الأدب السوري

أدب الحرب في سوريا.. لم يحلموا بأكثر من أيامٍ هادئة

20 مايو 2025

في الكتابة نسعى للتعبير عن واقع لا يسعنا التعامل معهُ من فرط قسوته أحيانًا، من فرط دمويته، ومن كثرة غرقه في نهر دماءٍ جاري ومتجدّد. نكتُب لأنّ الحياة تستحيل أحيانًا فنخلق على الورق واقعًا موازيًا للتخفف أو التوثيق، لأننا سنموت جميعًا ولكن ربّما يُكتب للرواية أن تعيش بعدنا. 

نكتب أحيانًا تحت وطأة الإنكار، نرسمُ صورةً خياليةً كردّ فعل طبيعي للصدمة الدموية التي نعيشها، نرسم شجرة ونهرًا بمياهٍ نظيفة وسماءٍ صافية للردّ على واقع غير إنساني يموت فيه البشر لأتفه الأسباب، يموت فيه الشجر ويتلوّث فيه النهر بدماء الضحايا، وتتلبّد فيه السماء بدخان الحرائق والمقذوفات النارية التي نصنعها لقتل بعضنا البعض من أجل العدو.

نعود إلى الأدب. البساط السحري الذي ينقلنا من مكاننا وزماننا إلى أيّ مكانٍ آخر حسب اختيارنا ورغبتنا في معرفة ما يحدث حولنا. منذ سنوات ليست بعيدة كانت مصر وسوريا دولةً واحدة متحدة، لذا لا ينفصل المصري عن السوري تاريخيًا أو اجتماعيًا، وعند الحديث عن الأدب يظهرُ عمق هذا الرابط أكثر حيث إنني خلال بحثي عن الأدب السوري المعاصر وجدت أغلب ما أحتاجه في مكتبتي صادرًا عن دور نشر مصرية، وفي سياق هذا المقال أكتب عما تابعته لحظة بلحظة منذ حدوثه وحتى ليلة سقوط الطاغية في في 8 كانون الأول/ديسمبر 2024 ولكن في الأدب، عن الثورة كما كتبه من رأوها وعاصروها وعايشوها لحظة بلحظة.

اسمي زيزفون: وارثة المفاتيح 

في روايتيها الأحدث تستلهم الكاتبة والطبيبة السورية سوسن جميل حسن من دفتر حكايات الجدّات والعمّات لتكتب عن سوريا القديمة، على مدار نصف قرنٍ تقريبًا تبدأ حكايتها من خلال شخصية عاصرت تحوّلات عديدة عصفت بالحياة الاجتماعية وأعادت تشكيلها حسب المزاج السياسي العام. في رواية "اسمي زيزفون" الصادرة عن "منشورات الربيع" المصرية في عام 2022 والتي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" 2023 والقائمة القصيرة لجائزة "نجيب محفوظ" 2024، تحكي على لسان العمة جهيدة سيرة السياسة على لسان مجتمع ريفي انشغل أحيانًا سكانه بحياة بعضهم البعض أكثر من حياتهم الشخصية، وأقل القليل مما يحدث حولهم في وطن لم يحصدوا من صراعاته إلا الموت السريع!

"لا خلاص لبلدنا طالما هو محكوم بالآليات نفسها من الخوف والقمع والفساد، صار الناس متخندقين في الماضي، ومع كل مجزرة تزداد اللهفة إليه والعيش فيه".

-سوسن جميل حسن | رواية اسمي زيزفون

لا تنشغل سوسن في روايتها بالصراعات السياسية والطائفية الكبرى فقط، ولكنها تُركز على سرد التفاصيل اليومية العادية في حياة استمرت تحت الحرب والنيران منذ اندلاع الثورة السورية في 15 آذار/ مارس 2011 والتي أدت إلى تغير خريطة سوريا كاملة، وأدخلت مفرداتٍ جديدةٍ على حياة مواطنين لم تعد الحياة قبلها كما بعدها بسبب الحرب الأهلية بين ما عُرف باسم الجيش السوري الحرّ وبين جيش الرئيس الهارب بشار الأسد الذي حول حياة الملايين إلى جحيم تحت وطأة النيران وجرائم الحرب التي استمرت لأكثر من 13 عامًا. 

"كُل أسياد هذهِ البلاد يقتُلونَ فينا احساسنا بذواتِنا، يمسخون فرديتنَا، يُريدونَنا نُسخًا مُتطابِقة، لكِنَّنا لن نسكُت حتى نلتقط هوياتنا".

سوسن جميل حسن | رواية وارثة المفاتيح

في قصة زيزفون يصل لبطلة الرواية التي تعيش في الضيعة حكايات الآخرين، لأنها تعيش في هامش تسمع عن الناس وتكتب حكاية أفضل أيام حياتها التي مرّت كي تهزم شبح النسيان، وعلى العكس تحكي سوسن في روايتها الأحدث "وارثة المفاتيح" سيرة أسرة كاملة في رواية متعدّدة الرواة لتعكس صورة أكبر وأشمل للمجتمع الذي تفسخ على مدار عقود منذ إعلان وراثة بشار الأسد لحكم والده وحتى لحظة الثورة التي كانت شرارة انقسام مجتمع لم تمنحه الديكتاتورية الفاشية فرصة الالتئام والتلاحم، بل بذلت من أجل تمزيق نسيجه الإجتماعي وتفرقته كل قوتها بتمييز بعضهم عن بعضٍ ليخرج بعد ذلك أسوأ ما في النفس البشرية عندما يتملك منها الرغبة في الثأر والانتقام، وليُعاني ملايين ويموت مئات الآلاف بكل السبل غير الممكنة. 

في "وارثة المفاتيح" التي وصلت للقائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية "البوكر" دورة هذا العام والصادرة أيضًا عن ''منشورات الربيع - مصر" تنعكس صور رمزية من خلال الشخصيات الروائية، وبحكم العمل الطويل للكاتبة السورية ابنة اللاذقية المولودة في عام 1957 بين أبناء وطنها كطبيبة يتعرّى أمامها البشر عمليًا ومجازيًا بشكلٍ روحي، التقطت ما كمن في أرواحهم المتعبة لسنواتٍ عديدة وعرضته في نصٍ كئيب امتزجت فيه بؤس المعيشة بقيمة وجماليات فن الرواية. 

بالمقارنة، تضع سوسن في روايتّيها المدينة ضد الضيعة، الأصولية مقابل الحداثة، وتُقارن نفس الحقبة الزمنية في روايتيها، لنعرف مدى الفرق الشاسع في نمط حياة البشر داخل فضاء سردي يبدو في  ظاهره واحد ولكنه باطنيًا شديد الاختلاف والتنوع.

سنعود حينما تنمو أشجار الليمون من جديد

تُعرف سوريا كغيرها من دول الشرق الأوسط والشام التي تقع في غرب القارة الأسيوية، بمناخها المُلائم لزراعة الحمضيات على طول الساحل، ووفق أرقام حكومة النظام الديكتاتوري في عام 2022، تبلغ المساحة المزروعة بالحمضيات في الساحل السوري نحو 43 ألف هكتار، ويعمل بهذه الزراعة أكثر من 56 ألف أسرة. 

بحسب الأرقام الرسمية بلغ إنتاج سوريا من الحمضيات في موسم 2022 نحو 770 ألف طن وفي موسم 2021 كان بحدود 700 ألف طن وفي 2020 بلغ 800 ألف طن، وفي عام 2018 بلغ مليون ومئة ألف طن بحسب بيانات مكتب الحمضيات التابع لوزارة الزراعة في حكومة النظام، أما قبل 2011 فقد كان الإنتاج السنوي بحدود 1.150 مليون طن

كل هذه الأرقام لا تُهمّ السوري الذي يعرف قيمة الليمون وزراعته وقيمته الرمزية كما يعرف قيمة كل شبرٍ في أرض وطنه. في روايتها الأولى "بينما تنمو أشجار الليمون" تفتتح الكاتبة السورية الكندية زلفى ياسر درويش روايتها ببيتٍ شعري لنزار قباني، ليس فقط لشهرته أو مجازيته البليغة ولكن لأنه أيضًا يُعبر عن قضية وطن سحقه الاقتتال والتنازع الطائفي حول السلطة.

كل ليمونة ستنجب طفلًا

‫ومحالٌ أن ينتهي الليمونُ

نزار قباني 

تشتبك الرواية مع حياة الملايين الذين عاشوا تحت النيران المفتوحة من كل الجوانب طيلة السنوات الماضية، سواءً كانوا في مناطق خاضعة لسيطرة النظام أو تحت سيطرة الجيش السوري الحرّ الذي تأسّس منذ انشقاق أفراد من النظام الديكتاتوري لبشار الأسد لمناصرة الثورة والثوار. تحكي "سلامة" الفتاة التي لم تكمل أعوامها في كلية الطب بسبب انخراطها في العمل بمستشفى "الزيتونة" بمدينة حمص القديمة بعد اندلاع شرارة الثورة واستهداف الجيش النظامي للطواقم الطبيبة وللمدنيين جميعًا. 

في 400 صفحة جاءت الرواية الصادرة عن دار "صفصافة" بالقاهرة من ترجمة أميمة صبحي، لتسرد كاتبتها المعاناة التي لا تنتهي بين الحصار والقصف ورائحة الموت ووساوس الخوف التي دبّت في نفوس الجميع، وبالاعتماد على المشهدية الروائية والحوارات الثنائية بين سلامة وكنان حبيبها وليلى زوجة أخيها الذي اعتقله النظام أثناء تظاهره هو ووالده وأم الشخص المسؤول عن تهريب البشر خارج سوريا، ومنحهم فرصة في المقامرة على حياةٍ جديدة خارج البلاد أو الموت غرقًا في البحر المتوسط أو تحت القصف يتجلّى لنا بؤس المعيشة في حربٍ انتصر فيها الحلم السوري على النظام الغاشم. 

"ألا تعتقدين أن الدكتاتورية السورية أكثر شبهًا بالسرطان الذي ينمو في جسم سوريا منذ عقود، وأن الجراحة، على الرغم من المخاطر، أفضل من الاستسلام له؟ مع شيء متأصّل بعمق في جذورنا، لا يأتي التغيير بسهولة. له ثمن كبير".

زلفى ياسر درويش | رواية حينما تنمو أشجار الليمون

يرجع سرّ انتشار هذه الرواية ونجاحها الكبير عالميًا وترجمتها لأكثر من 20 لغة نقلها للواقع السوري والبُعد الإنساني لكارثة الحرب، لا تنتصر الرواية لأيديولوجيات سياسية أو طائفية، ولكنها تنتصرُ لقيمة الإنسان، تعكس أثر الدمار للتراث التاريخي الذي استمرّ لمئات السنوات وقسوة الموت السريع الذي يسببه القصف، بالإضافة لهشاشة النفس البشرية وحاجتها الدائمة لإيجاد معنىً للحياة كما حدث مع الفتاة "سلامة" التي كانت تُصرّ حتى آخر لحظة قبل الهرب من سوريا على بذل نفسها في سبيل علاج الجرحى وتخفيف آلامهم. يضعنا أدب الحرب داخل الحيّز المكاني لأبطاله الذين عادة ما يكونوا عاديين لم يحلموا بأكثر من أيامٍ هادئة بجانب من يحبّون قبل أن تفزعهم الحرب وتضعهم في قلب المأساة وتجعلهم يواجهون الموت في أكثر من جولة.

هل الموت عمل شاق؟ العالم يسأل وسوريا تُجيب!

في روايته ذائعة الصيت والانتشار "الموت عمل شاق" يطرح الروائي السوري خالد خليفة، أزمة تفسخ المجتمع السوري من خلال عائلة تجتمع في ليلة صعبة لتنفيذ وصية دفن والدهم في مسقط رأسه الذي هجره منذ خمسين عامًا. يستخدم السيناريست صاحب الأعمال التليفزيونية الهامة خبرته بالمكان ليجعل الرواية رحلة جغرافية شديدة الكآبة داخل بلد تمزق بعد الحرب الأهلية التي نشأت في أعقاب الثورة. 

تمرّ سيارة "حسين" الأخ الأكبر المطرود من جنة الوالد المتوفي بحواجز متعدّدة المهام والأهمية، العبور من حاجز تحت سيطرة الجيش السوري الحر أو الجيش النظامي بجثة أمر شديد الغرابة لأن "الموت يمرّ قربك ولا تستطيع الإمساك به، الموت في الحرب أعمى لا يتأمّل ضحاياه." في الرواية لا يبدو وصول جثّة رجل وصل للشيخوخة ومات في أمان بسريره هو الهدف المنشود، ربّما يكون هكذا ظاهريًا، ولكن باطنيًا، داخل نص متعدّد الطبقات ومتغلغل داخل تاريخ سوريا الحديث تحت وطأة حكم آل الأسد يضعنا خالد خليفة أمام أسرة تُشير لمجتمع متفسخ، متعدّد الأقطاب، ومختلف بشكلٍ فسيفسائي كل أطرافه اتفقوا على ألا يتفقوا.

"لا يريد أن يكون فرس سباق، طاقته لا تكفيه لتحقيق أحلام عائلة لم تُهزم فحسب، بل كانت الهزيمة كلّ يوم تنمو في قلوب أفرادها وفي زوايا بيتهم".

خالد خليفة / رواية الموت عمل شاق

تمثلات الجسد في الرواية السورية

يعكس الأدب الصورة أحيانًا أو ينقلها كما هي، ولكن في عصور الديكتاتورية المظلمة نحتاج للرمزية لنضمن سلامنا من بطش الجلاد. وفي الروايات المذكورة يتجلّى القهر السوري وينعكس على أجساد أبطالها. في رواية خالد خليفة، يتنقل "حسين"، "فاطمة"، و "بلبل" بجسد ميت من مكانٍ إلى آخر، هذا الجسد الذي وصل إلى الشيخوخة ودخل في مراحل العفن خلال الرحلة الطويلة التي تعكس بؤس حالة الأخوة الثلاثة الذين تمنّوا عدم اجتماعهم أبدًا لعمق الهوة التي تفصل بينهم لاختلاف مواقفهم السياسية وحالتهم الاجتماعية. 

الجسد الميّت وتحوّلاته هما حجر الزاوية، هما انعكاس لحالة حرب داخل وطن انتهى فيه مفهوم المواطنة حيث لم يعد للجميع نفس الحقوق على الدولة وقتما رفع سكانه السلاح في وجه بعضهم البعض. بينما في رواية "وارثة المفاتيح" التي تحكي فيها "رضية" قصّة ارتقائها الطبقي من خلال خيانتها لزوجها أمين الشرطة "عفيفي" مع رجل من كبار رجال الدولة يُدعى "الباشا" يبدو جسد رضية الفاتن شديد الجمال في علاقته المُركبة مع الباشا المازوخي صورة أخرى تُمثل ثنائية السلطة / الخضوع التي تعيش فيها كل الشعوب العربية المقهورة. 

تُقدم رضية جسدها مقابل الصعود اجتماعيًا لطبقة أعلى، لتتحوّل إلى تاجرة ثرية يتمّ إعفاء تجارتها من الجمارك، بهذا الثمن لا تمرّ رضية بتجربة الثورة (ظاهريًا) عكس ملايين المواطنين الذين يشاركونها نفس الموقع الجغرافي، وكأنها بالتنازل عن جسدها فقط تنجح في تخطّي الجوع والحرب والموت الذي يُحيط بها لأنها في حماية الباشا، أما زوجها أمين الشرطة فبحالته الجسدية الهزيلة، ورتابته، وطباعه المملة، وكسله جنسيًا يتحوّل إلى هامش في نصٍ تتحكم فيه لغة الجسد بين الخاضع والمُسيطر.

تنعكس أكثر صور الجسد بؤسًا في رواية الكاتبة زلفى ياسر درويش، حيث تعيش "سلامة" بطلة الرواية في المستشفى بشكلٍ شبه دائم، تتعامل مع أجساد ممزقة وتُجري عمليات جراحية بلا تخدير وبلا أدوات مُعقمة. في نفاذ الموت وتكراره داخل النص يبدو تكثيف عدد الضحايا أمر غير عاطفي، مجرّد سرد لما هو معلوم بالضرورة، بعكس القصص الفردية التي تعكس حُزن أكبر وتُثير عاطفة القارئ، حتى في النصوص الأدبية الأرقام مجرد أرقام، أما الحكايات الفردية والسرديات المنفردة هي ما تعكس الحقيقة بصورة أشمل، يبدو الجسد في رواية "حينما تنمو أشجار الليمون" قربان للربّ، أو ثمن للثورة، وفي صورة أكثر ظلامية هو نتيجة علاقة سامة بين السلطة والمواطن العربي، علاقة لا تنتهي إلا بفناء جسد حتى يعيش الآخر. 

لا تغيب إشارات الجسد أيضًا عن روايتّي سوسن جميل حسن، فمن خلال العمّة "مزنة" في وارثة المفاتيح، والعمة / الخالة "زيزفون" في رواية اسمي زيزفون تُشير الكاتبة لتبدل الزمن على لسان أشخاص عالقين في الماضي، يعكسن تحولات اجتماعية عديدة طرأت على الواقع السوري.

"قفزت في بالي كل القصص التي كنت قد سمعتها عن الممارسات الأمنية، وعن معنى أن يُدعى الفرد إلى فنجان قهوة في أحدها، كان يعني ببساطة أن فنجان القهوة مفتوح على الأبد، وأن شاربه مرشح لمصيرٍ مجهول".

سوسن جميل حسن | رواية اسمي زيزفون

نهايات

في الأعمال المذكورة لا يتحقّق أي غرض لأبطال الروايات. كل هدف أو قيمة تنسفه قسوة الحرب فيما يشبه الاتفاق الضمني بين جميع من عايشوا هذه التجربة القاسية أن لا أحد يفوز في الحرب. ففي رواية "الموت عمل شاق" لا يتحقق هدف الرحلة الذي كان دفن الراحل في قبر أخته وبدلًا من ذلك اختار أهله دفنه في قبرٍ بعيد وإتمام العملية في أسرع صورة ممكنة نتيجة لتحلل الجثة التي مرت برحلة قاسية في العبور بين الحواجز، بالإضافة لتعمق الجرح بين الأخوة بعد شجاراتهم لأكثر من مرة في الطريق، واتفاقهم أيضًا فيما بينهم بالصمت على القطيعة التامّة بعد إتمام دفن الوالد، ليفشل الهدف الظاهري الذي دفع الوالد لاختيار مسقط رأسه ليكون مكانه الأخير وهو لم شمله هو وأخته التي انتحرت منذ نصف قرن، بالإضافة للم شمل الأخوة بعد قطيعة كان في ظاهرها الانشغال وفي باطنها العجز عن تقبل اختلافاتهم، ولكي يكتمل المعنى الباطني غير المرئي وهو عدم اتفاق السوريين فيما بينهم.

"كلّ شيء يبدو قريبًا من الموت في هذه الفوضى".

خالد خليفة | رواية الموت عمل شاق

 وفي رواية "زيزفون" تخسر العمة سنواتها في محاولات محو اسمها القديم "جهيدة" الذي لا تقبله، والذي يجعلها تشعر بانفصالها عن ذاتها بالرجوع إلى بيئة رجعيةٍ لا تتشابه مع أحلامها في العيش بعالم لا يتدخّل أفراده في حياة بعضهم البعض ولا يرجّحون الخرافة على العقل ولا يقدّسون الشيخ أكثر من الدين، تفشل حينما تخسر كل أحبابها وتبقى وحيدة تنتظر الموت وتعترف بالهزيمة. 

"إن على الإنسان أن يرمي نفسه في الحياة لأنه بذلك ينشغل عن التفكير بنفسه التي كلمات غاص في التفكير بها تعمّق شعوره بالتعاسة".

-سوسن جميل حسن | رواية اسمي زيزفون

تستمرّ الهزيمة في عالم سوسن جميل حسن داخل رواية "وراثة المفاتيح" حيث تفقد "رضية" عقلها بعد خسارة ابنها وبعد هرب ابنتها وانتحار زوجها وخسارة الأموال التي سعت طيلة حياتها لتأمينها، ترث ابنتها كل مفاتيح الدار التي امتلكتها أسرتها، تبقى وحيدة في عالم لم تكن تتطلع فيه إلى الكثير عكس والدتها التي سعت لامتلاك كل شيء. خسارة البطل أيضًا كانت إشارة لانهزام الجسد في علاقته مع السلطة الغاشمة عن طريق هزيمة رضية من "الباشا" وسرقة كل أموالها. 

أما في رواية زلفى، الكاتبة التي تعود أصولها إلى سوريا نجد نهاية سعيدة بالنجاح في الهرب وعبور البحر المتوسط، واستمرار مقاومة زوجها في تعريف العالم بما يحدث من قمعٍ داخل الأجهزة الأمنية السورية، عن طريق عرض لقطات الموتى وضحايا القصف فيما يتقاطع مع شخصية "قيصر"، الرجل الذي فضح جرائم النظام الديكتاتوري عن طريق نشر صور ضحايا التعذيب الوحشي لنظامٍ استحل دم مواطنيه. 

يخبرنا الكاتب المعاصر، أي كاتب في أي عصر، عن حقيقة ما يعيش فيه داخل الحرب تحت وطأة نظام دكتاتوري، وبين أطراف النزاع الذين يتقاتلون فيما بينهم بلا رحمة. تعيش الكتابة الحرّة التي تنقل الواقع بظلاميته وكابوسيته التي تنتصر للإنسان في وجه آلة القتل، ويزول الطغاة، كل الطغاة وينتصر صاحب الأرض ولو بعد حين.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

أشكال الجنس والزواج عند العرب.. الغريزة تحت الوصاية

تاريخ مشتبك من أشكال الزواج والعلاقات الجنسية وتحوُّلاتها عند العرب، في الجاهلية وبعد الإسلام، وصولًا إلى العصر الحديث

2

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

3

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

4

لقد تقاسموا العالم.. أغنية حزينة عن ماما أفريكا

تاريخ إفريقيا في العصر الحديث هو تاريخ نهب ثرواتها، يرصد هذا المقال مأساة إفريقيا منذ عهد جيوش الاستعمار إلى عهد الشركات العملاقة

5

من الأنقاض إلى الخوارزميات.. سوريا تعيد بناء ذاتها رقميًا

تمثل البيانات الضخمة فرصة، إذا واتتها الظروف التقنية واللوجستية المناسبة، لإنجاز كثير من المهام الكبرى في مرحلة إعادة إعمار سوريا، وإزالة آثار عقد ونصف من الحرب والشتات

اقرأ/ي أيضًا

تتقاطع صور الحريم التي صوّرها الفنّانون المستشرقون مع خطابات التحرير المعاصرة

من الحريم إلى خطاب الإنقاذ.. تشريح الاستشراق الجنسي

انطلق الاستشراق الجنسي مع الحركة الرومانسية، وتجلّى في لوحات المستشرقين التي رسمت جسد المرأة الشرقية كرمز للفتنة والخضوع، ثم تحوّل التخيل إلى أداة استعمارية، عبر خطاب "إنقاذ المرأة المسلمة"

إسراء عرفات

ليبيا
ليبيا

حقوق الإنسان في ليبيا.. سنوات الإفلات من العقاب وجرائم بلا محاسبة

من سجون طرابلس السرية إلى مقابر ترهونة الجماعية، ومن مراكز احتجاز المهاجرين، نسجت ليبيا، خلال السنوات الخمس الماضية، واحدة من أكثر سرديات العنف والإفلات من العقاب قتامة في العالم المعاصر

خالد الورتاني

اليمن

الخاص والمشترك في تجارب وأحوال الأمم

تنْبع الأخطاء المعرفية وما ينجرّ عنها من مخاطر ومفاسد عامة عن وضع ظواهر وحوادث مختلفة بالنوع والزمان والمكان في لائحة تفسيرية واحدة والتعامل معها معرفيًا وكأنها الشيء نفسه وجودًا وعدما، كمًّا وكيفا.

محمد العلائي

الاستبداد

تحولات نظام الاستبداد في المجال العربي

من طريف سجالات الصراع بين عبد الناصر والإخوان أنّه كان يتهمهم بالعمالة لبريطانيا، في حين كانوا يصرّون على اعتباره رجل الولايات المتحدة

زهير إسماعيل

الكرامة الحمصي

محمد قويض.. الكرامة في ملعب الدكتاتورية

قدّم محمد قويض أبو شاكر نموذجًا مناقضا لما واظبت السلطة على ترويجه وشكّل تفنيدًا صريحا لسرديتها وتهديدًا لسلامة مفهومها حول السلم الأهلي

حيان الغربي