الفيلسوف الإيطالي أنطونيو جرامشي (ميغازين)

اللاعبون وقود والجوائز قيود: كأس العالم للأندية في ميزان غرامشي

5 يوليو 2025

في مشهدٍ يُجسّد "الهيمنة الثقافية" كما نظَّر لها الفيلسوف الإيطالي الماركسي، أنطونيو غرامشي، اجتمع رجلان تحت الأضواء قبل عدة أشهر: دونالد ترامب، الرئيس الأمريكي، وجاني إنفانتينو، رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا)، للإعلان عن فريق عمل لحل "المشكلات اللوجستية" لكأس العالم للأندية 2025، المفارقة هنا أن ترامب نفسه كان واحدًا مِمنْ خلقوا هذه المشكلات عبر سياساته المثيرة للجدل، وعداواته المتعددة مع جيرانه. أما الغريب حقًّا، فهو أنهم ركزوا على الأزمات اللوجستية، في الوقت الذي تتوحش فيه أزمات أكبر منها، أزمات أيديولوجية تُسببها الرأسمالية المتوحشة، فمن يحاول حلها هي الأخرى؟ 

ترامب، الذي استُقبل باحتفاءٍ مبالغٍ فيه كـ"بطل"، وإنفانتينو، الذي وجد في البطولة فرصةً لتعزيز نفوذه "مَلِكًا وهميًّا" لكرة القدم، قدَّما عرضًا مسرحيًّا لـزواج المصلحة بين السياسة والرياضة، فخلال المؤتمر، أطلق إنفانتينو ادعاءاتٍ اقتصاديةً واهية بأن كأس العالم للأندية بشكله الجديد سيوفر للولايات المتحدة عائدات قيمتها 40 مليار دولار، و200 ألف وظيفة، في محاولةٍ لترويج البطولة كـ"منقذ اقتصادي"، وهي نفس الآلية التي وصفها جرامشي بأنها أدوات الهيمنة الطوعية: تحويل الاستغلال إلى حلمٍ جماعي. 

اللمسة الأقوى دلالة كانت عندما قدَّم إنفانتينو لترامب كأس العالم للأندية الجديد، تمثال ذهبي صارخ الشكل، يرمز لـلاستلاب الرأسمالي، حيثُ تتحول كرة القدم إلى سلعةٍ تلمع في يد السُلطة، مجرد ديكور لما هو أكبر، فالقرارات الحقيقية تُتخذ خلف الكواليس، بينما تُقدَّم للجماهير كـ"مسرحية ديمقراطية". 

المشهد يُذكّرنا بـما كتبه غرامشي حين حذّر من تحالف النخب السياسية والاقتصادية لاستغلال الثقافة كأداة هيمنة، فكما حوّل موسوليني كأس العالم 1934 إلى منصة فاشية، وحول فيديلا كأس العالم 1978 إلى منصة لغسل لجرائمه، يُحاول ترامب وإنفانتينو اختطاف اللعبة الشعبية الأولى لترسيخ أسطورة جديدة، حتى لو تطلب الأمر تهميش اللعبة نفسها، لتتحول كرة القدم إلى طقسٍ إمبريالي يُعيد إنتاج هيمنة الرأسمالية، حيثُ الجماهير تُصفق لـبعض الأبطال المزيفين، بينما تُسرق منها إرادتها، ما يجعل السؤال قائمًا: هل نُدرك يومًا أننا، وبكل أحلامنا الضائعة وآمالنا المعقودة، مجرد وقودٍ لآلة الاستكبار والهيمنة؟

كرة القدم والهيمنة الثقافية 

في زمنٍ تُعيد فيه كرة القدم إنتاج نفسها كأداة للهيمنة الثقافية، يطفو على السطح شكلٌ جديدٌ من كأس العالم للأندية: 32 فريقًا، تُوزَّع بطريقةٍ تُذكّرنا بـ"الهيمنة الطبقية" التي حذّر منها غرامشي، فبينما تحصل أوروبا على 12 مقعدًا، أي ثلث البطولة، ودون أي سبب منطقي، تظل القارات الأخرى تُكافح من أجل الفتات: 4 مقاعد لكل من آسيا وإفريقيا، وواحدٌ فقط لأوقيانوسيا، هذا التوزيع ليس محايدًا، بل هو نتاج نظام رأسمالي يُحوّل الرياضة إلى ساحة لترسيخ تفوّق "المركز" الأوروبي على "الأطراف" العالمية.

البنية الجديدة للبطولة، 8 مجموعات من 4 فرق، يتأهل منها الأول والثاني، تُعيد إنتاج  نموذج كأس العالم ، لكن مع فارق جوهري: أن الأندية الأوروبية، المدعومة باقتصاديات ضخمة، هي الوحيدة المسموح لها بالسيطرة على المشهد من الجولة الأولى، حتى لو تأهل نادٍ إفريقي أو آسيوي، فستكون مواجهته مع عملاق أوروبي أشبه بمعركة "طالوت وجالوت"، معركة تُحدد فيها النتيجة مسبقًا، وبناءً على قواعد اللعبة نفسها.

وهنا تتحقق "الهيمنة الثقافية" كما شرحها الرجل: ليست القوة العسكرية أو الاقتصادية وحدها هي التي تُهيمن، بل السيطرة على الثقافة والقيم، ولذلك تحاول فيفا، تحت قيادة جياني إنفانتينو، أن تبيع للعالم فكرة أن البطولة "فرصة تاريخية" للجميع، بينما تصممها لضمان تفوّق الأندية الثرية، الاحتفاء بـ"التنوع" مجرد وهم، فالمقاعد الإضافية لأوروبا تُكرسها مالكًا شرعيًّا للكرة العالمية، بينما تُعامَل الأندية الأخرى كضيوفٍ ثانويين.

وفي ذلك عَقَبة حذرنا منها غرامشي نفسه في أعماله التي جمعت تحت عنوان (Cultural Hegemony)، إذ يذكرنا بأن الهيمنة لا تدوم دون رضا المُهيمَن عليهم، أي أن الجماهير التي تُتابع البطولة بحماس، وتُصدّق أن مشاركة نادٍ مصري مع بايرن ميونخ  وبرشلونة هو إنجاز في حد ذاته، تُسهم دون وعيٍ في ترسيخ النظام المستغِل، ولذا فالفجوة ليست في الآليات، بل في الوعي: فطالما قبلنا التوزيع الظالم للمقاعد بوصفه طبيعيًّا، واعتبرنا التفوق الأوروبي جدارة لا استغلالًا، ستستمر الآلة في الدوران في نفس الاتجاه. 

ولذلك فإن التحدي الحقيقي، كما يراه غرامشي في كتابه "قضايا المادية التاريخية"، يكمن في "المثقف العضوي" الذي يكشف زيف تلك الهيمنة، ربما تبدأ المقاومة بأسئلة بسيطة: لماذا 12 مقعدًا لأوروبا؟ ولماذا تُقاس جودة الأندية باليورو وليس بالتاريخ؟ بالطبع لن يتغير النظام بين ليلة وضحاها، لكن الإجابة على تلك الأسئلة قد تشق ثغرة في جدار القبول الجماعي، لعلها تُضيء طريقًا نحو كرة قدم أكثر إنصافًا. 

لم يكن مفهوم "الهيمنة الثقافية" الذي صاغه أنطونيو غرامشي نظرية مجردة، بل كان حفرًا في جذور القهر الرأسمالي عبر عدسة ماركسية حادة، حيث رأى أن الصراع الطبقي لا يدور في المصانع وحسب، بل في العقل الجمعي ذاته، فالهيمنة هنا ليست في سيطرة الطبقة البرجوازية على "القاعدة الاقتصادية"، بل في اختراقها للبنى الفوقية عبر تحويل ثقافتها إلى ماءٍ يشربه الجميع دون أن يُدركوا أنه مسموم.

غرامشي، في نقده للرأسمالية، كشف أن "الطبيعي" في الثقافة السائدة، من مؤسسات التعليم إلى ملاعب كرة القدم، ليس إلا بنيةً مُصطنعةً تلبس ثوب الحتمية، فالمعايير التي تفرضها الطبقة الحاكمة ليست قوانين كونية، بل أدوات لترسيخ الهيمنة على العالم، ولذلك دعا إلى تفكيك هذه "المقدسات الزائفة" عبر دراسة فلسفتها الخفية، ومحاولة الاصطدام مع سؤال هام للغاية: كيف تتحول الممارسات اليومية إلى سجّانٍ غير مرئي للبروليتاريا المهمشة؟ 

ولذا فالنضال في تلك المعركة ليس اقتصاديًّا فحسب، بل هو معركة وعي، فتحرير المهمشين في هذا العالم، كما يؤكد الرجل في "دفاتر السجن"، يبدأ بخلق ثقافةٍ بديلة تنبثق من أحشائهم، ثقافة تُحوِّل مطالبهم الطبقية إلى رموزٍ حية، ولا تبقى أسيرة للخطاب البرجوازي الذي يُصور الفقر قدرًا والاستغلال جدارة.

توزيع الغنائم

مسرحية الهيمنة تلك، تتجلى بشدة أيضًا فيما تقدِّمه الفيفا من عطايا مرةً أخرى: مليار دولار تُوزَّع جائزةً على الأندية المشاركة في البطولة، وكأن الرأسمالية تبتسم من خلف قناعها وتهمس: "ها هي جرعة الدواء المسكِّن قبل أن تستفيق الجماهير من غفوتها!"، غرامشي، ذلك المُنظِّر الذي كشف ألاعيب السلطة الناعمة، كان سيشير بسخرية إلى هذه "الوجبة الساخنة" المُقدَّمة للجائعين: الفرق الأفريقية المشاركة فى البطولة، وهي الأهلي المصري، والوداد المغربي، والترجي التونسي، وصن داونز الجنوب أفريقي، ستحصل على 9.55 مليون دولار لكل ناد، وفقًا لتصنيف يعتمد على معايير رياضية وتجارية. 

في حين سيحصل كل نادٍ آسيوي حجز مقعده في بطولة كأس العالم للأندية على نفس المبلغ، كذلك أندية الكونكاكاف، بينما سيحصل أوكلاند سيتي النيوزيلندي على 3.58 مليون دولار، كما ستحصل فرق أمريكا الجنوبية على 15.21 مليون دولار لكل نادٍ، أي "فتات المائدة"، لأن الأندية الأوروبية ستحصل على مبالغ تصل إلى 38.19 مليون دولار لكل نادٍ، الغريب أن الأندية غير الأوروبية فرحة للغاية بهذا الأمر، ما يُذكِّرنا بحقيقةٍ واحدة، أنّ الهيمنة تتجدَّد عبر تحويل الفقراء إلى مادة للشُكر الدائم على النعم والعطايا القليلة. 

والأرقام هنا ليست محايدة قطعًا: فالفائز بالبطولة قد يحصد 100 مليون دولار، أي ما يعادل لقب دوري أبطال أوروبا، لكن بعد سبع مبارياتٍ فقط، هذه ليست رياضة، بل آلة رأسمالية تُحوِّل الكرة إلى سلعةٍ سريعة الاستهلاك، حيث تُختزل قيمتها في سرعة الإنجاز، لا في تراكم الإرث، لماذا؟ لأن الثقافة الرأسمالية تبيعك الوهم بأنك تمتلك العالم، بينما تفرغه على الطرف الآخر من كل معنى وقيمة حقيقية. 

المفارقة أن فيفا، التي تتفاخر بصفقة البث المليارية مع "دازن"، تُكرِّس نفسها كـ"كاهن" جديد للرأسمالية العالمية، فهي تُعلن أن جميع الإيرادات ستعود للأندية، لكنها تنسى أن تُخبرنا كيف تُحوِّل الملاعب إلى شاشاتٍ لإعلانات الشركات، وكيف تُعيد تدوير الأموال في دائرة النخبة ذاتها. فـ12 مقعدًا لأوروبا، قلب الرأسمالية الكروية، ليست صدفة، بل هي إعادة إنتاج لـ"مركزية الغرب" التي حذَّر منها غرامشي، حيثُ تُصبح الهيمنة الاقتصادية "مقدسة" عبر تغليفها بخطاب التضامن والبكائيات البيضاء اللزجة.

الأمر الذي يجعل من بيان جياني إنفانتينو، رئيس الفيفا، تمثيلًا لذروة المسرحية: "لن نحتفظ بدولار واحد"، يقول الرجل الذي ينسى أن التضامن الذي يتغنَّى به ليس سوى أداة لترميم شرعية النظام، فكما حوَّل الفاشيون الرياضة إلى أداة دعاية، يُحوِّل إنفانتينو كرة القدم إلى طقسٍ استهلاكي، حيثُ تُقدَّم الأموال كـهدية لا كحق، بينما تُسرق السيادة من الأندية الصغيرة عبر شروط التأهل المُصممة لصالح الأثرياء.

القائمة النهائية للمشاركين تكشف اللعبة: مانشستر سيتي، تشيلسي، بايرن ميونخ.، أسماء تُذكِّرنا بأن "التصنيفات القارية" ليست إلا غطاءً لتمويه الهيمنة، فكيف يُقاس تفوّق النادي؟ بالتاريخ أم برصيد البنك؟ حتى إنتر ميامي، الذي يُقدَّم ضيفَ شرف بفضل ميسي، ليس هو الآخر سوى دميةٍ في يد الرأسمالية الأمريكية، تُستخدم لبيع الحلم لجماهيرٍ تُصدق أن النجم وحده قادر على كسر القيود، بينما النظام نفسه يُشيد أسوارًا أعلى.

وهنا يتجلى التناقض الغرامشي الأكبر: كيف تُصبح الرياضة أداةً لـ"رضا المُستَغَلّين" عن استغلالهم؟ الجوائز الضخمة، والعروض الاستعراضية، وخطاب التضامن المزيّف، كلها أدوات لصناعة القبول بالهيمنة التاريخية والاقتصادية، وكأن الفيفا تُردد: "اقبلوا الفتات، فالثورة مستحيلة"، لكن غرامشي كان سيسأل أيضًا في حالتنا تلك: مَن يربح عندما تتحول الملاعب إلى بورصات، والجماهير إلى مستهلكين، والأندية إلى شركات؟ 

المذبحة 

هل تعلم ما الغريب في كل هذا؟ أن الأندية نفسها ستُدهس تحت أقدام النظام الجديد، للصراحة ليست الأندية، بل لاعبو الأندية، الذين هم بشر من لحم ودم، لا تراهم آلة الرأسمالية بشرًا، ولا لحمًا ولا دم، ففي حين يَختطف الاتحاد الدولي شهر حزيران/يونيو كـشهر مقدس تُقام فيه الطقوس الدولية، ويلحم الموسم الكروي في بعضه البعض دون إجازات تُذكر، يأتي كأس العالم هذه السنة أيضًا كي يزيد الطين بلة على رؤوس اللاعبين، وها هي الرأسمالية تُعيد تدوير الزمن لصالحها مرةً أخرى. 

المفارقة أن كل اتحادات الفيفا القارية، من أوروبا (UEFA) إلى الكونكاكاف، تُشارك في هذا "المهرجان الإجباري"، باستثناء اتحادي أوقيانوسيا (OFC) وأفريقيا (CAF)، وكأن الهيمنة تختار ضحاياها بعناية: تُهمِّش مَن لا ينتمون لمراكز القوى، وتُكرِّس تفوق مَن يملكون اليورو والدولار والحظوة، حتى التوقيتات نفسها مُصممة لخدمة نفس الآلة: ففي 10 حزيران/يونيو، تُسدل الستارة على تصفيات كأس العالم القادم، وبعد أربعة أيام فقط، في 14 حزيران/يونيو، تُطلق الفيفا مسرحيتها الأضخم: كأس العالم للأندية، الذي يستمر حتى 13 تموز/يوليو، وكأن اللاعبين، خاصة نجوم البرازيل والأرجنتين وهولندا، مجرد وقودٍ لمحرك الربح الذي لا يشبع.

هنا تتحول الرياضة إلى سجن طوعي: فالجماهير تُصفق لمنتخبات مثل كوريا الجنوبية والمملكة العربية السعودية وهي تخوض تصفياتٍ منهِكة، ثم تُسرع لمشاهدة نفس النجوم يُحاربون في بطولة الأندية، دون أن تسأل: مَن يربح من هذا الاستنزاف؟ فحين تُحوِّل الرأسمالية الرياضة إلى "مصنع أحداث"، وتجعل من اللاعبين عُملة استهلاكية، لا تُدمر الأجساد فحسب، بل تُفقر الروح الجماعية للعبة أيضًا، فاستهلاك البشر  وسلخهم من جلودهم لا يحتاج إلى قوانين صارمة، بل يحتاج فقط  إلى جدول زمني مُكتظ يبعثر الأوراق ويقتل الروح، ويُلهي الجماهير عن السؤال الأهم: مَن يملك حياته ووقته فعلًا؟

لا أحد مطلقًا، ولا حتى ليونيل ميسي، فبينما يُجبره النظام على قطع 9500 ميل في 14 يومًا، من ميامي إلى تشيلي ثم الأرجنتين قبل العودة إلى ساحات الفيفا الجديدة، تُقدِّمُ الآلةُ الإعلاميةُ هذا الاستنزافَ كـ"بطولةٍ أسطورية"، المفارقة أن الأرجنتين، التي تُشارك في هذه المهزلة رغم تأهلها مسبقًا لكأس العالم، قد تَستبدلُ بنجومها المخضرمين دماءً جديدة، لا حفاظًا عليهم، بل لضمان استمرارية "السلعة" في السوق. 

أما اللاعبون الأوروبيون، مثل فينيسيوس جونيور ورودريجو، فمصيرُهم محسوم: 12 ألف ميل من إسبانيا إلى الإكوادور ثم البرازيل وأخيرًا ميامي، في رحلةٍ تُعيد إنتاج "عبودية العقد" التي تحدث عنها غرامشي، حيثُ يُصبح الجسدُ الرياضي سجينًا لشروط الاتحادات والأندية، جسدٌ يُنقل بين المطارات كحقيبةٍ دبلوماسية. 

وإليك مثالًا آخر: بنجامين بافارد وماركوس تورام، بعد نهائي دوري الأبطال الماضي، يُنتزعانَ لتمثيل فرنسا في دوري الأمم الأوروبية (5-8 حزيران/يونيو)، قبل أن يُلقى بهما في مواجهة مونتيري المكسيكي بكأس العالم للأندية (17 حزيران/يونيو)، أما اللاعبون الإنجليز، فيُساقون بدورهم إلى نفس الدوامة: معسكراتٌ تدريبية، ثم تصفياتٌ ضد أندورا والسنغال (7-10 حزيران/يونيو)، قبل أن ينضموا إلى سيرك الفيفا في الولايات المتحدة. 

هل تريد أرقامًا أكثر، ربما، فالهيمنة لا تحتاج إلى خطبٍ حراقة ومشطشطة حين تمتلك أرقامًا صادمة مثل هذا الرقم تحديدًا: كريم أكتوركوجلو (بنفيكا)، لعب 55 مباراة في الموسم الماضي، وفيديريكو فالفيردي (ريال مدريد): سيلعب 73 مباراة مُحتملة، هذه ليست أرقامًا، بل شهاداتٌ واضحة على الاستلاب الرأسمالي الذي يحوِّل اللاعبين إلى عُملاتٍ استهلاكية، تتبدَل وتنقسم وتتمخض بين الملاعب والمستشفيات.

وكل ذلك يحدث بينما تُصرح قواعد الفيفا: "على الفرق الوصول قبل المباراة بثلاثة أيام"، وكأن الأجسادَ المُنهَكة تحتاج إلى 72 ساعة فقط لتتحول، من أشلاء لا تقوى على المشي من كثرة الضغوط، إلى أبطالٍ في فيلم سينمائي مريض. ما الطائل وراء ذلك؟ لا شيء، فليس القبول الجماعي بهذه الجداول الوحشية إلا نتاج ثقافةٍ حوّلت التضحيةَ إلى شرف، والاستغلالَ إلى امتياز وتفرد. 

وهنا أيضًا نكتشف أن معظم البطولات الجديدة ليست سوى أداة لترسيخ هيمنة النخب: الفيفا، كاهن الرأسمالية الأشهر، يبيع الوهمَ بأن الملاعبَ ساحاتُ عدل، بينما هي في الحقيقة مصانعُ لإنتاج اللامساواة، والأرقام لا تكذب أيضًا: فبينما تُنفق الأندية الملايين على حماية نجومها، تُجبرهم الاتحاداتُ على السفر الدائم،  وكأنهم قطعٌ في لعبة شطرنجٍ كُبرى، تُدار من خلف الكواليس بواسطة مَن يملكون اليورو والدولار. 

اقتتال داخلي

وفي أوج تلك "المخمضة الحضارية" التي تحدث للإنسان المعاصر، بدا أن هناك شبهة اقتتال داخلي بين المنظمات، إذ شكلت الدعاوى القضائية التي رفعتها نقابات اللاعبين ضد الفيفا وجدولِ كأس العالم للأندية "معركةَ الوعي" التي تحدث عنها غرامشي، حيثُ تتصادم إرادة النخب الرأسمالية مع محاولات الكشف عن زيف "العدالة الرياضية"، فالقانون هنا ليس ساحة حيادية، بل أداةٌ لفضح التناقض بين خطاب الفيفا المُزيّف عن حماية مصالح كرة القدم، وواقع استخدام الأجساد كوقودٍ لآلة الربح.

فعندما رفعت النقابات الأوروبية، الإنجليزية والفرنسية، دعواها العام الماضي، لم تكن تُطالب بحقوقٍ مادية فحسب، بل كانت تُهاجم "الثقافة الاستلابية" التي حوّلت اللاعبين إلى سلعٍ مُعلَّبة في سوبرماركت الفيفا، ولذلك أيضًا تكون الاتهامات بـ"انتهاك قوانين الاتحاد الأوروبي" مجرد غطاءٍ لصراعٍ أعمق: مقاومة الهيمنة التي تفرضها النخب عبر جدولٍ زمنيٍ يُعيد إنتاج التبعية الطبقية، أوروبا تُقرر، والعالم يُنفذ.

وقد رد الفيفا على تلك القضايا بادعاء أن التقويم حتى 2030 نوقش مع "جميع الأطراف" ما يُذكّرنا بمسرحيات موسوليني الدعائية، حيثُ تُصاغ القرارات خلف الأبواب المغلقة، ثم تُقدَّم كـ"إجماع شعبي"،  لأن اتحاد FIFPro، الصوت الممثل للعمالة الرياضية المهمشة، قد كشف الخدعة: كيف يُشاوروننا على جدولٍ مُعدّ مسبقًا؟ وكيف تُصبح كرة القدم "عالمية" بينما تُخصّص 12 مقعدًا لأوروبا في البطولة؟

هل تعلم متى سيظهر لنا كل ذلك؟ حين يبدأ الدوري الإنجليزي في 16 آب/أغسطس، بعد خمسة أسابيع فقط من نهائي كأس العالم للأندية، ساعتها ستكون الرسالة واضحة: الموسم الجديد سيبدأ قبل أن ينتهي القديم، حتى "فترة الراحة" المزعومة ليست إلا مهزلة أخرى، فالجسد المُنهك يحتاج أشهرًا ليتعافى، لا أيامًا، ولذلك أيضًا أكد جرامشي على أن الهيمنة تسقط فقط بالثقافة البديلة، فالدعاوى القضائية، رغم أهميتها، ليست سوى بداية لحرب أطول، تحول وعي اللاعبين من موقع الضحية إلى موقع المُقاوم، مع إقناع الجماهير أن الأبطال الحقيقيين ليسوا مَن يلعبون 73 مباراة، بل مَن يرفضون أن يكونوا حطبًا لحرائق النخب.

 

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

فن التلاوة: مِن ماضٍ عريق إلى حاضر مليء بالأزمات

قراءة في رحلة فن التلاوة العريق من ماضٍ حافل بالقراء الكبار، إلى حاضر مليء بالأزمات

2

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

3

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

4

المتنبي مثقفًا: التوازن المستحيل بين الوعي والمصلحة

محاكمة لشعر المتنبي في ضوء المعايير الأخلاقية التي يُفترض أن ترسخها الثقافة.

5

للكتاب آباءٌ شتّى: عن سُلطة المُترجم وتشكُّلات النص

عن سُلطة المُترجم على النص وحدودها، وعلاقاتها مع الكاتب والناشر والقارئ

اقرأ/ي أيضًا

تتقاطع صور الحريم التي صوّرها الفنّانون المستشرقون مع خطابات التحرير المعاصرة

من الحريم إلى خطاب الإنقاذ.. تشريح الاستشراق الجنسي

انطلق الاستشراق الجنسي مع الحركة الرومانسية، وتجلّى في لوحات المستشرقين التي رسمت جسد المرأة الشرقية كرمز للفتنة والخضوع، ثم تحوّل التخيل إلى أداة استعمارية، عبر خطاب "إنقاذ المرأة المسلمة"

إسراء عرفات

ليبيا
ليبيا

حقوق الإنسان في ليبيا.. سنوات الإفلات من العقاب وجرائم بلا محاسبة

من سجون طرابلس السرية إلى مقابر ترهونة الجماعية، ومن مراكز احتجاز المهاجرين، نسجت ليبيا، خلال السنوات الخمس الماضية، واحدة من أكثر سرديات العنف والإفلات من العقاب قتامة في العالم المعاصر

خالد الورتاني

اليمن

الخاص والمشترك في تجارب وأحوال الأمم

تنْبع الأخطاء المعرفية وما ينجرّ عنها من مخاطر ومفاسد عامة عن وضع ظواهر وحوادث مختلفة بالنوع والزمان والمكان في لائحة تفسيرية واحدة والتعامل معها معرفيًا وكأنها الشيء نفسه وجودًا وعدما، كمًّا وكيفا.

محمد العلائي

الاستبداد

تحولات نظام الاستبداد في المجال العربي

من طريف سجالات الصراع بين عبد الناصر والإخوان أنّه كان يتهمهم بالعمالة لبريطانيا، في حين كانوا يصرّون على اعتباره رجل الولايات المتحدة

زهير إسماعيل

الكرامة الحمصي

محمد قويض.. الكرامة في ملعب الدكتاتورية

قدّم محمد قويض أبو شاكر نموذجًا مناقضا لما واظبت السلطة على ترويجه وشكّل تفنيدًا صريحا لسرديتها وتهديدًا لسلامة مفهومها حول السلم الأهلي

حيان الغربي

المزيد من الكاتب

محمود ليالي

كاتب وصحافي مصري

سياسة واستعمار: تجارة الجنس في مصر من العثمانيين إلى البريطانيين

ساهمت السياسة والاستعمار في صياغة ملامح تجارة الجنس في مصر بهدف تحويلها إلى أداة تخدم المصالح السياسية والاقتصادية على حساب الفئات المهمشة

من فعل مشين إلى فن نبيل.. كيف حوّل البشر العنف إلى مادة للتسلية؟

يرفض البشر العنف ويعتبرونه فعلًا مشينًا حين يمس حياتهم اليومية، لكنهم يحتفون به بوصفه فنًا نبيلًا في الرياضة والعروض الترفيهية

بين صافرتي البداية والنهاية.. كرة القدم كاستعارة للحياة

إنها لعبة معقدة، تحمل العديد من التشابهات مع الحياة اليومية، ففيها يمكنك أن تعمل ضمن مجموعة واضحة المعالم، وأن تقدم التضحيات على صخرة 'الكورفا' المقدسة، وأن تتحمل المسؤولية

بيب غوارديولا.. من الهوس إلى إيذاء النفس

هوس غوارديولا بالنصر يُظهره في صورة "الفيلسوف" بالنسبة للبعض، و"السيكوباتي" بالنسبة للبعض الآخر.

"هركبه وألفّ بيه مصر كلها".. القاهرة التي تصنع لغتها

الشارع المصري يتلقف كل جديد بشغف، يغربل ويشد كل شيء على مقاسه، مع الاعتماد على التكثيف واختزال المواقف والأفكار في كلمة واحدة أو كلمتين

الجيش الإسرائيلي وهندسة الإبادة.. الذكاء الاصطناعي آلة عمياء

كشفت تحقيقات متعلّقة باستخدام الجيش الإسرائيلي لأنظمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي عن عيوب تشغيلية خطيرة أدت إلى سقوط آلاف الضحايا الأبرياء في غزة