في البدء، كان الأمنُ ظلًّا يتبع الدولة حيث تسير، يحرس الطريق للمواطن ولا يصنعه، لكنه أصبحَ عقيدة سياسية تُبرّر كل قرار سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي وحتى رياضي؛ من عسكرة الحياة العامّة إلى قمع الحرّيات، إلى إعادة تشكيل الإدراك الجمعي للمواطنين في إطار الخوف، إذ تبلورَ الحفاظ على "الاستقرار" كهدف أسمى للدولة، صار دولةً داخل الدولة، لا تحمي الحقوق، بل تُعيد تعريفها وفق مقاييس رضا القيادة، وأصبحَ الاستقرار اسمًا مستعارًا للركود وذريعةً لإخماد السؤال.
تحذّرنا السلطات "إياكم والفوضى"، لكنها لا تحذّرنا من الظُلم أو الجوع أو الفقر أو القمع، إذ باتَ المواطن العربي يرى الدولة كدرع يحميه من "الفوضى" و"الآخر" و"المتربّصين" وليس كمؤسّسة في خدمته، وهو ما أدّى إلى تحوّلٍ خطير في العلاقة بين الحاكم والمحكوم خلال عقود من إعادة هندسة المجال السياسي والاجتماعي.
الدولة القوية والخوف
تحوّلت معظم الدول العربية بعد التحرر من الاستعمار التقليدي، من الاستناد على مفهوم "العقد الاجتماعي" الذي ينصّ على شرعية الحكم مقابل توفير التنمية والحقوق، إلى "عقد أمني" تقدّم الأنظمة نفسها فيه كحرّاس للدولة ضد المخاطر الداخلية والخارجية، وأصبح الولاء يُشترى بالحماية والنفعية، وليس بالحقوق.
ترى الفيلسوفة والباحثة الألمانية، حنة آرندت، أن الأنظمة التوتاليتارية ليست مجرّد أنظمةٍ استبدادية تقليدية، من حيث إنها لا تهدف فقط إلى السيطرة السياسية، بل إلى السيطرة الكاملة على المجتمع والفكر وحتى طبيعة الإنسان نفسه، ويُصبح الإرهاب جزءًا أساسيًا من النظام نفسه لإبقاء الجميع في حالة خوف دائم، بحيث لا يستطيع أحد توقع من سيكون الضحية القادمة.
وإذا أسقطنا مفهوم "السياسة الحيوية" (Biopolitics) عند الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو على هذا الوضع، لرأينا كيف لا تحكم السلطةُ بالعنف المباشر فقط، بل بزرع يقينٍ داخلي بأن الدولة وحدها تضمن الحياة الطبيعية، ويتجلّى ذلك بثلاثة مستويات في المنطقة العربية: خطابٌ إعلاميٌّ يلوّح بالهاوية لمن يفكر بالخروج من الصف، قوانين تمنح الأمن أولويةً على الخبز، ومشاريع تنموية تُوجَّه لخدمة أجهزة الدولة الأمنية، لا لحياة الناس.
منذ سنة 2011، وقفَ الناسُ في الساحات يهتفون للحرية، فباتوا إعلاميًا "مؤامرة"، وحينَ طالبوا بالعدالة صاروا "خونة"، ولمّا أرادوا أن يكونوا مواطنين فأصبحوا في عيون السلطة "أعداء الداخل"؛ كان المشهدُ واضحًا: لا يتّسع الوطن إلا لمن يقف في الصف الصحيح، بالزاوية الصحيحة، في اللحظة التي تحددها السلطة، ولم تعد الوطنيةُ مشروعًا، بل ولاءً أعمى، ولم يعد المواطنُ فردًا في مجتمع، بل مقاتلًا في جبهةٍ تُصنع أعداؤها بمرسوم، ولم تعد الحريةُ مطلبًا، بل لعنةً تطارد أصحابها.
التخويف بالأمنَ ليس وسيلةً بعد الآن، بل غاية؛ فقد أصبح ظلًا موحشًا يبتلع كل شيء. في موازنات الدول، إذ تتضخم الأرقام لصالح الجنود لا المعلّمين، السلاح لا البنية التحتية والخدمات، السجون لا المستشفيات، وكأن المواطن تمرّد مُحتمل يجب أن يُجهض قبل أن يمارس إرهابه.
وهنا، نسألُ من منطلق ابن خلدون: هل الدولة القوية تحتاج إلى هذا الكمّ من الخوف؟ أم أن هذا الخوف علامة هشاشتها؟ إن الدول التي تحكم بالخوف تخلق توترات داخلية لا يمكن ضبطها، وإذا كانت تعتمد على التخويف لضمان بقائها، فالسؤال ليس إن كان هذا النموذج سينهار، بل متى وكيف؟ وفي العالم العربي، لم يعد الأمن مجرد وظيفة للدولة، بل أصبح العقيدة المركزية التي تبرّر كل قرارٍ سياسي واقتصاديٍ، سواءً كان ذلك في عسكرة الدولة، أو تقييد الحريات، أو تشكيل التحالفات الإقليمية.
وحين ننظر إلى الوراء قليلًا، نرى كيف استُبدلَ حديثُ الإصلاح السياسي بخطاب "محاربة الفوضى"، ففي مصر مثلاً، كانت الاحتجاجات في 2011 و2013 تُبرَّر من قبل المشاركين بأنها مطالبات بحقوق مدنية واقتصادية، لكن بعد عودة الدولة الأمنية، تغيّرت الرواية بالكامل لتصبح الاحتجاجات مرادفًا للفوضى والتدخل الخارجي. هذا الانزلاق من خطاب الحقوق إلى خطاب الخوف جعل كثيرًا من الناس يفضّلون القبول بالوضع الراهن مهما كان قاسيًا، على المخاطرة بالتغيير؛ وهذا -بحسب آرندت- شكلٌ متطرّفٌ من الديكتاتورية، يسعى إلى إعادة تشكيل الواقع بالكامل، بحيث لا يكون هناك مجال للفكر الحرّ أو الوجود المستقل، والخطر الأكبر في هذه الأنظمة ليس فقط العنف وزرع الخوف، بل قُدرتها على محو الذات الإنسانية، وتحويل الأفراد إلى أدوات طيّعة للنظام دون حتى أن يدركوا ذلك.
كان من المفترض أن يكون الأمنُ طريقًا إلى التنمية، فإذا به جدارٌ يسدّها. كان ينبغي أن يكونَ الحارسَ، فإذا به يصبح الحاكمَ، إذ لم يعد الحاكمُ يقيس نجاحه بعدد المدارس التي بناها، ولا بعدد المشافي التي افتتحها، ولا بعدد الفرص التي صنعها لشبابه، بل بعدد الكاميرات التي زرعها، وعدد الأسلاك الشائكة التي مدّها، وعدد التقنيات التي اشترتها دولته لتراقب نفسها. تتضخم ميزانيات الجيوش التي لا تخوض حروبًا، ويصبح الأمنُ مشروعًا اقتصاديًا بحدّ ذاته، لا لحماية الشعوب، بل لحماية الأنظمة. لم تعد الدولةُ حَكَمًا بين المصالح، بل صارت لاعبًا شرسًا في السوق، تسيطر على الموارد، توجّهها، تمنحها لمن يثبت ولاءه.
أصبح الخوف مشروعًا اقتصاديًا في حد ذاته، حيث أعيدت هيكلة الاقتصادات العربية لتخدم الأجهزة الأمنية والعسكرية، مما أدى إلى تكريس نموذج "الاقتصاد الأمني" على حساب الاقتصاد الإنتاجيـ ولم تعد الدولة حَكَمًا فقط بين المصالح الاقتصادية، بل لاعبًا اقتصاديًا رئيسيًا يسيطر على الموارد ويوجّهها لصالح نخبته السلطوية. اتجهت الأنظمة إلى تعزيز نفوذ المؤسّسات الأمنية والعسكرية في كافة القطاعات الاقتصادية، من صناعة الأدوات الكهربائية إلى فراشي الأسنان.
عسكرة الاقتصاد
في مصر، على سبيل المثال، منذ عام 2013 تضخّم دور الجيش في الاقتصاد بشكلٍ غير مسبوق، حيث أصبحت المؤسّسات العسكرية تدير مشاريع البنية التحتية، والإسكان، وحتى الصناعات الغذائية. الشركات التابعة للقوات المسلحة تحصل على امتيازات غير متاحة للقطاع الخاص، مثل الإعفاءات الضريبية، وإمكانية استخدام العمالة المجندة بأجور زهيدة، مما يجعل من المستحيل على أيّة شركة مدنية أن تنافسها. وبدلًا من أن يكون الجيش مؤسّسة لحماية الدولة، أصبح فاعلًا اقتصاديًا مهيمنًا يحدد من يربح ومن يخسر في السوق، وحيث كل شيء يبدو مؤقتًا إلا الخوف، لم يعد الاقتصادُ إنتاجيًا، بل صار أمنيًا. لم تعد الدولةُ تبني، بل تحرس، ولم يعد المستقبلُ يُرسم على الورق، بل يُراقَب على شاشات الإعلانات. لكن ماذا بعد؟ هل يمكن لبلدٍ أن يزدهر في قفص؟
هذا التحوّل ليس محصورًا في مصر وحدها، ففي الجزائر، يُشتهر امتلاك قيادات عسكرية أذرعًا مالية في الساحة الاقتصادية، من كبار أرباب الأعمال، حيث يلقى هؤلاء دعمًا غير محدود في استحواذهم على المشاريع العمومية، واحتكار استيراد بعض المنتجات واسعة الاستهلاك دون منافسة على مستوى التجارة الخارجية، وقد سبق وأن حدثت صدامات مكشوفة على مستوى الإعلام، حين اتهم الأمين السابق لحزب جبهة التحرير التاريخي (حزب السلطة) عمار سعيداني، أحد الجنرالات المتقاعدين بالوقوف وراء رجال الأعمال الثري يسعد ربراب، وقال وقتئذٍ إن الجنرال يريد شراء مجمعًا إعلاميًا متخفيًا وراء رجل أعمال، لخدمة أجندته السياسية.
في أغلب الدول العربية، تمثّل ميزانيات الدفاع والأمن نسبة هائلة من الإنفاق العام، بينما تعاني القطاعات الأساسية مثل التعليم، الصحة، والبحث العلمي من تهميش مزمن، لكن المشكلة لا تكمن فقط في حجم الإنفاق، بل في نوعيته: فبدلًا من أن يكون هذا الإنفاق موجهًا لحماية المواطنين، يتم استثماره في شراء أدوات السيطرة الداخلية، كتقنيات المراقبة والتجسس مثل "بيغاسوس" الإسرائيلية لمراقبة المعارضين، مما يعكس كيف أن مفهوم الأمن أصبح متعلقًا بالحفاظ على النظام السياسي أكثر من حماية الدولة من التهديدات الخارجية التي تمثّلها إسرائيل مثلاً.
لكن هل هذا النموذج مستدام؟ هنا يمكننا العودة إلى تحليل ماكس فيبر حول "احتكار العنف الشرعي"، حيث يشير إلى أن الدولة التي تعتمد فقط على القوة لضبط المجتمع لن تكون قادرة على الاستمرار دون شرعية حقيقية، في العالم العربي، نحن أمام مشهد معقد: الأنظمة تستثمر في الأمن كوسيلة للبقاء، لكن هذا الاستثمار نفسه يعمّق أزمات الفقر، البطالة، والتفاوت الطبقي، مما يخلق بيئة خصبة للاضطرابات التي تُحاول هذه الأنظمة منعها بالأساس باستخدام "الخوف"، أي أنها تضع نفسها في دائرة خوف بدلًا من استخدام الخوف لتثبيت حكمها، ويمكن ذكر نموذج السودان كمثال ممتاز، فبعد عقود من حكم عمر البشير الذي اعتمد على الجيش والأجهزة الأمنية كدعامة أساسية لاقتصاده السياسي، انهار النظام عندما لم يعد قادرًا على إدارة التناقضات الداخلية.
إذا كان الاقتصاد أصبح خاضعًا لمنطق الأمن في العالم العربي، فإن السياسة الخارجية ليست استثناءً، بل تعكس بشكل أوضح كيف أصبح "الاستقرار السلطوي" هو المعيار الأوّل لتشكيل التحالفات الإقليمية، متجاوزًا أي اعتبارات قومية، أيديولوجية، أو حتى أمنية تهدّد مصالح الشعب والدولة، فباتت تحالفات أمنية محضة، تُصاغ وفقًا لمن يستطيع ضمان بقاء النظام السياسي وليس وفقًا للمصالح الاقتصادية أو التحوّلات الأيديولوجية. وأحد أوضح الأمثلة على هذا التحوّل هو التطبيع المتسارع مع إسرائيل، والذي لم يكن مدفوعًا بأي تغير جوهري في مواقف الشعوب أو حتى في طبيعة الصراع العربي-الإسرائيلي، بل كان نتيجة تحولات أمنية داخلية لدى الأنظمة العربية.
يرى كارل شميت أن أساس السياسة ليس الاقتصاد أو الأيديولوجيا، بل القدرة على تعريف "الصديق والعدو"، في العالم العربي الرسمي لم تعد "إسرائيل" تُعامل كعدوٍّ بقدر ما تُعامل كـ"شريك في الاستقرار السلطوي"، بينما بات العدو الحقيقي لكل نظام هو أيّة قوة تهدد وجوده داخليًا، سواءً كانت حركات معارضة، حركات ديمقراطية، أو حتى احتجاجات شعبية، وفي ظل هذا التحول، تشكّل ما يمكن تسميته ميكافيليًا بـ "محور الاستقرار السلطوي"، الذي يضم دولًا مثل المغرب، الإمارات، البحرين، مصر، وإسرائيل، تقوم العلاقة بينها على تبادل المعلومات الأمنية، وشراء تقنيات المراقبة، وتنسيق الجهود لقمع الحركات الاحتجاجية أو الإصلاحية.
شرعية القمع الأمني
النتيجة الخطيرة لهذا النمط من التحالفات هي أن العالم العربي بات يفتقد لأي مشروع إقليمي مشترك قائم على التنمية أو التكامل الاقتصادي؛ فبدلًا من أن يكون هناك "مشروع عربي" أصبحت الأولوية للتحالفات الأمنية المؤقتة التي تخدم بقاء الأنظمة، ما يعني أن هذه التحالفات هشة بطبيعتها، لأنها لا تقوم على مصالح مستدامة، بل على ترتيبات أمنية قد تنهار مع أي تغير داخلي كما حدث في سوريا مع سقوط نظام الأسد وخروج إيران من المعادلة.
في كتاباته حول "العنف الرمزي"، يُشير بيير بورديو إلى أن أقوى أشكال السلطة ليست تلك التي تُفرض بالقوة، بل تلك التي تجعل الخاضعين يقبلون وضعهم كأمر طبيعي، وفي العالم العربي، لم تعد الأنظمة بحاجة إلى قمع مباشر طوال الوقت، لأنّ الخوف نفسه أصبح أداة ضبط ذاتي داخل المجتمعات، فكثير من المواطنين العرب لا يحتاجون إلى أن تخبرهم الدولة بعدم التظاهر أو عدم المطالبة بحقوقهم، لأنهم أصبحوا مقتنعين بأن أي محاولة للتغيير ستقود إلى كارثة، لقد تحوّل الهاجس الأمني إلى طريقة تفكير يومية، بحيث بات الفرد العادي يفضّل الجمود على أي محاولة للإصلاح، ليس لأنه راضٍ عن النظام، بل لأنه مقتنع بأن البديل هو الفوضى والانهيار.
لكن المشكلة في هذا النمط من الحكم أنه يحتاج إلى جرعات متزايدة من الخوف ليستمر؛ فالأنظمة التي تبني شرعيتها على القمع الأمني، وليس على الإنجاز الفعلي، تجد نفسها مضطرة إلى تصعيد القمع بشكل دائم، لأن أي تراجع في القبضة الأمنية قد يؤدّي إلى انهيار النظام كله، والتاريخ يثبت أن هذه الاستراتيجية لا يمكن أن تدوم للأبد، والتجارب عديدة من إيران الشاه إلى تونس بن علي إلى سوريا الأسد.
إذا كانت الأنظمة العربية تخشى الفوضى؛ فالفوضى ليست شبحًا يتسلل من قفل الباب، بل يُصنع داخليًا بالقمع حين وغياب العدل ومنع السؤال، والحلّ ليس مزيدًا من الخوف، بل مزيدًا من الثقة. ليس في بناء سجونٍ أعلى، بل في بناء مدارس أفضل. ليس في استثمار الملايين في أجهزة المراقبة، بل في استثمارها في العقول التي تستطيع أن ترى ما وراء الكاميرات. فالتاريخ لا يحمي من يراهن على القمع. والدول التي بنت جدرانها من الخوف، اكتشفت أنها حين سقطت، لم تجد من يبكيها.
ففي آسيا، وأوروبا، وفي أماكن أخرى من هذا العالم، اختارت بعض الدول الاستثمار في شعوبها لا في شرطتها، فوجدت الأمن الذي لا يحتاج إلى عصا، والاستقرار الذي لا يحتاج إلى قانون طوارئ. والسؤال الآن ليس: هل يمكن كسر دوامة الخوف؟ بل: متى سيتشكف المواطنون أن البديل كان موجودًا طوال الوقت؟