لماذا تُفتح الأبواب الآن وتتكشّف الحقيقة أمام رجال أعمال استفادوا من أنقاض المصانع الألمانية، التي كان يستخدمها النازيون لزجّ الأسرى في أوشفيتز؟ ولماذا لا يشعر أحد في إسبانيا بالخجل، أو يعتذر عن بناء ثروته في ظل دكتاتورية اعتمدت على الإبادة جماعية مثل الفرانكوية؟ هذه أسئلة يجب أن تكون حاضرة في المجتمع الإسباني المعاصر الذي لم يُشفَ من أمراض الفاشية. هذا الكتاب يتحدث عما سُلب من الشّعب، عن سرقة الذاكرة، وعن النهب المادي الملموس. يتحدث عن نهب الكثيرين لصالح قلة قليلة.
يبدأ الكتاب باقتباس من أجوستين غوميز آركوس: "لن يكون لك إرث.. ستظلّ صرصارًا حتى النهاية، ها هو أبيل بينزون جثة هامدة! ومع ذلك، وبالرغم من كونه مجرد ضابط تموين في الجيش، كان بإمكانه أن يبني ثروة طائلة بعد الحرب. أو على الأقل، أن يكوّن لنفسه ممتلكات متينة خلال (السنوات السخية للنصر)، حيث كانت ميزانية الجيش غير محدودة. الجميع استغلّ ذلك، حتى من دون أوسمة (أو رتب بالكاد تُذكر)، كان مجرد ارتداء زي المنتصر كفيلًا بفتح أبواب النجاح المسلوب على مصراعيها. فبيع الأراضي، والبناء، والنقل، والتهريب، والاستيراد والتصدير.. إلخ، كان طُعماً يلقيه النظام أمام عائلات الطبقة الحاكمة، تلك التي تزخر بالأزياء العسكرية التي اكتسبت سُمعتها البطولية فقط لأنها كانت ضمن صفوف المنتصرين".
يشير أنطونيو ماستري إلى أن هذا الاقتباس لم يُدرج فقط لتأثيره الحقيقي والعميق في قلوب الإسبان، بل لأن غوميز آركوس تمّ تهميشه من قبل نظام فرانكو، ووصفوه بالخائن. كان كاتبًا ومسرحيًا ومفكرًا ذو موهبة عظيمة، قلَّ مثيله في تاريخنا. ومع ذلك، اضطر إلى التجول في المنفى حتى تمّ الاعتراف أخيرًا بالقيمة الكبيرة لأعماله.
لقد سرق المنتصرون من غوميز آركوس مكانه في تاريخ الأدب الإسباني، وهذا غير الإعدامات التعسفية التي سرقت حياة الكثير من الأدباء، ومنهم الشاعر فيديريكو غارثيا لوركا ووضعه في مقابر جماعية مع ما يقارب الـ80 ألف إنسان. أما أبناء الشّعب، فقد سُرقت منهم منازلهم، شركاتهم، أموالهم، والمكانة الاجتماعية التي حققوها دون أن يعتدوا على أحد أو يحملوا السلاح.
"الفرانكوية والمجتمع المنسيّ"، عمل بحثي مثير للجدل وشاق، يرسم الروابط التجارية والعائلي للشركات الكبرى التي اغتنت خلال فترة الفرانكوية من خلال القمع، واستغلال النفوذ، والجريمة، والفساد. حيث يُسلّط الضوء على تلك العائلات والشركات التجارية التي احتلت حتى اليوم مواقعها بفضل الحرب والدكتاتورية.
يفكك الكاتب السياسة الفاشية التي أثمرت بعد الحرب، والتي وفّرت للشركات الكبرى والعائلات الصناعية البارزة تواصلاً مباشراً مع قيادات النظام الفرانكوي. إنه استعراض مفصل لجذور طبقة النخبة الاقتصادية لنظام فرانكو وتورطها المباشر في جرائم حرب كما النازية؛ إرثٌ تلطَّخَ بالدماء، تمّ تبييض وجهه خلال مرحلة الانتقال الديمقراطي "المُزيّف"، مما مكّنه اليوم من احتلال المواقع الأكثر رمزية في سوق الأسهم في أعلى مستوياته الصناعية والتجارية في إسبانيا. هي صفقات عُقدت لبقاء السلطة الاقتصادية والسياسية الفاشية قائمة، مع ارتدائها لثوب الانفتاح والحرية والتعدد والديمقراطية.
إنه كتاب يواجه عمليات الإصلاح والذاكرة التي عايشتها ألمانيا وإسبانيا، من خلال دراسة القوة الأهم والأكثر رهبة: القوة الاقتصادية. يقول أنطونيو: "شبح الفاشية يطوف فوق العالم. شبحٌ أقسمت جميع الجماهير على الثورة ضده في الماضي والحاضر والمستقبل، حاولت مواجهته دون جدوى. أما الرأسماليون، الذين يرتجفون خوفاً من أسس عالم جديد، يرسمون عالماً وهمياً من الازدهار الاقتصادي. فالرأسمالية ليست سوى وجهٌ لطيفٌ ومزيّف سرعان ما يستدعي قريبه المتنمر".
هذا ليس كتابًا عن رجال الأعمال والعائلات الذين فعلوا ما بوسعهم للبقاء على قيد الحياة في بيئة سامة وشمولية فقط. إنه ليس عن أولئك الذين حاولوا البقاء على قيد الحياة بدافع الخوف. وليس كتابًا يسعى إلى إحراج من حاولوا أن يكونوا شرفاء داخل نظام فاسد، ولا عن ورثة تصرفات الآخرين. بل هو كتابُ - رغم واقعيته - يكرّم أشخاصًا مثل ألفونسو ساستري من عالم التنمّر وضحايا النهب. إنه يكرم أولئك الذين التزموا بالحرية، الذين ضحوا بحياتهم من أجل العدالة والديمقراطية، وأولئك الذين رفضوا الانصياع لقواعد ظالمة.
يقول أنطونيو في مقدمة كتابه: "هو كتاب عن الجبناء، عن الخونة، عن المجرمين وشركائهم، عن الجشعين الذين استغلوا العظام المحطمة للشعب لتحقيق مصالحهم. لأنه لا يهم ما تعطيك الحياة أو أين تضعك. ما يهم هو ما تفعله بها، والاعتراف بالأيدي التي أطعمتك. "الحثالة"، يجب الإشارة لها في أي زمانٍ ومكان، هذا تكريم لأيدي آبائنا وأمهاتنا، لتلك التي كانت تعجن الخبز وتنحني تحت الشمس. تكريمٌ للعيون والأرض التي خزّنت في ذاكرتها قسوة لا يمكن نسيانها".
يسلط أنطونيو ماستري الضوء على الجرح العميق لتاريخ لم يُروَ بالكامل، وعلى بلدٍ ما زالت ذاكرته الجماعية معلقة بانتظار العدالة. يتعمق في إرث الديكتاتورية الفرانكوية، الذي لم يُواجَه بصرامة كتلك التي اعتمدتها دول أخرى، كألمانيا. الفارق صارخ، والأسئلة تتصاعد بإلحاح في زمن لم يعد يحتمل التأجيل.
هناك استعراض واضح لتداخل الإفلات من العقاب مع إرث النخب التي حققت ازدهارها في ظل القمع، إلى جانب الألم العميق الذي لا يزال ينبض في وجدان المجتمع الإسباني. يتحدث عن ضرورة تحقيق العدالة، ليس فقط على المستوى الأخلاقي بل أيضًا على المستوى الاقتصادي، ويثير تساؤلات حول استمرارية الهياكل التي دعمت نظام الديكتاتور، والتي ما زالت تعمل في خلفية مؤسساتية ممنهجة حتى هذه اللحظة.
هو بحثٌ يفتح أبوابًا لماضٍ غير مريح، حيث إن شركات مثل "أكسيونا" و"دراغادوس" لم تنمُ فقط في خرسانة ما بعد الحرب، بل بنت ثروتها على بقايا العنف والاستغلال. في كل اسم، في كل اقتباس، يشعر المرء بثقل ما لم يتم تعويضه، ويروي قصص العائلات التي لم تُبادر أبدًا بالاعتذار عن الدماء التي سقت طريقها نحو السلطة.
كل هذه التواطؤات التاريخية مع الفاشية لم تكن فقط ما سعى إليه المؤلف، بل أيضاً قام بتحليل النقص في الوعي الجمعي، هذا الجرح غير المرئي الذي يمنع البلاد من مواجهة ماضيها بالصلابة التي يستحقها. ففي ألمانيا، كانت عملية الإطاحة بالنازية طويلة وصعبة، لكنها كانت طريقًا، على الرغم من إخفاقاتها، فقد حققت إنجازاً لا يزال في إسبانيا أمرًا لا يمكن تصوره حتى الآن، ألا وهو: قانون علني يُفضي إلى التعويض بكل أشكاله.
أنطونيو ماستري، صحفي وكاتب إسباني معروف بنهجه النقدي والمباشر تجاه القضايا السياسية والاجتماعية، خصوصًا تلك المتعلقة بالحقبة الدكتاتورية، اليمين المتطرف، وصعود الحركات السياسية ذات النزعة الاستبدادية في إسبانيا. بدأ ماستري مسيرته الصحفية في العقد الأول من القرن 21، وعلى مر السنين تخصص في تغطية القضايا السياسية والاجتماعية وحقوق الإنسان. عمل كمتعاون في وسائل إعلام مختلفة، وكان معلقًا ملتزماً في برامج التلفزيون. يعرف بأسلوبه القتالي واستعداده لفضح التناقضات والروابط بين الشخصيات السياسية في اليمين المتطرف، وخاصة حزب "فوكس"، الذي انتقده في عدة مناسبات.
على مدار مسيرته، تميز ماستري بنهج تحليلي عميق واهتمام كبير بالنضال ضد الفاشية والتاريخ المزيف. لقد مكنته قدرته على فك طلاسم شبكات السلطة والنفوذ السياسي من اكتساب مكانة بارزة في مجال الصحافة الاستقصائية والتنديد.
هذا الكتاب ليس مجرد تحليل تاريخي وسياسي، بل هو أيضًا اقتراح لمعالجة إرث الفاشية في الوقت الحاضر. يشير ماستري إلى ضرورة تبني نهج أكثر حسمًا وتماسكًا للقضاء على آثار النظام، حتى عندما تظهر هذه الآثار تحت ستار الخطابات "الديمقراطية" لليمين المتطرف.
من حيث التأثير الشخصي والمهني، فإن كتابه "الفرانكوية والمجتمع المنسي" هو حجر أساس ساعد في تعزيز سمعة ماستري كفكر ملتزم بالتنديد بالاستبداد والنضال من أجل الديمقراطية. ومن خلال هذا الكتاب، وسّع الكاتب أيضًا تأثيره خارج مجال وسائل الإعلام، حيث أصبح مفكرًا نقديًا لا يقتصر على تقديم المعلومات فقط، بل يشارك كناشط في المعركة ضد نظام تمكّن من البقاء حتى الآن رغم موت زعيمه، هو نضالُ من أجل الذاكرة التاريخية ومكافحة الفاشية.
"لماذا هنا والآن"، سؤال يطرحه ماستري بين السطور كمن يُميط اللثام عن حقيقة ثقيلة الحمل، لكنها ضرورية ولا يمكن الهروب منها. في بلدٍ اعتاد أن يُغمض عينيه على ماضيه، أو يُعيد صياغة تاريخه ليبدو أقل وطأة مما كان عليه، هل يمكن تخيل مسار حقيقي للإصلاح؟ مسار لا يكتفي بمساءلة النخب التي استفادت من الظلم والتسلط، بل يحمّلها عبء الاعتراف بمسؤولياتها تجاه إرثٍ مثقل بالدماء والمعاناة؟ يرى ماستري أن الطريق نحو الإصلاح يبدأ من يقظة ضمير جماعي، ووعي شعبي بحجم الخسائر التي تكبدها المجتمع، وبما لا يزال دينًا مستحقًا تجاه العدالة والإنصاف.
على مدار هذه الصفحات، تُعرض شخصية "الثريّ" كالفائز الحقيقي في الحرب، ليس فقط من الناحية الاقتصادية، ولكن أيضًا من حيث إفلاته من العقاب. في أفق ماستري، ترتفع صورة فرانكو، الذي لا يزال حلمه "بحرب صليبية خرج فيها الأثرياء أكثر ثراءً" واقعًا مؤلمًا للكثيرين. إن تلك الطبقة الحاكمة، وأحفادها الذين لا يزالون يستمتعون بالثروات التي تم تشكيلها من خلال العنف، يجب عليهم أن يبدأوا في الاعتراف، إن لم يكن من خلال القيام بأفعال حقيقية لتعويض الخسارة الكبرى والحقيقية، فعلى الأقل من خلال تأمل علني في الضرر الذي تسببت فيه.
هناك إلحاح و دعوة للتغيير، لإيقاظ الذاكرة الغافلة. هو نداءٌ لممارسة تعويض أخلاقي لا يطلب فقط إلقاء اللوم على جرائم الآباء، بل ضرورة وعي جمعي مستمرة ، فعلٌ أساسي يسمح بالبدء في عملية الشفاء من الطاغية.
هذا كتاب هو نضال، دعوة للعمل. صرخة ضد النسيان، صرخة من أجل الحقّ التي، رغم أنها ما زالت بعيدة ولم يصل صداها بعد، فقد تكون الطريقة الوحيدة لـ"كسب الحرب"، كما يقول ماتشادو في إحدى رسائله. وفي النهاية، تتردد تلك الصرخة كصدى يطالب بالعدالة: "لقد حان الوقت لكتابة رواية عنوانها النهب والمنهوبين".






