لطالما تجاوز الحمار تلك الصورة النمطية التي ارتبطت به في الثقافة الشعبية، والتي جعلته رمزًا للغباء والبلادة؛ ليحتل مكانة مهمة في الأدبَين العربي والعالمي. فمنذ العصور القديمة وحتى يومنا هذا، اتخذ الأدب من هذا الحيوان البسيط أداةً لاستكشاف قضايا إنسانية عميقة، من الظلم والاستبداد إلى الفلسفة والحكمة، إذ تم توظيفه بوصفه أكبر من مجرد كائن يوصم بالغباء، ليصبحَ وسيلة يُسقط من خلالها الكُتّاب مواقف فلسفيةً ونقدية تستهدف بنية المجتمع وعقلية أفراده.
ومنذ رواية "الحمار الذهبي" التي تستكشف المجتمع بعين حمار وجسد حمار لكن بوعي إنسان، مرورًا بـ "بنيامين" الذي يرمز في "مزرعة الحيوان" إلى تلك الطبقة التي تدرك طبيعة الظلم والاستبداد ولكنها تختار الصمت لعلمها أن محاولة التغيير نحو الأفضل غالبًا ما تنتهي باستبدال مستبد بآخر، وصولًا إلى "بلاتيرو" الذي كان حمارًا بمواصفات إنسان، وأعمال توفيق الحكيم الذي اعتبره حيوانًا مقدسًا؛ يأخذ هذا الكائن صورًا متعددة يظهر في أكثرها أن الأدباء سعوا إلى إنقاذه من المكانة الدونية التي التصقت به في الوعي الجمعي، ووضعِنا أمام قسوة البشر لا بلادةِ الحمير.
"الحمار الذهبي".. صورة المجتمع بعين حمار وعقل إنسان
تُعد رواية "الحمار الذهبي" للكاتب الروماني لوكيوس أبوليوس، والتي كُتبت في القرن الثاني الميلادي، ويصنّفها النقاد أول رواية كاملة في تاريخ الإنسانية، مِثالًا بارزًا لتوظيف الحمار كشخصية يمكن من خلالها اكتشاف عالم الإنسان ونقد تصرفاته.
وتحكي الرواية عن شخصية لوكيوس، الذي يسافر إلى مدينة هيباتا، ويصادف في طريقه شابين يروي أحدهما قصصًا عن السحر وقدرته على تغيير المصائر، فيما يهاجمه مرافقه الثاني بشراسة، ساخرًا من خرافاته البلهاء. وما إن يسمع لوكيوس الحديث حتى ينحاز كليًّا إلى قصص الشاب الأول، مُبدِيًا حماسة لافتة تجاه كل ما هو غامض وخارق، في إشارة أولى إلى نزوعه إلى الانبهار لا إلى التفكر وإعمال العقل.
نكتشف مع توالى الأحداث أن دافع لوكيوس الحقيقي من السفر، هو رغبته في لقاء ساحرة تدعى بامفيلا التي سمع عن قدراتها العجيبة، فقدم لزوجها ميلو رسالة توصية كي يقيم في بيتهما.
هناك، تتوطد علاقة لوكيوس بالخادمة فوتيس التي تصبح سريعًا معشوقته. فتُطلعه على طقسٍ سري شهدت فيه كيف دهنت الساحرة بامفيلا جسدها بمرهمٍ لتتحول إلى بومة وتطير في الهواء. في هذا المشهد، يبلغ شغف لوكيوس ذروته، ويُطالب فوتيس بأن تعطيه من ذلك المرهم، ليعيش تجربة التحوّل بنفسه، متمنيا أن يتحول إلى نسرٍ يُحلّق في الأعالي.
يعيش لوكيوس في تلك الليلة سوء الحظ مرتين: الأولى حين تخطئ فوتيس في العلبة وتمنحه علبة حوّلته إلى حمار بدل أن تحوله إلى نسر، لتنقلب حياته رأسًا على عقب، لأن الكائن الذي كان يتوق إلى الطيران، يجد نفسه يسقط في جسدٍ يجسّد البلادة والغباء في الثقافة الشعبية. والثانية أن الإسطبل الذي قضى فيه ليلته القاسية في انتظار الصباح كي تُحضر له فوتيس الورد ليتناوله ويستعيد طبيعته البشرية، تعرض لهجوم من اللصوص فأخذوه إلى كهف بعيد، وفيه يدخل لوكيوس/الحمار مرحلة جديدة من التحول، ليس الجسدي هذه المرة، بل التحول الداخلي حيث يعيش المعاناة والتأمل الصامت في الكهف بعين حمار وجسد حمار.. لكن بوعي الإنسان.
تكشف الأحداث المتوالية سعي الكاتب لكي يضعنا أمام قسوة البشر لا أمام بلادة الحمير، يظهر ذلك من خلال متوالية من المآسي التي عاشها لوكيوس/الحمار بدءًا من محاولةٍ أولى فاشلة للهروب من الكهف، ثم ثانية ناجحة بمساعدة خطيب فتاةٍ حسناء اختطفها اللصوص يوم زفافها، مرورًا بوقوعه في يد غلام يحمّله الحطب وينهال عليه ضربًا، ورهبان استخدموه في حمل تمثال الإلهة "إيزيس"، ثم عمله الشاق في تدوير حجر طاحونة، وهو العمل الذي زادته شقاوةً زوجةُ الطحّان التي لا تحب الحمير، ثم تجويعه من طرف بستاني وقع في يده، وصولًا إلى عمله في عروض سيرك بهلواني... وغيرها من الأحداث التي كلما ظن القارئ معها أن لوكيوس وصل إلى القاع، يكتشف أن للحضيض طوابق أخرى، وأن قساوة الإنسان لا حد لها.
هكذا تُظهر الرواية الحمار مرآةً للإنسان لا نقيضًا له، ويصبح جسده صورةً لتناقضات البشر بأوضح صورها: القسوة، النفاق، السلطة، والعنف المجاني..، ليكون ضحية صامتة للمجتمع، وتجسيدًا للإنسان حين يُسلب منه صوته ومكانته، إذ إن كل من يتعامل مع هذا الكائن يُظهر ما بداخله من عنف أو نفاق أو شهوانية، ما يجعله أداة لفضح أخلاق الآخرين.
في دراستها للملامح الأسطورية في هذه الرواية، تقول الباحثة والأكاديمة الجزائرية كريدات حورية بأن أبوليوس حاول من خلال "الحمار الذهبي" الكشف عن حقيقة البشر، "حيث اختار أن يكون التحول عكس رغبة البطل الذي كان يسعى للتحول إلى طير؛ فالطير يمثل الحكمة، وأما الحمار فيمثل الغباء والبلادة، لكن لوكيوس بطل الرواية كشف عن سر البشر الخالص وهو في هيئة حمار." هكذا يظهر أن التحول إلى حمار لم يكن مجرد صدفة عبثية أو عقوبة خرقاء، بل هو بدايةُ رحلةِ تطهيرٍ لا تخلو من أبعاد روحية، وكأن الكاتب يُلمّح إلى أن الحكمة لا تُكتسب من علو المكانة، بل من عمق المعاناة، ذلك أن لوكيوس الذي أراد أن يُصبح نسرًا يُحلّق في الأعالي، سقط في جسد كائن يرزح على الأرض. هذا الانحدار الرمزي لا يُقصَد به إذلال بطل الرواية فقط، وإنما أيضًا كشف الحقيقة: حقيقة الإنسان الذي يتفحّصه لوكيوس أبوليوس بعين حمار وعقل إنسان.
بنيامين في "مزرعة الحيوان": رمز للوعي الصامت
بعد "الحمار الذهبي" ظهرت أعمال كثيرة وظفت الحمار بطرق مختلفة، خاصة خلال القرن العشرين. وقد استمر هذا الكائن في لعب دور رمزي استثمره الكُتاب لتمرير أفكارهم ورؤاهم، ولعل أبرز مثال على ذلك هو رواية "مزرعة الحيوان" للكاتب البريطاني جورج أورويل، التي نُشرت في إنجلترا عام 1945. في هذه الرواية الدستوبية يبتكر أورويل مجتمعًا حيوانيًّا يتمرد على الإنسان، ثم يتحول إلى نسخة أكثر قسوة من الاستبداد السابق، وذلك في نقد صريح يوجهه الكاتب للأنظمة الشمولية، ولإنسانِ السلطة وطمعه وجهله وانحرافاته التي تجعل من اليوتوبيا أمرًا مستحيلًا.
ففي رواية توضح، بطريقة رمزية، الانحدار الذي طال الاتحاد السوفياتي عقب الثورة الروسية وصعود الستالينية إلى الحكم، تسعى حيوانات المزرعة إلى عيش حياة مستقلة بعيدًا عن الاستغلال البشري. وبسبب الأوضاع المزرية والديكتاتورية التي كانت تمارس عليها من قِبل مالكها، تقرر أن تثور عليه وتتخلص من سلطته، وهو ما تنجح فيه بالفعل، غير أن زمام القيادة سرعان ما ينتقل إلى الخنازير، التي تتولى إدارة شؤون المزرعة وصياغة قوانينها، لتجد باقي الحيوانات نفسها وقد انتقلت من عبودية إلى أخرى. والقاعدة التي كانت تقول بأن "جميع الحيوانات متساوية" سيضاف إليها لاحقا "...لكن بعضها أكثر مساواة من غيرها".
في هذا المشهد، تظهر شخصية الحمار "بنيامين" كأحد أكثر الحيوانات غرابة في تعاطيها مع الأحداث الصادمة للثورة. بنيامين هو أقدم حيوان في المزرعة وأسوأها مزاجا، فقد كان دائمًا كئيبًا ويائسًا، واختار أن يكون محايدًا ومراقبًا صامتًا للأحداث، إذ قلما يتحدث، وحتى حين يفعل فإن كلامه النادر يكون عبارة عن استهزاء وسخرية. كما أنه لم يتغير بعد الثورة، فلم يُبدِ حماسًا ولا إعجابًا، بل ظل يؤدي عمله بنفس بطئه المعهود، وبغير تهرب ولا تحايل.
هكذا تظهر شخصية الحمار، كما لو أن الكاتب يرمز من خلالها إلى الطبقة المثقفة في المجتمع، وهي الطبقة التي تدرك طبيعة الظلم والاستبداد ولكنها تختار السلبية والصمت، ربما لعلمها المسبق بأن التغيير نحو الأفضل غالبًا ما ينتهي باستبدال مستبد بآخر.
فعلى الرغم من قوته وصبره وتحمله للمشاق، فإن بنيامين يمثل الوعي الكامن الذي يدرك حقيقة الأمور دون أن يتدخل فيها بشكل فعّال. ويظل يعلّق على الأحداث بعبارات مثل "ستمضي الحياة بنا كما كان دأبها أن تمضي... سيئة لا خير فيها ولا رجاء منها"، مما يشير إلى أن الحمار هنا ليس غبيًّا كما يبدو في الثقافة الشعبية، بل يمثل الوعي بالفشل الثوري. حتى في المرة الوحيدة حاول فيها التدخل والاحتجاج على نقل الحصان "بوكسر"، لأنه كان الوحيد الذي يعرف مصيره، كان الوقت قد فاته. تماما كما تفوّت النخب لحظة الوقوف بوجه الأنظمة الفاسدة.
"بلاتيرو".. حمار بمواصفات إنسان
في روايته "بلاتيرو وأنا" يُنقِذ الشاعر الإسباني خوان رامون خيمينيث الحمار من دلالته المتدنية ومكانته الوضيعة، ويقدّمه كحيوانٍ ساحرٍ وجميل، يُعامل ويُقدَّر ويُوصف بأنه صديق أو فرد من العائلة، بحيث لا يكون مجرد مرافق في الطريق، وإنما مرآةً داخلية للشاعر وصوتًا للبراءة والحكمة.
فمنذ الصفحات الأولى في الرواية، يعمد خوان رامون خيمينيث إلى إعادة تعريف صورة الحمار في الوعي الجمعي، حيث يُشِيد بجمال "بلاتيرو" مُعتمدًا على استعارات دقيقة تُضفي على الحيوان صفات إنسانية راقية، فيقول في عينيه مثلًا: "عيناك اللتان لا تراهما يا بلاتيرو، واللتان ترفعهما برفق إلى السماء، هما وردتان جميلتان." هذا التقدير الجمالي المقرون باستخدام ضمير المخاطب المفرد، عند الحديث إلى الحمار، يُؤسس لعلاقة استثنائية يُعامَل فيها هذا الحيوان كشريك وجداني ومفكر صامت.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ يمنح صاحب جائزة نوبل في الأدب سنة 1956 الحمارَ قدرات ذهنية تعادل البشر، حيث يستخدم أفعالًا مثل "يقرأ" و"يقترح" التي لا تُقال عادةً عن الحيوانات. وتتعزز هذه الصورة في لحظات أخرى حين يقول السارد: "نحن نفهم بعضنا البعض جيدًا"، مؤكّدًا صلةً حدسيةً تربط بينهما، تجعل من الحمار بلاتيرو كائنًا قادرًا على التمييز والاستبصار، ولا يحتاج إلى أوامر.
كما أن الذاكرة، بدورها، تُمنح لبلاتيرو، فحين يسأله السارد: "هل تتذكر؟"، يفترض القارئ أن الحمار قادر على استرجاع اللحظات، تمامًا كما يفعل البشر. ومن هنا، يُعاد بناء معنى "الذكاء" و"الوعي" لدى الحيوان، في تحدٍّ ضمني للصورة التقليدية التي تربط الحمار بالغباء. هذه المفارقة تبلغ ذروتها حين ينتقد السارد اللغة ذاتها، متسائلا بسخرية عن سبب ارتباط الحمار بالحمق في القواميس، فالرجل الصالح يجب أن يُسمى حمارًا، بينما الحمار السيئ يجب أن يُسمى رجلًا!
حمار توفيق الحكيم.. حيوان مقدّس
عربيًّا كُتب كثير من الأعمال عن هذه الشخصية الحيوانية، ووُظفت بطرق مختلفة، إذ كَتب أحمد رجب "مذكرات حمار"، وعبد اللطيف بدوي "حماري"، وعباس محمود العقاد "أحسن حمار"، وعلاء الدين صالح "ثورة حمار" وغيرهم الكثير، لكن أكثر من ارتبطت أعماله بالحمار هو الكاتب المصري توفيق الحكيم.
في مفتتح كتابه "حماري قال لي" يقول توفيق الحكيم إن الحمار له في حياته شأن كبير، وأنه يعتبره كائنًا مقدسًا، موضحًا أن أسباب هذه المكانة تعود إلى سنوات طفولته حين اشترى له أهله جحشًا رافقه إلى أن فرّقت بينهما الأيام فذهب هو إلى المدرسة وبقي الحمار في الريف يقوم بالأعمال الشاقة. لذلك حين اشتغل على تأليف الروايات والمسرحيات لم يفُته أن يجعل من الحمار شخصية فيها.
وفي كتابه "حمار الحكيم" جاء في الإهداء "إلى صديقي الذي ولد ومات وما كلّمني، لكنه علّمني" وذلك وفاء لرفيق طفولته، وهو الكِتاب الذي ينسج فيه الحكيم حكاية لا تخلو من الطرافة، حيث تبدأ بسرد واقعة شرائه لجحش صغير من أحد الفلاحين لمجرد أن شكله راق له، ليشرع بعد ذلك في استحضار سلسلة من المواقف الطريفة، منها إدخاله الحمار إلى غرفته في الفندق دون أن يشعر به أحد، واصطحابه لاحقًا في رحلة قصيرة كانت مليئة بالمفارقات الساخرة.
ويبدأ "حمار الحكيم" بمقطع يصور فيه الكاتب المصري هذا الكائن كما لو كان شخصية فلسفية تنطق بالحكمة، بل ربما هي الشخصية الرئيسية التي يستنبط الراوي من خلالها أفكاره في سعيه لرسم ملامح الحياة في الريف المصري، وتسلّيط الضوء على ما يعانيه من فقر مزمنٍ، وتردٍّ في مجالات الصحة والنظافة والتعليم، حيث "قال حمار الحكيم ’توما’: متى ينصف الزمان فأركب، فأنا جاهل بسيط، أما صاحبي فجاهل مركب. فقيل له: وما الفرق بين الجاهل البسيط والجاهل المركب؟ فقال: الجاهل البسيط هو من يعرف أنه جاهل، أما الجاهل المركب فهو من يجهل أنه جاهل!"
لقد كان الحمار بالنسبة لتوفيق الحكيم يثير الاحترام، في حين أنّ كثيرًا ممن سميناهم زعماء وعظماء كانوا بالنسبة له "مخلوقات تثيرا السخرية".
عمومًا لقد أعاد الأدب، ببراعته، الاعتبار لهذا الكائن، وكشف عن قدرته على حمل رسائل إنسانية خالدة تتجاوز كل الصور النمطية. لتعكس صورةُ الحمار -باعتباره شخصية أدبية- تعقيدَ الإنسان ومساءلته لذاته، ولعلاقته بالعالم من حوله، وهو ما يجعل من هذا الكائن الحيواني شخصية فريدة تثير التفكير وتأخذ مكانتها بين رموز الأدب عبر العصور.