ترتبط قوة الدولة واستراتيجيتها الأمنية بالجغرافيا، التي يمكّن استخدامها الدول من توسيع نفوذها في الساحتين الإقليمية والدولية، الأمر الذي يبرز بوضوح في حالة روسيا وتركيا وإيران، بوصفها دولًا لديها رؤية جيوسياسية توسعية، وتدرك أن أفضل طريقة لضمان استقرارها وتوازنها الإقليمي تكمن في تمدد نفوذها على مساحات جغرافية متعددة.
تنطلق هذه الرؤية من الاعتقاد بأن النظام الدولي لم يعد أحادي القطب، بل متعدد الأقطاب. وبسبب القرب الجغرافي والمنافسة الإقليمية وتقارب المصالح تارةً وتباعدها تارةً أخرى، تحافظ كل من طهران وأنقرة وموسكو، على درجة عالية من الاعتماد المتبادل، وتتبنى جميعها سلوكًا تنافسيًا أو تعاونيًا في سيناريوهات عدة، من القوقاز إلى الشرق الأوسط وصولًا إلى إفريقيا.
الجغرافيا السياسية وتأثيراتها
تبنت الدولة الروسية، منذ نشأتها، سياسات توسعية بهدف ضمان أمن حدودها. وقد مالت أحيانًا إلى استخدام القوة الصلبة في سبيل تحقيق ذلك، حيث أعلن القادة الروس، مرارًا وتكرارًا، عن الحاجة إلى استخدام القوة الصلبة لتعزيز النفوذ الروسي، حتى لو كان الثمن بقاء روسيا في حالة حرب دائمة. ما يعكس، وبوضوح، تطلعات روسيا التوسعية التي لم تعد تقتصر مؤخرًا على فضائها الأوراسي فقط، بل أصبحت تسعى إلى تعزيز نفوذها في مناطق أخرى مثل الشرق الأوسط وإفريقيا وغيرها، في إطار محاولاتها لاستعادة مكانتها بوصفها قوة عالمية عظمى.
وفي الحالة التركية، أصبحت السياسة الجغرافية تلعب دورًا مهمًا في تشكيل السياسة الخارجية للدولة، وذلك بعد استبدال سياسة "السلام في تركيا، السلام في العالم"، التي اعتُمدت في عهد كمال أتاتورك، بأخرى جديدة تهدف إلى إعادة الانتشار في أوسع نطاق جغرافي ممكن.
لا يُعد هذا التحول انزياحًا عن سياسة أتاتورك فحسب، بل يمثل أيضًا تغيّرًا جوهريًا في السياسة الخارجية لـ"حزب العدالة والتنمية"، الذي اعتمد في بداياته مبدأ "صفر مشاكل مع الجيران"، وسعى إلى توسيع نفوذ تركيا من خلال الروابط التجارية والدبلوماسية وأدوات القوة الناعمة. لكنه، خلال السنوات الأخيرة، اتبع سياسة أخرى أكثر حزمًا على الصعيدين الإقليمي والدولي.
تعتبر تركيا الآن، على حد قول وزير الخارجية الأسبق أحمد داود أوغلو، دولة تمتلك "عمقًا استراتيجيًا" في الشرق الأوسط والبلقان والقوقاز وآسيا الوسطى والبحرين المتوسط والأسود، ما يتيح لها تبني سياسة خارجية متعددة الاتجاهات، والمطالبة بدور مركزي في السياسة العالمية والإقليمية. لكنها، في الوقت نفسه، وضعتها ضمن مسار تصادمي مع جيرانها: روسيا وإيران.
وفي هذا السياق، تبرز استراتيجية "الوطن الأزرق"، بوصفها أداة رئيسية في تعزيز نفوذ تركيا في البحر المتوسط، واستعادة مكانتها كقوة بحرية وتجارية بارزة. وتمثل هذه الاستراتيجية رؤية موسعة لحدود تركيا البحرية في المتوسط، وتعكس رغبتها في فرض نفسها كقوة بحرية - إقليمية في المنطقة.
أما بالنسبة إلى إيران، فتتمع بأهمية استراتيجية وحيوية كبيرة تزداد مع التطورات الإقليمية والدولية، التي غالبًا ما تكون جزءًا منها. قبل الثورة الإسلامية والإطاحة بنظام الشاه، كانت إيران حليفًا استراتيجيًا للولايات المتحدة الأميركية. لكنها، بعد إعلان قيام الجمهورية الإسلامية، بدأت في إعادة هيكلة نظامها السياسي بشكل جذري بهدف استعادة دورها الإقليمي والدولي، لكن وفق تصورات وسياسات جديدة وضعها قادة الثورة الإسلامية.

وتظهر ملامح السياسة الجغرافية التوسعية الإيرانية في المنطقة ضمن عدة مستويات، أهمها المستوى القيمي – السياسي من خلال إظهار دور الهوية الشيعية في صياغة السياسة الداخلية والخارجية، بغية تعميم نموذج الثورة الإسلامية على مساحات جغرافية متعددة، في سبيل تحقيق نفوذ جيوسياسي.
المستوى الثاني هو الاقتصاد، الذي يركز على الأبعاد الجيواقتصادية التي منحت طهران فرصة الالتفاف على العقوبات الغربية التي فُرضت عليها بسبب برنامجها النووي. وتحاول إيران من خلال ذلك إظهار نفسها على أنها دولة قادرة على المشاركة في تشكيل بنية منطقتها وجوارها الإقليمي. وبهذا المعنى، تنتهز أي فرصة لإعادة إحياء دورها في الساحة الدولية والإقليمية بوصفها لاعبًا جيوسياسيًا رئيسيًا في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وإفريقيا، مما يضعها في خلافات وتوترات مستمرة مع جيرانها الروس والأتراك.
تلعب الجغرافية السياسية إذن دورًا كبيرًا في تشكيل علاقات الدول المذكورة ببعضها حول محيطها الإقليمي. ويتعزز هذا الدور في ظل سعي الأطراف المعنية إلى تمرير مشاريعها في المنطقة، حيث يسعى كل طرف إلى ممارسة دور إقليمي أوسع نطاقًا وأعمق تأثيرًا من خلال توظيف جميع عناصر القوة المتاحة. وانطلاقًا مما ما سبق، نستعرض بعض المناطق الجغرافية التي تتنافس فيها الدول المذكورة في سبيل تحقيق نفوذ جيوسياسي.
إفريقيا.. عينٌ على الموارد وأخرى على الممرات التجارية
في ضوء عدم وضوح السياسة الخارجية الإيرانية في عهد الرئيس الجديد مسعود بزشكيان بصورة شاملة، باستثناء سعيه إلى إصلاح العلاقات مع الغرب، فإنه من الممكن العودة إلى سياسة سلفه إبراهيم رئيسي للوقوف على طبيعة السياسة الخارجية لإيران تجاه إفريقيا. فمنذ أن تولى منصبه في عام 2021، ركّز الرئيس السابق على سياسة خارجية تقوم على ركيزتين رئيسيتين: أولًا، على تعزيز العلاقات مع الشرق، وخاصةً روسيا والصين. وثانيًا، التركيز على توسيع نفوذ إيران في الجنوب العالمي، سيما إفريقيا وأميركا اللاتينية.
عملت إيران على الاستفادة من الفرص التي يتيحها لها تعزيز علاقاتها مع دول شرق إفريقيا اقتصاديًا وثقافيًا وجيوسياسيًا. وتعود أهمية هذه المنطقة بالنسبة إلى إيران إلى موقعها الاستراتيجي القريب من مضيق باب المندب وخليج عدن، مما يمنحها القدرة على التحكم في حركة النقل عبر ممرات الشحن البحرية الدولية الرئيسية.
وبالإضافة إلى تعزيز علاقاتها التجارية معها، تسعى إيران إلى بناء تحالفات مع الدول الإفريقية من أجل ممارسة النفوذ ضد الضغوط الدبلوماسية المتزايدة عليها من قبل الغرب. بل تسعى كذلك إلى وضع نفسها كشريك حقيقي في تنمية إفريقيا من خلال انتقادها المستمر للاستعمار الغربي للدول الإفريقية.
وأثناء زيارته إلى دول شرق إفريقيا، كينيا وأوغندا وزيمبابوي، في تموز/يوليو 2023، وصف الرئيس الإيراني السابق، إبراهيم رئيسي، زيارته بأنها نقطة تحول جديدة لتعزيز الدبلوماسية الاقتصادية، إذ وقعت البلدان الثلاث (التي تعاني من أزمات ديون اقتصادية) 21 اتفاقية مع إيران التي يعتبرونها شريكًا استراتيجيًا حاسمًا.
وقعت إيران خمس مذكرات تفاهم مع كينيا في مجال صيد الأسماك، وصحة الحيوان، والإنتاج الحيواني، وتكنولوجيا المعلومات، وتشجيع الاستثمار. واقترحت إنشاء مصنع لتصنيع المركبات الإيرانية في مدينة مومباسا الساحلية في كينيا. أما في أوغندا وزيمبابوي، فقد استثمرت بشكل كبير في القطاعات الزراعية.
وتركز إيران كذلك على تعزيز علاقاتها مع دول غرب إفريقيا، وكانت قد عقدت قمة اقتصادية بينها وبين هذه الدول في 6 آذار/مارس 2023، الغرض منها تطوير التعاون الاقتصادي بين الطرفين في مجالات الطاقة والنقل والزراعة والتعدين والهندسة التقنية. وخلال القمة، وقعت إيران ودول غرب إفريقيا عقودًا بقيمة مليار دولار في قطاعات عديدة شملت السيارات وبناء السفن الثقيلة والمعدات الطبية. واقترحت إيران أيضًا إنشاء بنك مشترك بهدف تطوير شراكتها مع هذه الدول.
ثمة أسباب عديدة لتحول إفريقيا، التي تحظى بأهمية جيوستراتيجية في سياسات القوى الدولية الكبرى، إلى ساحة تنافس يتدافع نحوها العديد من اللاعبين الدوليين بحثًا عن النفوذ والهيمنة، وهو ما يتجلى بوضوح في التحالفات والاتفاقيات الاستراتيجية التي شهدتها القارة مؤخرًا، مثل التحالف المغربي - الإسرائيلي المدعوم من الولايات المتحدة، وتنامي النفوذ والتركي والإيراني.
وتعد روسيا من أبرز الحاضرين في إفريقيا، حيث تسعى إلى تأمين منفذ وقاعدة عسكرية لدعم عملياتها البحرية في البحرين الأحمر والمتوسط، وتولي اهتمامًا خاصًا بموانئ بربرة (أرض الصومال)، مصوع وعصب (إريتريا)، بورتسودان (السودان). وبذلك ستكون جغرافيًا أقرب إلى جيبوتي، حيث تمتلك الصين والولايات المتحدة قواعد بحرية.
يشير هذا الاهتمام إلى رغبة روسيا في إبراز قوتها على طول الممرات البحرية الاستراتيجية لمضيق باب المندب (جيبوتي- اليمن)، وقناة السويس، وشرق البحر الأبيض المتوسط. وكانت قد استكشفت إمكانية الوصول إلى الموانئ في جنوب إفريقيا مع موزمبيق، وأجرت أيضًا تدريبات بحرية مشتركة مع جنوب إفريقيا. وعبر هذه الاستراتيجية، تكون روسيا قد حققت موطئ قدم في الممرات المائية الحيوية والتجارية في القارة الإفريقية، مما ساعدها على تحقيق توازن قوى في القارة السوداء.
وتسعى روسيا كذلك إلى تحقيق أهداف جيواقتصادية من خلال الوصول إلى الموارد الإفريقية والاحتفاظ بالأسواق. وتشتهر شركات الطاقة الروسية الرائدة، مثل "غازبروم" و"لوك أويل" و"روساتوم"، بنشاطاتها الاستثمارية في عدة دول إفريقية مثل الجزائر، ومصر، وأوغندا، وأنغولا، ونيجيريا. كما يعمل الروس على استخراج معادن البلاتين في زيمبابوي، والماس في أنغولا، إضافةً إلى استغلال رواسب اليورانيوم في ناميبيا.
تعد روسيا المصدِّر الرئيسي للأسلحة إلى إفريقيا، إذ تسيطر على 49% من إجمالي سوق الأسلحة في القارة. وتتصدر الجزائر، وأنغولا، ومصر، والمغرب، ونيجيريا، والسودان، والسنغال، وزامبيا قائمة العملاء الرئيسيين للأسلحة الروسية فيها.
تزاحم تركيا بدورها النفوذين الروسي والإيراني في القارة الإفريقية، إذ لم تكتف بتعزيز علاقاتها الاقتصادية والسياسية مع البلدان الإفريقية، بل تسعى إلى تعزيز تعاونها العسكري معها. وهناك بالفعل العديد من اتفاقيات التعاون الأمني والدفاعي بين تركيا والعديد من البلدان الإفريقية تشمل التعاون في الصناعات الدفاعية، والتعاون الدفاعي، والتدريب العسكري.
ومنذ الإعلان عن خطة عمل إفريقيا في عام 1998، وقعت تركيا اتفاقيات أمنية ودفاعية مع 30 دولة إفريقية. بالإضافة إلى ذلك، تحتفظ تركيا بملحقين عسكريين في 19 دولة إفريقية. كما تمتلك حاليًا قواعد عسكرية في بلدين إفريقيين هما الصومال وليبيا، حيث تقدم التدريب العسكري في هذه البلدان ضمن إطار بناء قدرات الشركاء. وفي عام 2017، أنشأت تركيا قيادة فرقة العمل التركية الصومالية (معسكر تركسوم) في مقديشو، وهو أكبر مركز تدريب عسكري/ قاعدة عسكرية تركية في الخارج.
وقامت تركيا بتشغيل خمسة مراكز تدريب في ليبيا منذ عام 2020. بالإضافة إلى هذا، توفر أيضًا المعدات اللازمة للأجهزة الأمنية بناءً على مذكرتي التفاهم مع حكومة الوفاق الوطني (المعترف بها دوليًا) في عام 2019، حيث كان الهدف من توقيع هذه المذكرة تعزيز أنقرة مطالبها بشأن المناطق البحرية التي تطالب بها كل من قبرص اليونانية، واليونان، ومصر. ولذلك، وفي ظل استبعادها من منتدى غاز شرق المتوسط، تحتاج أنقرة إلى حلفاء إقليميين لتحدي مُطالبات اليونان وقبرص اليونانية بمناطق معينة في حوض شرق البحر المتوسط.
سوريا.. منافسة سياسية وعسكرية ومسار مشترك!
قدّمت تركيا، مع بداية اندلاع المواجهات العسكرية بين النظام السوري والمعارضة، دعمًا كبيرًا للمعارضة، وطالبت بضرورة تنحي بشار الأسد عن الحكم. ومع ذلك، أدى التدخل العسكري الروسي المباشر دعمًا للنظام السوري، ومن قبله الدعم الإيراني، إلى تغيير المعادلة وموازين القوى لصالح النظام الذي استطاع السيطرة على مساحات واسعة من الأراضي، التي فقدَ السيطرة عليها في وقت سابق.
ومن خلال تدخلها العسكري المباشر في سوريا، تسعى موسكو إلى الحفاظ على نفوذها وقواعدها في الساحل السوري، إضافةً إلى تعزيز وجودها الاستراتيجي في المياه الدافئة بالبحر الأبيض المتوسط. عدا عن أن دعم بقاء النظام السوري يعود عليها بفوائد اقتصادية ضخمة، سواء لناحية توريد الأسلحة، إذ تعتبر روسيا المورد الرئيسي للأسلحة إلى سوريا، أو حصولها على العديد من الصفقات المربحة للتنقيب عن النفط والغاز، واستخراج الفوسفات، وتشغيل ميناء طرطوس.
وفي المقابل، عملت إيران أيضًا على منع سقوط نظام بشار الأسد، حيث قدّمت له دعمًا اقتصاديًا وعسكريًا كبيرين، إذ تمثل سوريا العمود الجيوسياسي للنفوذ الإيراني في الشرق الأوسط، وجسرًا حيويًا يربطها بحليفها الاستراتيجي في لبنان "حزب الله". وتسعى طهران إلى استغلال الموقع الجغرافي لسوريا كمسار لنقل الغاز إلى أوروبا، وهو مشروع يتعارض مع الطموح التركي لتحويل تركيا إلى ممرٍ مركزي لنقل الطاقة من الدول المُنتجة إلى أوروبا.

واستغلت روسيا وإيران ورقة الأكراد ضد تركيا، التي تتعامل مع هذه المسألة بوصفها مصلحة قومية عليا، إذ تغاضت روسيا عن التمدد الكردي في الشمال السوري على الحدود التركية، وقدمت الدعم بشكل ضمني للقوات الكردية أثناء هجومها على قوات المعارضة السورية المدعومة من قِبل تركيا، كما استقبلت ممثلين عن حزب الاتحاد الديمقراطي "ي ب ج". وقد دفعت هذه التحركات الروسية بتركيا إلى تقديم مصلحتها القومية كأولوية على سلم الأولويات مقارنةً بهدف إسقاط نظام الأسد.
في السياق ذاته، انخرطت تركيا في "مسار أستانة" إلى جانب كل من روسيا وإيران، لتتحول هذه الدول من المنافسة العسكرية إلى السياسية ضمن مسار سياسي مشترك تسعى من خلاله إلى إيجاد تسوية ما للأزمة السورية. وهنا تلتقي مصالح روسيا وتركيا في الشمال السوري، حيث يسعى الطرفان إلى إحباط أي محاولة لإقامة كيان كردي منفصل في سوريا، بدعم من واشنطن، من خلال التواجد العسكري التركي بصفته ضامنًا في المنطقة.
وتختلف طهران بالمُطلق مع موسكو حيال دور تركيا في سوريا، بل وتحاول التخلص من نفوذها أيضًا قدر الإمكان، بحيث يقتصر التعاون معها في سوريا على الجانبين السياسي والاستخباراتي، بوصفها دولة لا تملك نفوذًا مباشرًا داخل الأراضي السورية.
القوقاز.. الاقتصاد أولوية
رغم حسم أذربيجان حربها ضد أرمينيا، في إقليم ناغورنو كاراباخ، لصالحها؛ إلا أن منطقة القوقاز ما زالت عبارة عن ساحة صراع وتنافس على الرغم من نجاح اتفاق السلام الذي رعته كل من تركيا وروسيا في إنهاء الحرب بين البلدين. وفي هذا السياق، رأت إيران نفسها مهمشة من المعادلة الجيوسياسية، سيما بعد استبعادها من محادثات السلام بين طرفي الصراع، مما دفعها إلى الدخول في ساحة التنافس بجانب كل من تركيا وروسيا في منطقة القوقاز.
أيقظ تهميش إيران في المعادلة القوقازية الجديدة هواجسها السياسية والاقتصادية تجاه محيطها الإقليمي. فمن جهة، تدرك بأن تعزيز تركيا لنفوذها في القوقاز يمكنها من إنجاز مشروع ممر "ناخيتشيفان – أذربيجان"، الذي يربط جميع دول آسيا الوسطى الناطقة بالتركية، على اعتبار أن مثل هذا المشروع سوف يعيق التجارة الإيرانية مع أرمينيا، ويضعف نفوذها في آسيا الوسطى، ويشكل كذلك بديلاً للخط التجاري الذي تسعى طهران إلى إنشائه، والذي ينطلق من الصين، ويمر عبر الأراضي الإيرانية، ثم جورجيا فالبحر الأسود وصولًا إلى أوروبا.
وما يعزز هذه الهواجس هو التقارب التركي الروسي في القوقاز، والذي تجلى في تنسيقهما المشترك أثناء الحرب الأذربيجانية – الأرمينية عام 2020. فقد دعمت تركيا أذربيجان بهدف الحفاظ على مصالحها ومشاريعها مع أذربيجان، مثل خط السكك الحديدية "باكو - تبليسي - قارص".
كما تسعى أنقرة من خلال تعزيز علاقاتها مع باكو إلى تطوير مشاريع عدة في مجال نقل الطاقة، مثل تطوير خط أنابيب "باكو - تبليسي - جيهان"، ليشمل النفط والغاز التركمانستاني. وهنا يبرز التقارب بين روسيا وتركيا، إذ تسعى إلى موسكو إلى التنسيق مع أنقرة لضمان استمرار نفوذها على مسألة تصدير الغاز باتجاه أوروبا، الأمر الذي ينافس خط الأنابيب الإيراني المقترح، الذي يمتد من جنوب حقل بارس الإيراني، مرورًا بالعراق وسوريا ولبنان، باتجاه أوروبا.
تسعى روسيا وتركيا وإيران إذن، عبر الجغرافيا السياسية، إلى تعزيز موقعها النسبي على الساحة الدولية. ويتجلى التنافس بين هذه البلدان، اعتمادًا على مصالحها، في مناطق جغرافية عدة. وكدول براغماتية، فإن سياستها الخارجية والأمنية تستند إلى المصلحة الوطنية، وهذا ما يجعل التنافس بينها في الشرق الأوسط والقوقاز وإفريقيا فرصة لتعزيز نفوذها الجيوسياسي وتحقيق أهدافها سواء الاقتصادية أو الاستراتيجية.