نقد بوكوك للماضي الليبرالي مجرد قراءة تاريخية، بل كان أيضًا نقدًا جذريًا للهوية الليبرالية الحديثة. من هنا، يتضح كيف أن للتاريخ دورًا وجوديًا في صياغة معنى الحاضر، ولماذا يُعدّ المؤرخ، في جوهر عمله، فاعلًا سياسيًا بامتياز.

بالنسبة لكاتب كرّس قدرًا كبيرًا من اهتمامه للتأمل في التداعيات السياسية للخيال التاريخي لدى المجتمعات، من المنطقي أن نعيد تسليط الضوء عليه هو نفسه، ونتساءل: كيف قُرئ كتاب اللحظة الميكافيلية سياسيًا في سياقات مختلفة؟

تشكل هذه التساؤلات فرصة لوضع نص بوكوك في سياق أوسع من التلقّي والتفاعل، واستحضار بعض تفاصيل سيرته المهنية، وهو أمر يليق بمفكرٍ كان التأطير السياقي أحد الأعمدة الأساسية في منهجه الفكري.

أضحت النقاشات المتصلة بتلقّي اللحظة الميكافيلية تمثّل بحد ذاتها جدلًا تأريخيًا مكتمل الأركان، لا يقل في أهميته عن مضمون الكتاب نفسه. ففي الأعوام التي أعقبت صدوره، انخرط جون بوكوك في كتابة سلسلة من المقالات التي واجه فيها طيفًا واسعًا من النقاد، داخل الولايات المتحدة وخارجها. ومع أنه كتب هذه الردود انطلاقًا من موقعه كمؤرخ أكاديمي متخصص، فإن البُعد السياسي الكامن في أطروحاته لم يكن ليمر دون أن يُلفت الانتباه.

من أبرز هذه الردود مقال بعنوان: اللحظة الميكافيلية من منظور جديد: دراسة في التاريخ والإيديولوجيا (1981)، وهو نص يغوص بالقارئ إلى عمق الأدلجة التي أحاطت بكتابه. 

في هذا المقال، يعيد بوكوك تقديم رؤيته لمفهوم الجمهوريانية، من خلال تمايزه عن المدارس التاريخية الأخرى ذات الطابع الإيديولوجي، مؤكدًا أن القسم الأخير من كتابه كشف عن وجود تصوّرَين متمايزَين للحرية: الأول يقوم على المشاركة الفاعلة في الحياة العامة (الحرية الجمهورية)، والثاني يتجسد في الحرية السلبية الليبرالية القائمة على الحياد الفردي وغياب التدخّل.

يرى بوكوك أن هذين المفهومين كانا متعايشَين ضمن الخطاب السياسي في القرن الثامن عشر، وهو ما كان حاضرًا أيضًا في سياق كتابته للمقال ذاته. غير أن هذا التداخل لم يُقرأ دومًا بحياد؛ فقد اعتبر بعض المؤرخين الأمريكيين هذا الطرح بمثابة تهديد ضمني للنموذج الليبرالي الذي شكّل حجر الأساس للفكر الدستوري الأمريكي. فإتاحة المجال أمام اللغة الجمهورية لاستعادة موقعها ضمن السردية التأسيسية الأمريكية، كان يعني بالنسبة لهؤلاء تقويضًا محتمَلًا لفكرة "القطيعة الليبرالية" مع الماضي الأوروبي، بل تشويشًا على الشرعية السياسية والثقافية للنظام الأمريكي ذاته.

ومن هنا جاءت ردود الفعل الحادة من بعض المفكرين ذوي الميول اليسارية مثل جويس آبلبي، إسحاق كرامنك، وجون بي. ديغنز، الذين قرأوا في تشكيك بوكوك بكون لوك، ومونتسكيو، وهيوم قد شكّلوا المرجعية الفكرية الوحيدة لأوراق الفيدراليين، تشكيكًا أعمق في الهوية الأمريكية نفسها، القائمة، في تصورهم، على قيم الليبرالية: الفردانية، والتعددية الدستورية، والمجتمع التجاري القائم على السوق. لقد بدا لهم أن بوكوك يدفع، من حيث يدري أو لا يدري، باتجاه سردية بديلة، قد تُضعف الركائز الثقافية التي بُنيت عليها الجمهورية الأمريكية الحديثة.

يرى بوكوك أن الولايات المتحدة قد غدت "جمهورية شديدة الابتعاد عن الكلاسيكية"، ولهذا السبب تحديدًا، فإن الأسطورة التأسيسية أدّت دورًا سياسيًا حاسمًا، لما انطوت عليه من قدرة رمزية على مخاطبة الحاضر. لقد كانت أمة، كما كتب، "تأسست على التجريب"، حيث أُبرِم عهدٌ اجتماعيٌّ شكّل رابطة وجودية بين الأفراد.

وبحسب ما يُعرف بـ"الأسطورة التأسيسية"، فإن تاريخ الولايات المتحدة وهويتها نشآ من فعلٍ واعٍ ومقصود، أو لنقل: من فعلٍ يمكن تفكيكه إلى لحظتين مفصليتين؛ إعلان الاستقلال عام 1776، ثم المصادقة على الدستور عام 1788. وكانت لغة الحقوق الليبرالية، التي نظّر لها جون لوك، بمثابة المعمار النظري الذي قامت عليه هذه التجربة السياسية.

في هذا الإطار الثقافي المؤسِّس، يُقيِّم المواطنون أداء جمهوريتهم من خلال مدى تجسيدها للمبادئ الليبرالية. ومن ثم، فإن بروز الفساد السياسي لا يُعدّ انحرافًا فحسب، بل يُنظر إليه كتهديد جذري يُزعزع البنية التأسيسية ذاتها للجمهورية الليبرالية.

بعبارة أخرى، أصبحت الليبرالية متغلغلة في نسيج الهوية القومية، والارتياب في هذا التماهي يُعادل طعنًا في الهوية الثقافية ذاتها. لذا، فإن الخلاف حول ما إذا كانت الجذور الفلسفية للولايات المتحدة تمتد إلى لوك أو إلى ميكافيلي، لم يكن مجرد جدل تأريخي، بل كان، في جوهره، سؤالًا وجوديًا حول الكينونة الأمريكية: من نحن؟

وكما عبّر بوكوك في عام 2017: "عند مناقشة الأميركيين لأسس حكومتهم فهم، في الحقيقة، يناقشون من هم بشكل أساسي".

لم يكن الجدل حول أطروحة بوكوك حبيس أسوار الأكاديمية الأمريكية؛ بل سرعان ما عبر الأطلسي، ليثير موجة من النقد بين مؤرخي أوروبا، وخصوصًا الإيطاليين منهم. ففي هذا الإطار، اتهمه رينزو بيكيولي وآخرون بتمثيل ما أسموه "الأيديولوجيا الأمريكية"، التي تتسلل إلى التاريخ في هيئة بحث علمي، لكنها في جوهرها مشروع ثقافي توسعي.

ذهب تشيزاري فازولي إلى أن اللحظة الميكافيلية ليست عملًا تاريخيًا محضًا، بل بناءٌ أيديولوجي مقنّع، يستهدف الكشف عن الجذور السياسية للهوية الأمريكية، عبر تأويل خاص للتراث الأوروبي. رأى أن كتاب بوكوك لا يعيد قراءة الجمهورية الفلورنسية لذاتها، بل يوظفها لتأصيل نموذج جمهوري أمريكي، مقدّم بوصفه ذروة تطوّر هذا التقليد.

في نظر بيكيولي، هذا الربط بين الجمهوريات الإيطالية والحداثة الأمريكية لم يكن استحضارًا للتاريخ، بل كان استيعابًا له ضمن سردية عالمية، تضع التجربة الأمريكية كـ"خاتمة منطقية" لمسار أوروبي. وبهذا، تُختزل فرادة عصر النهضة الإيطالي إلى مجرد محطة في خط زمني يقود نحو الحاضر الأمريكي.

لقد وصف بيكيولي هذا الطرح بأنه "نيوليبرالي"، لا بمعناه الاقتصادي فحسب، بل بمعنى فلسفي أعمق: إذ يرى أن بوكوك، من خلال هذا التأريخ، لا يعيد فقط صياغة الماضي، بل يُعيد امتلاكه. فالحديث عن استمرارية جمهورية عالمية يخفي نوعًا من المحو الرمزي للخصوصيات التاريخية الأوروبية، لصالح تصور كوني ليبرالي تُهيمن عليه أمريكا. وهكذا، يغدو بوكوك، حتى دون وعيه بذلك، ممثلًا لهيمنة ثقافية ليبرالية، تعيد تشكيل التاريخ بعيون إمبراطورية.

ولعل ما هو أكثر إثارة للانتباه أن هذه "الهيمنة الليبرالية" المزعومة لم تكتفِ باحتواء الحكاية الأوروبية، بل تسربت حتى إلى المفهوم المضاد ذاته: الجمهوريّة. فكأن الليبرالية، عبر هذا المنظور، لا تتقاطع مع الجمهوريّة بل تبتلعها، وتعيد إنتاجها ضمن بنيتها الخاصة.

غير أن بوكوك لم يترك هذه الاتهامات دون رد، بل واجهها بأسلوبه المعروف: بلاغة دقيقة وحجة صارمة. أوضح أن منتقديه أساؤوا فهم مراده؛ فـ"الأطروحة الجمهورية" التي قدمها لم تكن أداة لترويج الليبرالية الأمريكية، بل محاولة لتحرير الأسطورة السياسية الأمريكية من اختزالها في الليبرالية وحدها. لم يكن هدفه تمجيد القيم الليبرالية، بل مساءلتها، والعودة إلى جذور أعمق وأكثر تركيبًا، تمتد عبر التاريخ الأوروبي، لا لتنتهي عند أمريكا، بل لتضعها ضمن شبكة أكثر تعقيدًا من التأثيرات المتبادلة.

في خلاصة الأمر، وجد بوكوك نفسه في قلب مفارقة نقدية حادة؛ فقد اتُهم في الوقت ذاته بأنه ليبراليٌ مفرط، وبأنه لا يلتزم بالليبرالية بما يكفي. بمعنى آخر، وُجهت إليه تهم متضاربة تدّعي أنه "أمريكي بشكل مفرط"، وفي المقابل "ليس أمريكيًا بدرجة كافية"، وهو تناقض يكتسب دلالة خاصة حين نأخذ في الاعتبار أصله النيوزيلندي. هذه الحالة تجسد بشكل جلي وجود علاقة راسخة، لكنها في جوهرها تبسيط مفرط، بين الهوية الأمريكية والليبرالية؛ وهي العلاقة التي جاء كتابه اللحظة الميكافيلية ليهدمها وينقّب تحت سطحها، متحديًا بذلك الفهم السائد والمختزل للذات الأمريكية.

لم يكن بوكوك يومًا مرتاحًا للانخراط في هذه النزاعات الفكرية، كما أقر بنفسه بصراحة. ففي مقدمة الطبعة الفرنسية من اللحظة الميكافيلية، اعترف بأن نجاح الكتاب تجاوز حدود راحته الشخصية، إذ أشعل جدلًا محتدمًا في مشهد فكري معقد ومشحون بالتناقضات. ومع ذلك، كان يدرك بعمق أن الروايات التاريخية لا تُفهم إلا ضمن سياقاتها المتنوعة، فكونه مؤرخًا مهتمًا بتاريخ التأريخ ذاته، قضى حياته المهنية في مهمة دقيقة: ربط الأفكار بأرضها الفكرية الأصلية، واستكشاف كيفية تغير معانيها بحسب البيئة التي تُقرأ فيها.

رحل بوكوك في كانون الأول/ديسمبر 2023، على مقربة من بلوغه مئويته، تاركًا خلفه إرثًا فكريًا هائلًا أثار موجة واسعة من التكريمات المستحقة والتأملات العميقة في مختلف أنحاء العالم. شهدت ذكرى وفاته تنظيم عدد من الفعاليات الأكاديمية التي احتفت بمساهماته، ومن خلال مشاركتي في بعضها، برز أمامي تقسيم بديهي يتكرر عند تناول جسد أعماله الواسع. فمن جهة، يُمكن تصنيف عمله ضمن ممارسته التاريخية الدقيقة، التي تشمل بحوثه المعمقة في تاريخ الفكر القانوني والسياسي، وتاريخ التأريخ ذاته، حيث تتألق بين مؤلفاته مجموعة من الدراسات المحورية، منها: الدستور القديم والقانون الإقطاعي: دراسة في الفكر التاريخي الإنجليزي في القرن السابع عشر (1957)، واللحظة الميكافيلية: الفكر السياسي الفلورنسي والتقليد الجمهوري الأطلنطي (1975)، بالإضافة إلى مشروعه الضخم المتمثل في ستة مجلدات من الوحشية والدين (1999-2015)، علاوة على دراسته الرائدة لتحليل كتاب تاريخ تراجع وسقوط الإمبراطورية الرومانية (1776-1788) لإدوارد جيبون، التي تمثل تأملًا عميقًا في طرق الكتابة التاريخية وتأثيراتها الفكرية.

على الجانب الآخر، حظي بوكوك بإجلال واسع لمساهماته النظرية والمنهجية في ميدان دراسة تاريخ الفكر السياسي، والتي تجلت عبر عدد كبير من المقالات والدراسات التي نشرت في المجلات الأكاديمية، وجُمعت معظمها في مؤلفاته الرائدة: السياسة واللغة والزمن (1971)، الفضيلة والتجارة والتاريخ (1985)، واكتشاف الجزر (2005).

وقد سلط الباحثون الضوء على مركزية مفهوم "اللغة السياسية" في رؤيته، إذ اعتبرها صيغة متميزة من الخطاب السياسي، تتألف من مصطلحات ومفردات متخصصة، مثل "القانون العام"، و"الفقه المدني" و"الجمهورية الكلاسيكية". وتؤكد هذه الفكرة على تعدد اللغات السياسية وتعايشها، إذ لا توجد لغة سياسية وحيدة بل شبكة من اللغات التي تستخدمها مختلف الأفراد والمؤلفين، وتتفاعل مع سياقات زمانية ومكانية متباينة، ما يتيح تداولها بين حقول خطابية متنوعة.

أما من الناحية النظرية، فقد عبّر بوكوك عن رؤيته العميقة للعلاقة التبادلية بين التأريخ والسياسة، حيث جادل بأن الروايات التاريخية لا تمثل محاكاة موضوعية للواقع فقط، بل هي في جوهرها سرديات سياسية متغيرة ومرنة، يجب أن تبقى مفتوحة للنقاش المستمر وإعادة التفسير، بعيدًا عن السرديات الحتمية أو الإغلاق الفكري.

في ذلك الانقسام الثنائي المتعارف عليه، يُفصل غالبًا بين مؤلفات بوكوك الجوهرية التي تعنى بالمادة التاريخية وبين إسهاماته المنهجية والنظرية، كأنهما عالمان منفصلان في كيان فكري ضخم. هذا الانفصال يُوحي بأن القارئ، حسب ميوله، قد يتعامل مع بوكوك كمؤرخ للفكر السياسي، لكنه يجهل جانبه كمفكر نظري وفاعل سياسي، أو العكس تمامًا.

لكن المفتاح الحقيقي لفهم عمق تجربة بوكوك الفكرية يكمن في رؤية كيف تتشابك رؤاه حول التأريخ - الذي هو أكثر من مجرد توثيق للأحداث، بل هو حقل معرفي وسياسي متداخل - مع اشتغاله المتعمق على الجمهورية الحديثة المبكرة، والنقاشات الحادة التي أثارها كتابه اللحظة الميكافيلية.

هذا المسار لا يُعيد فقط ربط النظرية بالتاريخ، بل يبرز التأريخ كفعل سياسي حي، حيث تتلاقى المعرفة والمنهج مع الصراع السياسي في رقصة مستمرة من التشكيل وإعادة الفهم، حاملةً رؤية معقدة ترفض الانغلاق أو التبسيط.

أعتبر تأملات بوكوك العميقة والمتشعبة حول دور المؤرخين في التجريد دعوة مفتوحة لإعادة تقييم كتاباته في ضوء هذه الرؤية: فهو، وفقًا لمصطلحه الخاص، المؤرخ الذي يتماهى في آن معًا مع الفاعل السياسي. في هذا الإطار، لا يُصوَّر المؤرخون الخبراء ككائنات منعزلة في أبراج عاجية نائية، بل كفاعلين عامين يحتلون موقعًا مركزيًا ومتميزًا في تشكيل المعاني الجماعية وصياغة الهويات السياسية. إنهم ينسجون سرديات تحدد ما يُعجب به ويُحتقر، وما يُحتذى به ويُرفض، ليكونوا بذلك أدوات حيوية في إعادة إنتاج القيم والذاكرة السياسية.

 

تتلاقى أفكار بوكوك في مواضع كثيرة مع رؤى شريكه الفكري كوينتن سكينر، وإن لم تكن متطابقة معها. ففي دفاعه عن ضرورة قراءة الفكر السياسي ضمن شروطه وسياقاته التاريخية الخاصة، وجد سكينر نفسه مضطرًا إلى مواجهة اتهامات بالنزوع إلى الأثرية، أي الاكتفاء بالغوص في الماضي بوصفه مادة جامدة مفصولة عن أسئلتنا الراهنة، كما اضطر للرد على انتقادات تشكك في جدوى المعرفة التاريخية ودورها في الفضاء العمومي.

لكن سكينر، في وجه هذه الاعتراضات، صاغ دفاعًا رصينًا ومقنعًا، بيّن فيه، على سبيل المثال، أن الحرية السياسية في تراث الفكر الغربي لم تُختزل في غياب التدخل فحسب، بل ارتبطت جوهريًا بغياب القسر. وهذا الفهم التاريخي، برأيه، لا يُعد مجرد تأمل أكاديمي، بل أداة حيوية لفهم النزاعات السياسية الراهنة وإعادة التفكير في مفاهيم نعيشها اليوم دون مساءلة.

تمثّلت استراتيجيته في إعادة تفعيل الماضي، لا كماضٍ منتهي، بل كخزانٍ غني بالدلالات القابلة للاستدعاء والتوظيف. وبهذا المعنى، يقدم سكينر تصورًا مميزًا لدور المؤرخ، ليس كمراقب صامت، بل كمثقف عمومي يُعيد وصل الحاضر بالماضي، ويستشرف من خلال هذا الوصل أفق المستقبل. ومع ذلك، فإن هذا التصور، على رصانته، لا يخلو من خطر الانزلاق نحو ضرب من التعليق السياسي الظرفي، الذي قد يُفقد المؤرخ توازنه بين التحليل التاريخي والتدخل الأيديولوجي.

إذا كان سكينر يرى في التاريخ أداةً يمكن توظيفها في الحقل السياسي، فإن بوكوك يقدّم أطروحة أكثر جذرية: فالتاريخ، بوصفه كتابة وتمثيلًا، هو فعل سياسي في جوهره. العلاقة التي يصوغها بين التاريخ والسياسة ليست مجرد تفاعُل أو تداخل بين مجالين منفصلين، بل اندماج بنيوي بين الفضاء السياسي والفضاء الأكاديمي؛ إذ لا يدور الأمر حول حوار بين الخطاب السياسي والخطاب التاريخي، بل حول كونهما وجوهًا متبادلة لجوهر واحد. السياسة والفكر التاريخي ليسا مجرد متجاورين، بل يتلبّس أحدهما الآخر.

ومن هذا المنطلق، فإن المؤرخ، في نظر بوكوك، ليس لاعبًا سياسيًا متخفيًا يتلاعب بالماضي لخدمة الحاضر، بل هو كائن يسكن التاريخ، ويعيد تشكيل رؤيتنا للعالم من داخله. فالتاريخ، في هذا التصور، لا يُستعمل، بل يُعتَقد ويُعاش. إنه البنية الرمزية التي نتموضع داخلها ونُعيد من خلالها تعريف ذواتنا.

لكن هذا التصور يمنح المؤرخ عبئًا ثقيلًا يكاد لا يُحتمل، إذ يغدو مسؤولًا، لا عن تأريخ الماضي فحسب، بل عن صياغة الأفق الرمزي الذي تتحرك فيه الجماعة السياسية. وهو ما يتبدّى بوضوح في التوترات والقراءات المتباينة التي أثارها كتاب اللحظة الميكافيلية، حيث اصطدم التاريخ المكتوب بالتوقعات الأيديولوجية، وكُشف ثقل الدور الذي حمّله بوكوك لنفسه ولغيره من المؤرخين.

تتخلل أطروحة تَلازُم التاريخ والسياسة معظم كتابات بوكوك النظرية، وتشكّل خيطًا ناظمًا لفكره. ففي مقالته المهمة "المؤرخ بوصفه فاعلًا سياسيًا داخل الدولة والمجتمع والأكاديمية" (1996)، والتي أعيد نشرها لاحقًا في الفكر السياسي والتاريخ (2008)، يطرح بوكوك أسئلة تقوّض التمييز التقليدي بين المؤرخ والمتدخل السياسي، إذ يسأل: "ما نوع الظاهرة السياسية التي يُمثلها التاريخ؟" و"ما الأنماط الممكنة للتأمل السياسي أو النظري التي يمكن أن تُنتجها أشكال التأريخ المختلفة؟".

الإجابات التي يقترحها لا تذهب نحو الفصل أو التمييز، بل تكشف عن طابع دائري عميق لفعل التأريخ بوصفه ممارسة سياسية في جوهره. فكتابة التاريخ، بحسب بوكوك، ليست حيادية أو خارجية عن الحقل السياسي، بل هي تدخل في قلبه، وتعيد إنتاجه. ومن ثم، فإنها تُفضي دائمًا إلى تشكُّل فضاء يتقاطع فيه الخلاف والتوافق، ويعاد فيه ترتيب الحدود بين ما يُعدّ حقيقة، وما يُعدّ سردية، وما يُعدّ شرعيًا أو متنازعًا عليه في الخطاب العمومي.

الصراع أو النزاع يعني بالضرورة وجود تعددية سردية تمزق وحدة التاريخ. فالتاريخ لم يعد سردًا موحدًا يُجمع عليه، بل صار فضاءً مفتوحًا للتعدد والتنوع، حيث تتعايش عدة "تواريخ" و"ماضيات" محتملة، داخل حدود الأدلة التي تحدّ من فوضى التأويل.

مع ذلك، يبتعد بوكوك عن الانزلاق في النسبية المطلقة التي تفترض أن كل شيء جائز وقابل للاعتبار. إذ يؤكد على الطبيعة الثنائية للتاريخ، فهو ليس مجرد اختراع أو بناء ذهني خالص، بل هو أيضًا كشف وتحقيق، لذا فهو نتاج مركب بين "الاكتشاف" و"الابتكار". هذه الثنائية تفرض على التاريخ أن يكون حيًا وذا صلة، لكنه لا يكون عبثيًا أو متهافتًا.

من هنا، تسمح تعددية التواريخ بتعدد الهويات السياسية داخل الكيان الواحد، بحيث يمكن أن تتعايش روايات متباينة ومتنافسة تشكل في جوهرها هذه الهويات. وهكذا، لم تكن السرديات المتضاربة عند بوكوك مجرد اختلافات تاريخية، بل أدوات لتشكيل الانتماء والهوية السياسية، وهي تحمل في طياتها شعورًا بالذاتية والآخرية، وتجعل السياسة مسرحًا لتداول مستمر للمعاني والمعارك الرمزية.

ينسج بوكوك هذه الأفكار بتفصيل أكبر في مقالته المعنونة "سياسة التأريخ" (2005)، حيث يبرز كيف أن المجتمعات السياسية لا تكتفي فقط بامتلاك ماضيها، بل تنخرط في عملية دائمة ومتعددة الأوجه لإعادة سرد الروايات المتنازع عليها. هذه العمليات المتشابكة لا تعزز فقط تجربة المواطنة، بل تشكل نسيجًا تاريخيًا حيويًا يغذي وعي الجماعة بذاتها عبر الزمن. فالسرديات التاريخية تتحول إلى أساطير مؤسِّسة تضمن بقاء المجتمعات، عبر ربط أعضائها بعضهم ببعض وإرساء مبادئ الاستقلال والسيادة.

لا يعني هذا، بالمقابل، أن المؤرخين هم مجرد أدوات ترويج للدعاية السياسية، رغم أن بعضهم قد يكون وقع في هذا الفخ، بل إن الخلاف والتعددية داخل السرد التاريخي يشكلان جوهر الحرفة التأريخية وركيزة أساسية في تجربة المواطنة السياسية. فالتاريخ، بهذا المعنى، ليس مجرد سجل للماضي، بل فضاء مستمر للصراع والتفاوض حول الهوية والسلطة والذاكرة الجمعية.

قد تكشف حياة بوكوك ومسيرته الأكاديمية عن مفاتيح أساسية لفهم نهجه في دراسة التاريخ. فعلى الرغم من انتقاله إلى الولايات المتحدة عام 1966 وإقامته هناك حتى وفاته، نشأ بوكوك وقضى أغلب سنواته الأولى في نيوزيلندا. وخلال فترة دراسته لنيل درجة الدكتوراه في جامعة كامبريدج، كان يتنقل بين بريطانيا ونيوزيلندا، لكنه ظل متمسكًا بجنسيته النيوزيلندية، معتبرًا وطنه الأم عنصرًا محوريًا في تشكيل ما أطلق عليه "الرؤية الأنتيبودية" للتاريخ.

ولا تعني هذه الرؤية مجرد موقع جغرافي في الطرف المقابل من الكرة الأرضية، بل تعبّر عن منظور فكري نقدي ينبثق من تجربة العيش خارج مراكز القوة التقليدية في أوروبا وأمريكا، وهو ما يمنح فهمًا أكثر عمقًا ومسافة نقدية متجددة تجاه الأحداث التاريخية.

وقد تجلّى هذا المنهج بوضوح في كتابه "اللحظة المكيافيلية"، الذي صاغ فكرته خلال سنوات انتقاله بين "جنوب المحيط الهادئ" و"وادي المسيسيبي"، ليصبح عملًا يروي حركة الأفكار والناس عبر الفضاء والزمان. وفي محاضرته الوداعية عام 1994، وصف رحلته في تتبع "التقاليد الجمهورية في حوض الأطلسي"، معترفًا بأن "الشخص الذي يعيش في منتصف المحيط الهادئ فقط يمكنه تكوين رؤية وسط الأطلسي"، إشارة إلى رؤيته الفريدة التي جمعت بين التجارب الثقافية والجغرافية المختلفة، وأثرت بعمق في فهمه للتاريخ السياسي.

كونه من أسرة ذات جذور استيطانية، كانت التواريخ بالنسبة لبوكوك كائنًا حيًا متحركًا، تشكّلها "رحلات التنقل" وتولدها ديناميكيات الاستيطان والاحتكاك بين الشعوب والثقافات. التاريخ البريطاني، الذي كان يشمل بالنسبة له الثورة الأمريكية، لم يكن مجرد سرد محلي أو إقليمي، بل ظاهرة كونية تمتد على امتداد نصفي الكرة الأرضية، تحمل في طياتها أبعادًا متعددة ومعقدة.

وبما أن التاريخ والهوية السياسية مرتبطان ارتباطًا لا انفصام فيه، فإن صراعًا سياسيًا ينشأ بالضرورة من تاريخ متنازع عليه ومتحرك. عندما يُنظر إلى التاريخ باعتباره أداة لإنشاء الاستقلال والسيادة وبناء الهوية السياسية، تتحول كتابة التاريخ إلى مسرح لصراع دائم على السلطة في عالم ما بعد الاستعمار، حيث لا تهيمن رواية واحدة على الحقيقة.

فالمواقف المهيمنة بجانب المواقف "الفرعية" أو المهمشة، تلك التي تقع في هامش السلطة، تنتج سرديات متعددة ومتناقضة، لا تُغلق أبوابها أبدًا، بل تُجبر على السعي نحو حوار مستمر يقوم على الاحترام المتبادل والاعتراف بالتعددية.

ومن هذا المنطلق النظري العميق، يمكننا فهم وتأطير الجدل الذي أثاره كتاب "اللحظة المكيافيلية". فقد كان إصرار كثير من الأكاديميين الأمريكيين على اعتبار أعمال بوكوك تحديًا صارخًا لتاريخ وهوية الولايات المتحدة، موقفًا مصطنعًا من وجهة نظر مؤرخ مثل بوكوك، الذي لم يجد يومًا موطنًا ثابتًا، بل عاش تجربة انتماء متقلبة وشهد عن كثب الصراعات التي تشكل الهويات السياسية لشعوب بريطانيا.

بالنسبة لبوكوك، لا وجود لتاريخ بمعزل عن السياسة، ولا سياسة بمعزل عن هوية سياسية متنازع عليها، بل إن التاريخ والسياسة مترابطان بشكل عضوي، كل منهما يشكل الآخر في عملية مستمرة من التفاوض والتأويل.

عند محاولتي قراءة مسيرة بوكوك وإسهاماته في تاريخ الفكر السياسي ضمن أروقة النقاشات السياسية المعاصرة، أتحاشى تمامًا اختزال مواقفه السياسية ضمن تصنيفات سطحية أو عصرية. لقد فسر كثير من النقاد كتابه "اللحظة المكيافيلية" على أنه نقد لاذع لليبرالية الحديثة، لكن الحقيقة أعمق من ذلك؛ إذ إن إيمانه العميق بضرورة الجدلية والتعددية في التاريخ استدعى تبني رؤية ليبرالية عضوية ترتكز على احتضان تعددية الأصوات والآراء المتضادة.

كان السماح بوجود آراء مختلفة، بل وأحيانًا متناقضة، شرطًا أساسيًا لازدهار الممارسة التاريخية والحفاظ على حيادها. بعبارة أخرى، تصور بوكوك أن المهنة التاريخية لا يمكن أن تزدهر إلا في ظل بيئة سياسية ليبرالية تحترم التعددية الفكرية، حيث يصبح التاريخ فضاءً حيويًا تتعايش فيه تفسيرات متعددة ومتنوعة.

إن كتابة التاريخ، من منظوره، هي عملية بناء عوالم متوازية تعيد باستمرار رسم خطوط الاتصال والانفصال بين الماضي والحاضر والمستقبل، لتبرز حقيقة أن التاريخ ليس سردًا موحدًا بل هو فسيفساء غنية بالأصوات والتجارب المتباينة.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

أشكال الجنس والزواج عند العرب.. الغريزة تحت الوصاية

تاريخ مشتبك من أشكال الزواج والعلاقات الجنسية وتحوُّلاتها عند العرب، في الجاهلية وبعد الإسلام، وصولًا إلى العصر الحديث

2

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

3

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

4

لقد تقاسموا العالم.. أغنية حزينة عن ماما أفريكا

تاريخ إفريقيا في العصر الحديث هو تاريخ نهب ثرواتها، يرصد هذا المقال مأساة إفريقيا منذ عهد جيوش الاستعمار إلى عهد الشركات العملاقة

5

من الأنقاض إلى الخوارزميات.. سوريا تعيد بناء ذاتها رقميًا

تمثل البيانات الضخمة فرصة، إذا واتتها الظروف التقنية واللوجستية المناسبة، لإنجاز كثير من المهام الكبرى في مرحلة إعادة إعمار سوريا، وإزالة آثار عقد ونصف من الحرب والشتات

اقرأ/ي أيضًا

تتقاطع صور الحريم التي صوّرها الفنّانون المستشرقون مع خطابات التحرير المعاصرة

من الحريم إلى خطاب الإنقاذ.. تشريح الاستشراق الجنسي

انطلق الاستشراق الجنسي مع الحركة الرومانسية، وتجلّى في لوحات المستشرقين التي رسمت جسد المرأة الشرقية كرمز للفتنة والخضوع، ثم تحوّل التخيل إلى أداة استعمارية، عبر خطاب "إنقاذ المرأة المسلمة"

إسراء عرفات

ليبيا
ليبيا

حقوق الإنسان في ليبيا.. سنوات الإفلات من العقاب وجرائم بلا محاسبة

من سجون طرابلس السرية إلى مقابر ترهونة الجماعية، ومن مراكز احتجاز المهاجرين، نسجت ليبيا، خلال السنوات الخمس الماضية، واحدة من أكثر سرديات العنف والإفلات من العقاب قتامة في العالم المعاصر

خالد الورتاني

اليمن

الخاص والمشترك في تجارب وأحوال الأمم

تنْبع الأخطاء المعرفية وما ينجرّ عنها من مخاطر ومفاسد عامة عن وضع ظواهر وحوادث مختلفة بالنوع والزمان والمكان في لائحة تفسيرية واحدة والتعامل معها معرفيًا وكأنها الشيء نفسه وجودًا وعدما، كمًّا وكيفا.

محمد العلائي

الاستبداد

تحولات نظام الاستبداد في المجال العربي

من طريف سجالات الصراع بين عبد الناصر والإخوان أنّه كان يتهمهم بالعمالة لبريطانيا، في حين كانوا يصرّون على اعتباره رجل الولايات المتحدة

زهير إسماعيل

الكرامة الحمصي

محمد قويض.. الكرامة في ملعب الدكتاتورية

قدّم محمد قويض أبو شاكر نموذجًا مناقضا لما واظبت السلطة على ترويجه وشكّل تفنيدًا صريحا لسرديتها وتهديدًا لسلامة مفهومها حول السلم الأهلي

حيان الغربي

المزيد من الكاتب

آمنة بعلوشة

كاتبة ومترجمة فلسطينية

كيف تحولت BDS إلى كابوس لإسرائيل؟

تتخذ حركة المقاطعة BDS طابعًا أساسيًا، حيث لا يقتصر على معارضتها السياسات الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، بل تؤكد على ضرورة ربط الحرّية الأكاديمية مع حقّ الوصول إلى التعليم المستدام والميسر

العدالة وسيلة إخضاع.. ما الذي تخفيه عقيدة سيادة القانون؟

وظّف البريطانيون القانون في خدمة مشروعهم الاستعماري بوصفه أداةً للسيطرة والإخضاع والاستغلال وتبرير العنصرية واستبعاد السكان الأصليين من المشاركة في صنع القرار السياسي

مشروع شهداء غزة.. حتى لا يتحول البشر إلى أرقام باردة

يهدف مشروع شهداء غزة إلى تكريم ذكرى ضحايا العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة عبر توثيق حكاياتهم، والحفاظ على حضورهم الإنساني حتى لا يتحولوا إلى مجرد أرقام

الفهود السود والأقليات.. جذور التمييز في إسرائيل

أدّت العنصرية المتجذرة في المجتمع الإسرائيلي إلى نشأة مجموعة من الحركات التي تُعنى بالدفاع عن حقوق المواطنين من غير البيض، ومن بين تلك الحركات حركة الفهود السود

إرث مالكوم إكس.. كرامة المظلومين في الجنوب العالمي

لم يعد مالكوم إكس، بعد اغتياله، مجرد رجل من لحم ودم، بل أصبح رمزًا وتحول إلى شيء أسمى: حلمًا يتوق إليه الجميع

2024 تلك السنة التي سئمنا فيها الذكاء الاصطناعي

إن تأثير الذكاء الاصطناعي على وسائل التواصل لا يقتصر على تغيير ظروف العمل في مجال الصحافة، بل يمتد أيضًا إلى مسألة المصداقية