هاجمت القوّات الروسية الحدود الأوكرانية على عدّة جبهاتٍ، وقصفت أسراب الطائرات الحربية والصواريخ الدقيقة المدن والقرى، موفّرة تغطية نارية للأرتال العسكرية التي اقتربت من العاصمة كييف، لكنّها بعد أيام من التقدّم تعرّضت لمقاومةٍ شرسةٍ، وفشلت في إحكام الحصار وإسقاط حكومة الرئيس فلاديمير زيلنيسكي.
شكّلت هذه الواقعة أسوأ لحظةٍ في مسيرة العلاقات الأميركية الروسية، والتي بدأت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 وأخذت في التذبذب صعودًا وهبوطًا، إلى أن وصلت للحظة تهديد الرئيس الروسي لاستخدام السلاح النووي ضدّ الناتو، بل وحتى نقل مخزون من السلاح النووي التكتيكي إلى بيلاروسيا 2023، وتغيير العقيدة النووية الروسية برمتها 2024.
وأمام هذا التهديد ظهرت سرديتان للحدث، أوّلهما هي الرواية الروسية، التي تقول إنّ المحادثات والوعود التي قدّمها قادة الناتو لأوكرانيا، هدّدت الأمن القومي الروسي، ووجب على روسيا أن تتصرّف وتقطع الطريق قبل أن تُصبح القواعد والقوات الأميركية على حدودها وداخل مناطق نفوذها، فمنذ نشأة الأمّة الروسية علي يد إيفان الرهيب في القرن السادس عشر، وهي تتجه إلى التوسع الجغرافي وابتلاع مساحات هائلة للتغلب على عوائق الجغرافية في الدفاع عن أمنها القومي، هذه هي الرؤية التي قدمها الرئيس فلاديمير بوتين ودافع عنها عدد من المثقفين وقادة الأحزاب اليمينية في أوروبا وعدد من مثقفين اليسار التقليدي حول العالم.
وهناك الرواية الليبرالية، التي تدّعي بأن الحرب على أوكرانيا هي حلقة في مسلسلٍ طويلٍ من اعتداء النظام الدكتاتوري في روسيا على الديموقراطية الأوروبية، وضدّ كل قيم العالم الحرّ، حيث بدأت من دعم بوتين لأحزاب اليمين المتطرّف في أوروبا، ثم التدخّل إلكترونيًا في الانتخابات الأميركية وشنّ هجمات سيبرانية عليها وعلى حلفائها.
وما إن ينتهي نظام بوتين من السيطرة على أوكرانيا حتى ينتقل إلى بولندا المجاورة ويُتابع الاستيلاء على الدول التي كانت تحت سيطرة الاتحاد السوفييتي سابقًا، وهذه الرؤية يؤيّدها أغلبُ زعماء الأحزاب الليبرالية وأحزاب الوسط في أوروبا والحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، وتروجّها عدّد كبير من وسائل الإعلام العالمية.
وصل الرئيس دونالد ترامب للبيت الأبيض في كانون الثاني/يناير من هذا العام، لتصوّت الولايات المتحدة إلى جانب روسيا وحلفائها ضدّ قرارٍ في الأمم المتحدة يدين الغزو الروسي لأوكرانيا، وبعدها سيستقبل ترامب الرئيس الأوكراني في البيت الأبيض ويتّهمه بالتسبب في هذه الحرب، وأنه لا يسعى للسلام بل ويهدّد الأمن العالمي باحتمال قيام حرب عالمية ثالثة.
وأمام هذه التناقضات وجب التساؤل: هل امتلكت الولايات المتحدة استراتيجية ثابتة تجاه روسيا منذ نهاية الحرب الباردة؟ ولماذا ضاعت فرصةُ السلام بين أكبر قوتّين عسكريتين في العالم؟ وكيف سيكون مصير النظام العالمي بعد سلوك الإدارة الأميركية الحالية للرئيس ترامب تجاه الانفتاح على عالم متعدّد الأقطاب؟
خطوة للأمام وخطوتان للخلف
يُمكن اختصار تاريخ العلاقات الأميركية الروسية على مدار ثلاثين عامًا، إلى سلسلة من الدورات، تبدأ الدورة الواحدة بإدارة أميركية جديدة، تريد تحسين العلاقات الخارجية وحلّ المشاكل التي تورطت فيها الإدارة السابقة فيما يعرف بإعادة الضبط "Reset"، فتبدأ بمقاربة جديدة لحل الخلافات وتجديد الشراكة، حتّى تأخذ العوائق بالظهور، وتتراكم واحدة بعد أخرى، ما يهدّد بوقوع كارثةٍ جديدة وانهيارٍ لكلّ محاولاتِ الإصلاح، ومع انتهاء الإدارة القائمة، تكون العلاقات الأميركية الروسية عند أسوأ ما يكون، وهي الحادثة التي تكرّرت منذ بيل كلينتون مرورًا بجورج بوش وباراك أوباما، وصولًا إلى جو بايدن والآن دونالد ترامب.
ففي العام 1991، تحدث الرئيس جورج بوش الأب أمام الكونجرس، عن ضرورة بناء وضع تشاركي جديد، تتقارب فيه القوّتان الأكبر في العالم، وتُنحيّان خلافاتهما جانبًا وتتعاونان على حلّ الكثير من المشكلات العالمية، ليأتي الخطاب وسط حالة من التفاؤل بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ونهاية الحرب الباردة التي هدّدت العالم بخطرٍ نووي لما يقارب الأربعة عقود، ويُبشّر الجميع بمستقبل أكثر أمانًا، وخصوصًا بعد توقيع اتفاقية تفكيك الترسانة النووية (START 2)، والتفاوض حول شروط انضمام ألمانيا الموحّدة لحلف شمال الأطلسي، والتعاون حول عدد من المشاكل خارج أوروبا والتي تخصّ الشرق الأوسط، لتتعرض العلاقات الأميركية الروسية إلى أول أزمة لها عام 1993، عندما قرر الرئيس بوريس يلتسن مستعينًا بقوّات الجيش اقتحام مبنى البرلمان الروسي، ما مكنه من تعزيز قبضته على السلطة وفرض دستور جديد للبلاد لتذهب كل محاولات الإصلاح السياسي أدراج الرياح.
جاء التدخل الأميركي في الأزمة الصربية-البوسنية، ثم الحملة العسكرية المنفردة في كوسوفو ضد القوات الصربية 1999، لتقدم الولايات المتحدة نفسها إلى شعوب تلك المنطقة، بوصفها حليفًا قويًا يضمن حماية الأقليات وداعمًا كبيرًا للحركات الديموقراطية، ما جعل السياسيين الروس يخشون من تكرار سيناريو التدخل.
ولكن هذه المرة في الشيشان والتي تدخلوا فيها عسكريًا لمحاولة قمع التمرّد هناك، ومن تلك اللحظة بالغة السوء في العلاقات الأميركية الروسية، وُلدت سردية توسّع الناتو التي تبنتها النخبة الروسية وساهمت في تعزيزها خلال بداية الألفية الجديدة.
بوصول الإدارة الجديدة لجورج بوش الابن عام 2001، اعتُبرت روسيا بلدًا فاشلًا، تخلّفت للتوّ عن سداد ديونه ويمر بأزمة اقتصادية خانقة، بالإضافة لموقفه السلبي من الديمقراطية ومطاردة منظّمات المجتمع المدني، لكن بوقوع أحداث تفجير برجي التجارة في 11 أيلول/سبتمبر، استغل بوتين الحادث الإرهابي ليؤكّد تضامنه المطلق مع الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب واستعداده للتعاون والتنسيق معها في حربها ضد أفغانستان.
اتجهت العلاقات الأميركية الروسية إلى مسار تصحيحي، قبل أن تواجه عددًا من العقبات، مثل رفض روسيا لغزو العراق، ورفضها انضمام جورجيا وأوكرانيا للناتو بعد دعم الولايات المتحدة للثورات الملونة في شرق أوروبا، وتحجيم نفوذ الروس هناك، وبنهاية عهد إدارة بوش أصبحت العلاقات الأميركية الروسية مرّة أخرى في الحضيض، وبحسب تصريح وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك كوندوليزا رايس "روسيا دولة في طريقها للعزلة والتهميش، بفضل سلوكها العدواني على الصعيد الدولي وتجاهلها أية محاولات لإصلاح اقتصادها".
بعدها، عرفت العلاقات الأميركية الروسية تحسنًا غير مسبوق، بوصول الرئيس الروسي الجديد دميتري ميدفيدف عام 2008، وشروع إدارة الرئيس أوباما بإعادة ضبطها مرة أخرى، وتقدّيم كامل دعمها لمساعي ميدفيدف لإصلاح الاقتصاد والنظام السياسي الروسي، لكنها تعطلت مجددًا بعد دعم الولايات المتحدة للربيع العربي، وخصوصًا إسقاطها لنظام معمر القذافي في ليبيا وتأييدها للثورة السورية وفق زعمها، حيث الحلفاء الأهمّ لروسيا في الشرق الأوسط.
وبعودة بوتين عام 2012، نكصت المؤسسة الحاكمة في روسيا عن كامل وعودها وخطواتها نحو التغيير التي بدأها ميدفيدف، ليبدأ بوتين عهده الجديد بمطاردة المنظمات غير الحكومية والنشطاء السياسيين ومنع المظاهرات في الأماكن العامة، وصولًا إلى اللحظة التي صنعت المشهد الحالي، عندما قرر بوتين السيطرة على شبه جزيرة القرم ودعم الانفصاليين في إقليمي دونيتسك ولوهانسك في أوكرانيا، عقب اندلاع الثورة الأوكرانية عام 2014 والتي رحبت بها الولايات المتحدة الأميركية وزارها كبار السياسيين الأميركي ين في مقدمتهم جون ماكين.
وبوصول دونالد ترامب للبيت الأبيض عام 2016، بدأت أصابع الاتهام توجه إلى موسكو لضلوعها المباشر في فوز ترامب، الذي حاول عمل "إعادة ضبط" للعلاقات الأميركية لكن بلا أية شروط هذه المرة، لكن عطله الكونجرس الأميركي الذي رفض رفع العقوبات عن روسيا، والتي تضاعفت بعد اشعال روسيا للحرب الأوكرانية.
تحركت العلاقات الأميركية الروسية خطوة للأمام وخطوتين للخلف لما يزيد عن الثلاثين عامًا، بغض النظر عن الإدارة الأميركية وأجندتها وسياسة حزبها وهو ما يعني أن هناك استراتيجية خفية اتفق عليها الجميع من كلنتون لبوش واوباما وحتى جو بايدن، لكن ما هي ملامح تلك الاستراتيجية؟
بلد فاشل بحاجة إلى إصلاح
في لقائه مع الـCNN، يقول السيناتور الأميركي الشهير جون ماكين: "روسيا هي محطة بنزين، بلدٌ فاسد تحكمه طبقة من اللصوص، وتعتمد اقتصادها بشكلٍ أساسي على الوقود والغاز"، لم يكن هذا رأي جون ماكين وحده ولا حتى حزبه من الجمهوريين، وإنما كان موقفًا أساسيًا اتخذته مؤسّسة الخارجية الأميركية كإستراتيجية منذ الرئيس بيل كلينتون حتى الآن، فروسيا ما بعد الحرب الباردة اعتُبرت بلدًا فاشلًا يحتاج للإصلاح، بل وحتى تجربة هندسة اجتماعية، تمتلك الولايات المتحدة الحق وتتحمل المسؤولية في انجاحه، فقد سعت الولايات المتحدة منذ نهاية الحرب الباردة لترويج نموذج ديموقراطي في روسيا لسببين، الأوّل براغماتي والثاني مثالي (ليبرالي) خالص.
ففي الشقّ البراغماتي، اعتُبر وجود نظام ديموقراطي هو البديل الوحيد المُستقر كي يتعامل مع الجغرافيا السياسية الواسعة والمتعددة الأعراق لروسيا، بالإضافة إلى كونه البديل الآمن الوحيد في التعامل مع ترسانة نووية بتلك الضخامة.
أما الطرف الليبرالي في المعادلة فكان سعيُ الولايات المتحدة لخلق روسيا جديدة على صورتها، دولة ذات ديموقراطية ليبرالية واقتصاد سوق، من خلال الترويج لأجندات سياسية تحملها المنظمات غير الحكومية (NGOs) والتي تحصل على تمويلها مباشرةً من صندوق التنمية الدولي (USAID)، وتطوير اقتصادها عن طريق برامج التقشف والدعم المالي من المؤسّسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لتصبح تلك البرامج السياسية والاقتصادية هي الطريق الوحيد الذي لابد وأن تسلكه موسكو كي تصبح مؤهلةً كفاية للتعاون مع الولايات المتحدة على الصعيد العالمي.
لم تأتِ تلك البرامج بأيّة نتائج ملموسة خلال عقد التسعينات بأكمله، فمحاولات فرض أجندة مُعدة سلفًا من أعلى، كانت أشبه بالطريقة التي لجأ إليها الاستعمار لتقسيم البلاد ورسم خرائط الدول المُستقلة حديثًا دون فهمٍ واضح للظروف والطبيعة الاجتماعية للبلد، فبرامج الخصخصة التي خضعت لها روسيا أدت إلى وقوع أغلبية الشركات والمصانع الحكومية في يد عدد محدود من الأثرياء، والذين كانوا فاسدين ومنتفعين من النظام السابق، وأطلق عليهم فيما بعد بالطبقة الأوليغارشية.
فمن خلال احتكارهم لشركات البترول والطاقة والغاز والقطاعات المالية والصناعية، استطاعوا فرض سيطرتهم على وسائل الإعلام والبروباغندا، من ثم مساعدة السياسيين للوصول إلى مناصبهم في مقابل المزيد من عقود الاحتكار، وهو ما حدث مع بوريس يلتسن في فترة رئاسته الثانية، ثم مع بوتين في أول الألفية.
لم تنجح منظمات المجتمع المدني في الترويج لأجندتها والتي لم تكن أكثر من مجرد رطانة ليبرالية غير جادة، بالإضافة أنها لم تجد آذن صاغية عند الروس والذين انخفضت معدّلات دخلهم وتراجع متوسّط أعمارهم بنسبة 50%، وواجهوا تضخمًا جاوز 200% خلال السنوات الأولى، وبحسب جيفري ساكس وهو اقتصادي تولى مسؤولية الإشراف على برامج الخصخصة، فإن استراتيجية العلاج بالصدمة لتحرير الاقتصاد الروسي قد فشلت، بسبب السياسة المالية غير المنضبطة من قبل البنك المركزي، وعدم اهتمام المراكز المالية في الغرب بدعم خطوات التحرير، على العكس من النتائج الناجحة مع بولندا قبل أربعة سنوات، وهي التجربة التي دعمتها الولايات المتحدة لأنها حليف، على عكس روسيا الخصم.
السلام الضائع
نشأ حلف شمال الأطلسي (NATO)، كتكتّلٍ غربي بقيادة الولايات المتحدة، في مواجهة الاتحاد السوفييتي وكتلة ما وراء الستار الحديدي، فمن خلال تقسيم العالم لقطبين/تكتلين، دارت الحرب الباردة بأكملها منذ نهاية الأربعينات وحتى بداية التسعينات مع تفكك الاتحاد السوفييتي، حيث توقع الجميع انتهاء عصر الأقطاب والتكتلات العسكرية والخروج من حالة الحرب الباردة، لكن ما حدث كان العكس، فحلف شمال الأطلسي استمرّ وجوده بل أخذ في الاتساع والتوجه شرقًا ليضم بولندا وجمهورية التشيك وهنغاريا عام1997، وهو ما علق عليه ميخائيل غورباتشوف بأنه خطأ استراتيجي سيُعقّد المشكلات بدلًا أن يحلّها، وهو الموقف نفسه الذي اتخذه بوريس يلتسن.
في كتابه "السلام الضائع: كيف فشل الغرب في منع الحرب الباردة الثانية"، يجادل الباحث السياسي ريتشارد ساكوا، بأن النظام العالمي ما بعد الحرب الباردة هو نسخة أكثر راديكالية من النظام الذي أسسته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية وخاضت به الحرب الباردة، وهو ما يسميه "الديموقراطية الأممية "(Democratic Internationalism)، وهو نظام يعتمد على عنصرين اثنين، الأول هو الشرعية أو المبرر الأيديولوجي (الديموقراطية)، والثاني هو القوة العسكرية والمالية، وبهذا النظام تترسخ سيطرة هذا الحلف وتتوسّع عن طريق إضافة دول أخرى إليها تحت هيمنة الولايات المتحدة، فعندما فشلت روسيا في التحوّل إلى الصورة التي كانت مطلوبة منها، وجدت نفسها في مواجهة هذا التحالف المُتنامي، والذي شكل حضوره أهمية قصوى لكل الدول التي تحررت من سيطرة الاتحاد السوفيتي في شرق أوروبا، من أجل إعادة هيكلة اقتصادها وقيام أنظمة سياسية مستقرة.
لم تقبل القيادة السياسية في موسكو بالنظام الجديد، فمنذ غورباتشوف ويلتسن وصولًا إلى بوتين، كانت الآمال معقودة على العودة لنظام "الأمم ذات السيادة" (Sovereign Internationalism)، الذي أقره ميثاق الأمم المتحدة عام 1945، والذي قدّم إمكانية قيام نظام دولي يعتمد بالأساس على حق الأمم في تقرير مصيرها، والتعاون بين العديد من الدول على حل مشاكلها للوصول إلى السلام العالمي وحماية حقوق الانسان بعيدًا عن الأحلاف والتكتلات، لكن حال الصراع الأيديولوجي بين الاشتراكية والرأسمالية طوال أربعين عامًا من قيام هذا النظام، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الصراع الأيديولوجي، كان يُنتظر العودة للأمم المتحدة والمساهمة في تحسين عملها وجعلها أكثر فعالية، وأن تصبح روسيا جزءًا لا يتجزأ من أوروبا وعنصرًا فاعلًا فيها.
ولذلك يُعتبر ساكوا أن الفترة منذ بداية التسعينات وحتى عام 2014 هي فترة السلام البارد (Cold Peace)، والتي استعدت لها روسيا باستئناف مشروعات تصنيع وتطوير ترسانة عسكرية كبيرة، بالإضافة لمحاولة الاستفادة من النظام الجديد بأكبر قدر ممكن، سواءً بمبيعات البترول والطاقة للدول الأوروبية أو بالوصول للأسواق والاستثمارات العالمية، وبدايةً من العام 2014 واحتلال جزيرة القرم، بدأت الحرب الباردة الثانية، والتي أخذت في التطور بدعم رموز اليمين المتطرف في أوروبا والذي يسعى إلى هدم الاتحاد الأوروبي والخروج من الناتو، ثم التدخل في الانتخابات الأميركية لصالح دونالد ترامب عام 2016، وانتهاءً باجتياح أوكرانيا وتدميرها، ويعتبر ساكوا أن النسخة الثانية من الحرب الباردة هي نسخة أكثر خطراً، ليس فقط لزيادة القدرات التدميرية مع التكنولوجيا المتطورة، وإنما لأن الصراع يحدث تحت غطاء النظام نفسه، وتبادل الضربات يمكنه أن يصبح خطراً على العالم بأسره وفي جميع مجالات النشاط البشري.
البديل الخاطئ لدونالد ترامب
يقود ترامب خلال فترته الثانية، مفاوضاتٍ لوقف الحرب الروسية الأوكرانية، بدأها بتوجيه أصابع الاتهام إلى كييف وإدارة فلاديمير زيلنسكي بالإضافة إلى إدارة الرئيس السابق جو بايدن، ليقطع بعدها المعونات العسكرية والاستخبارية من أجل فرض حالة من الاستسلام تحت شعار السلام وإيقاف الحرب، حيث يرى ترامب ذلك الصراع من منظور مختلفٍ تمامًا عن منظور الحرب الباردة أو ما بعدها، فخبرته كرجل أعمال تجعله يرى العالم على هيئة مراكز قوى ممثلة في أشخاص وكيانات بعينها، فهو لا يعبأ بالديموقراطية ولا الليبرالية ولا الأمم المتحدة، وإنما يرى العالم فقط بثنائية القوى والضعيف، القوي هو الذي يستطيع أن يُملي شروطه على الأسواق، والضعيف هو من يقبل تلك الشروط، لذلك يرى أن حدوث تلك الحرب كان ممكنًا فقط بسبب ضعف الإدارة الأميركية السابقة وحلفائها الأوروبيين.
تتقاطع رؤية ترامب مع عددٍ من قادة الأحزاب اليمينية في أوروبا، مثل مارين لوبان في فرنسا، وفيكتور أوربان في هنغاريا، وأنصار (Brexit) في إنجلترا، وحزب البديل الألماني، وهي رؤية تنتمي لعالم ما قبل الحرب العالمية الأولى 1914 حيث يسود نظام من السيادة القومية الانعزالية، والتي جاءت الحرب العالمية الأولى كنتيجة حتمية لها، قبل أن تستأنفها صعود الفاشيات الإيطالية والألمانية وتندلع الحرب العالمية الثانية.
لا يقدم ترامب حلًا فعالًا لأزمة الاستراتيجية الأميركية، التي تسببت في حرب باردة أولى وثانية، وخلقت من روسيا عدوًا أبديًا مُتخيلًا دون أن فرصة لإصلاحه بشكلٍ جدّي، أو حتى معاملته على أساس وثيقة الأمم المتحدة واستراتيجيتها الآمنة التي تضمن ألا تتكرّر الحروب العالمية مرة أخرى، ما يذهب اليه ترامب والأحزاب اليمينية الصاعدة حول العالم، هو اجترار لشروط مأساة سابقة كما فعل بايدن وحلفاؤه الأوروبيون من قبله تمامًا.