عمرو خالد.. الداعية المودرن والروائي الفاشل

من وسيلة لتحديد الوقت إلى بطل فوق خشبة المسرح.. الظل في التاريخ البشري

12 فبراير 2025

لعب الظلّ على امتداد التاريخ أدوارًا هامة ومتعدّدة في حياة الإنسان، إذْ ساهم بشكلٍ كبير في إدراكه لعالمه، وشكّل حجّةً دامغة على واقعية الكائنات والأشياء. 

هذه الأدوار رافقتها ألغاز ومعتقدات وأفكار قادت إلى توظيفه في الأعمال السينمائية والفنية، وكذا في الأعمال الأدبية، كما رافقت الظل دلالات وتأويلات وصلت حد التعارض، إذ حمل فكرة التجلّي والخلود أحيانًا، وأحيانًا أخرى حمل فكرة الاختفاء، فكل شيء له ظل، إلا الأشباح لا ظل لها.

لقد ظَل الظِّل كما وصفه ميشال نيوريدساني "مفتوحًا على جميع الانحرافات والانحناءات وعلى جميع الإمكانات" والتفسيرات أيضًا، مثلما ظلّ موضوع بحثٍ لباحثين في مجالات السينما والأدب والفن. وبعد أن كان منطلَق الإنسان لتحديد الوقت، لعب دورَ البطل فوق خشبة المسرح وفي معتقدات الشعوب، وكان عنصرًا أساسيًا في لوحات الفنانين وفي نظريات التحليل النفسي، كما اقترن بحكومات وسياسيين ساهموا في تسيير بلدانهم دون أن يظهروا في العلن.

من الظل بدأ تحديد الوقت

أدرك الإنسان منذ القِدم أهمية الظّل في فهم الزمن؛ لاحظَ حركاته ليطوّر تقنياتٍ مكّنته من معرفة الوقت، وذلك عن طريق ساعاتٍ تعتمد على الظلّ واتجاهاته وحجمه للتفريق بين فترات اليوم، فاخترعَ "المِزْولَة الشمسية" منذ القرن الثالث قبل الميلاد كأداةٍ استُعملت لتحديد توقيت اليوم ومعرفة فصول السنة تبعًا لطول ظلّ جسم ثابت نتيجةً لحركة الشمس.

تألّفت المزولة في بداياتها من عصا عمودية مغروسة في الأرض، بحيث يتحدد الزمن بتحديد طول ظلها، قبل أن يتم تطويرها بما يسمح بضبط الوقت وتتبّع تغيّر فصول السنة وانعكاس ذلك على طول النهار واختلاف وضعية الشمس في السماء. وذلك قبل أن يجد الإنسان نفسَه أمام ضرورة اختراع تقنية أخرى أكثر دقّة ليحدد بها توقيت النهار والليل على حدٍ سواء.

بين قبائل إفريقيا واليابان.. الظل في حياة الشعوب

ارتبط الظلّ بالروح عند بعض القبائل، إذ ربطت شعوبٌ في أفريقيا سلامة الإنسان بسلامة ظله، واعتبرت أن النظر في الماء ليلًا يهدّد حياتهم، ذلك أن البحيرات والأنهار مليئة بحيوانات تلتهم ظلّ الإنسان إذا انعكس على الماء. 

تقول الباحثة السعودية فاطمة الوهيبي التي رصدت حضور الظلّ في الميثولوجيا في كتابها "الظلّ، أساطيره وامتداداته المعرفية والإبداعية"، إن قبائل "الزولو" في جنوب أفريقيا يعتقدون أن النظر إلى بحيرةٍ في الليل يهدد حياتهم، "لأن داخل الماء حيوانات تغتال ظلالَهم وبالتالي أرواحَهم"، شأنهم في ذلك شأن سكان قبائل "البازوتو" الذين "يعتقدون أن للتماسيح قدرة على سلب أرواح البشر عن طريق الهجوم على ظلالهم لو انعكست على الماء أو كانت قريبة منه".

 أما الكاتب الياباني جونيشيرو تانيزاكي فلم يعجبه انخراط بلاده في إيقاع الثقافة الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، فكتب في "مديح الظل"عن اليابان القديمة وأسرار الظلّ وقوانينه التي اكتشفها اليابانيون واستخدموها كعنصر جمالي ومريح في الآن ذاته. 

فبيْن الظلّ والجمال تجلّت علاقة سرّية وساحرة أراد تانيزاكي إحياءها، إذ إن البيت القديم قبْل هَوَسِ الإضاءة والتكنولوجيا الحديثة كان يخلو من الديكور ويستمد جماله من توظيف كثافة الظل، والطبخ الياباني يفقد جاذبيته في الأماكن المضاءة ويجب أن يؤكل بين ضوء الشموع التي تومض في الظلام وظل الأشياء، بل إن المراحيض التي صممها اليابانيون القدماء، والتي كان نصفها معتمًا، هي سقف ما وصلت إليه العمارة اليابانية في توفير جو مريح بالنسبة لتانيزاكي.

يقول جونيشيرو تانيزاكي في كتابه "مديح الظل": "كان الغرب يجهل أيضًا حتى الفترة الأخيرة الكهرباء والغاز والنفط، بيد أنه لم يشعر أبدًا، حسب علمي، برغبةٍ في التّلذذ بالظل"، ويضيف: "يتضح أن خيالنا ذاته يتحرّك داخل ظلام أسود مثل الليل، بينما يضفي الغربيون على أشباحهم صفة الشفافية التي في الزجاج. إن الألوان التي نُحبها في الأشياء التي نستعملها يوميًا هي عبارة عن طبقات من الظل، أما الألوان التي يفضلونها هم فهي تلك التي تجمع داخلها كل أشعة الشمس".

الظل في السياسة.. "حكومة الظل" بين استعمالين

في مقدمة دراسته لـ "دور المعارضة البرلمانية (حكومة الظّل) في مكافحة الفساد"، يُرجع الباحث علي عبد الحسين محسن ظهور "حكومة الظل" إلى أواخر القرن 19، حيث ظهرت في بريطانيا أول الأمر لتصبح خلال منتصف القرن الماضي جزءًا رئيسًا في العملية السياسية. 

ويتلخص مفهومها حسب نفس الباحث "بأنها حكومة غير رسمية تضم أعضاء من الأحزاب المعارضة للحزب القابض على السلطة، ويمثلون الحقائب الوزارية كافة." وذلك بهدف توجيه النقد للحكومة الرسمية، وتوفير منظور مختلف للسياسات التي تنفذها، كأسلوب تسوّق به لنفسها على أنها البديل المناسب بعد الانتخابات المقبلة. 

ومن الملاحظ في هذه التسمية أن "الظل" يعبر عن عدم امتلاك أيّة سلطة فعلية أو صلاحيات تنفيذية، كما يعبّر عن دور الرقابة التي تضطلع بها هذه الحكومة؛ حيث تُناط بكل وزير من وزرائها مهمة رصد أعمال نظيره في الحكومة الرسمية وفضحِها في البرلمان عن طريق استجوابه، وهو ما يؤدي وفق عَلي عبد الحسين محسن إلى "حرص الوزراء الشرعيين على أعمال وزاراتهم خوفًا من رقابة حكومة الظل ومن استجوابهم".

وعلى العكس من ذلك، شهدت بلدان أخرى، بما فيها البلدان العربية التي لا وجود فيها لمعارضة فعالة، شكلًا آخر من "حكومات الظل"؛ إذ تشير هذه التسمية في الغالب إلى شخصٍ واحدٍ أو مجموعة من الأشخاص، يكونون مقربين من رأس النظام، وتكون لهم قدرة كبيرة على التوغل داخل مؤسسات الدولة ومعرفة كبيرة بأسرارها، وبالتالي إمكانية التحكّم وتوجيه وعزل أعضاء الحكومة الرسمية.

ومما يمكن ملاحظته أن "حكومة الظل" وفق هذا الاستعمال تشير إلى الحاكم الفعلي للبلد، فهي المتحكّم الأساسي في الدول والمراكز الاقتصادية والسياسية والإعلامية في الأنظمة السياسية، إذ تصبح معها الانتخابات أداة يتغير بها الأشخاص الذين يوجدون في الواجهة (إن تغيروا) دون أن تتغير السياسات القائمة.

الظل في الأدب.. بين "صاحب الظل الطويل" و"الرجل الذي فقد ظله"

في رواية "صاحب الظل الطويل" للكاتبة جين ويبستر، لم ترَ بطلة القصة جودي أبوت من ملامح الشخص الذي نقلها من بؤس حياة الميتم إلى الكُلّية، وتكفّل بمصاريف دراستها، إلا ظله الطويل.

وتنفيذًا لشرطه بأن ترسل له رسائل شهرِيّة تخبره فيها عن سَير حياتها، ظلّت جودي تُصدّر رسائلها بعبارة "عزيزي يا صاحب الظل الطويل"، ذلك أنها لا تعرف عنه إلا ثلاث أشياء: أنه طويل، وغني، ويكره الفتيات.

تقول جودي في إحدى رسائلها له: "أفترض أن عليّ أن أسميك عزيزي السيد كاره الفتيات، عدا أن هذا يهينني بشكل ما، أو عزيزي السيد الرجل الغني، لكن هذا مهين لك، وكأن المال هو الأمر الوحيد المهم فيك، بالإضافة إلى أن كونك غنيًا هو سمة خارجية، فقد لا تبقى غنيًا طوال حياتك إذ أفلس الكثير من الرجال الأذكياء في وول ستريت، لكنك على الأقل ستظلّ طويلًا طوال حياتك! لذا قررت أن أدعوك صاحب الظل الطويل، وآمل ألا تمانع. إنه اسم تدلیل خاص..".

لقد ارتبط الظل عند جودي أبوت بمن منحها حياةً جديدة وسعيدة، فحمل في مخيّلتها صفة الحامل للخير مما دفعها لاختياره كاسم تدليل خاص لأهم رجل في حياتها.

وإذا كان الظلّ كما وظّفته جين ويبستر، يعبر عن الخير ومشاعر الامتنان والمحبة الصادقة، فعلى النقيض من ذلك اقترن عند الكاتب المصري فتحي غانم في روايته "الرجل الذي فقد ظله" بصحفيٍّ باع نفسه ومبادئه ليتسلق الدرجات من بؤس القاع نحو قمة المجد والسلطة على حساب أصدقائه ومن ساعدوه في طريقه، وفي رحلة السقوط نحو القاع ينتابه إحساسٌ مرير ويدرك في وحدته القاسية أنه أضاع نفسه.

لقد اقترن الظلّ في رواية فتحي غانم بالتيه والضياع وفقدان النفس، لذلك يقول في أحد مقتطفات الرواية: "وأنا صغير كنت أخرج إلى الشارع وألهو مع ظلي. أراقبه وهو يتمدد ويطول ساعات الغروب، عملاقًا على الأرض، فيملؤني الزهو، وأحلم بالسنوات القادمة عندما أكبر وأصبح في طول ظلي".

ثم يضيف: "في ساعات الظهيرة، كنت أقف في فناء المدرسة فوق ظلّي أراه قزمًا صغيرًا وأسخر منه، وأشعر أني أكبر منه. الآن لا أظن أني سأجد ظلّي لا طويلًا ولا قصيرًا. لا يملؤني بالزهو أو السخرية. ما الذي يُبقيه معي وقد هجرتني نفسي.. نعم أنا الرجل الذي فقد ظلّه".

الظل في السينما.. ليس أداة تقنية فقط

في مقالته عن "تقنية توزيع الضوء والظل بين الفن التشكيلي والفن السينمائي"، يُرجع الدكتور تبر الطرش تطور تقنية توزيع الضوء والظل إلى بداية القرن الخامس عشر، وقد أدى ذلك في نظره "إلى تقدم الفن الحديث بخطوات عملاقة".

فلعبة الظل والضوء هي الوحي الأساسي في الفيلم بتعبير الناقد السينمائي مهند النابلسي، بحيث لا تقتصر على إبراز المكان الذي تجري فيه الأحداث كأداة تقنية فقط، وإنما تعد عنصرًا أساسيا في بناء عوالمه، بالإضافة إلى أنها تتحول أحيانًا إلى أداة سردية تُعلّب دور الفاعل الصامت وتترك للمشاهد مهمة فهم خفايا الشخصيات وأبعادها.

تعتمد السينما على أساليب إضاءة متنوعة، حسب رؤية المخرج، حيث يتّخذ الظلّ في كل أسلوب منها وضعًا معينًا، فالإضاءة المنخفضة مثلًا تكون فيها الظلال بارزةً بهدف خلق جوٍّ من الغموض بشكل يعكس مشاعر الشخصيات، بينما تكون خفيفة في الإضاءة العالية لتعكس جو الأمل والتفاؤل. 

ويشير تبر الطرش في هذا الصدد، إلى أن توظيف الظل والضوء للتعبير عن خفايا النفس البشرية يشكل عاملًا مؤثرًا في المتفرج، حيث "يمكن بواسطتها فهم نفسية الشخصيات وخفاياها وتوجيه أنظار المشاهدين إلى عنصر معيّن"، كما أنها "تساهم في خلق تأثيرات درامية قوية. بالإضافة إلى دورها في تحديد نوعية المدرسة التي ينتمي إليها الفيلم".

ومن الأمثلة التي يُدرجها الطرش في حديثه عن الأدوار التي يلعبها الظل والضوء في السينما، نجد الأفلام التعبيرية في ألمانيا التي أحسنت توظيف تناقضهما لخلق "عالم مرعب ومخيف" وإضفاء ما وصفه بـ"الإحساس الشامل باليأس الجماعي الذي عاشه الألمان أثناء الحرب"، وقد سمّيت هذه التقنية (تقنية الأنماط المتناقضة) بمصطلح "chiaroscuro" وهو مصطلح يجمع بين chiro الذي يعني المُشرق أو الواضح، وscuro الذي يشير إلى الظلام والغموض.

مسرح خيال الظل.. الظل بطلًا فوق الخشبة

من بين أشكال عديدة ومتنوعة أبدعها الإنسان في الفن المسرحي، يبرز مسرح "خيال الظل" أو "ظل الخيال" كما يسميه عبد الحميد يونس في مقالته "مسرح عربي كان.. قبل أن تكون المسارح"، باعتباره من المسارح الشعبية الضاربة في أعماق تاريخ الإنسان حيث يرجع تاريخ ظهوره بين العرب إلى ما قبل 8 قرون، بعدما انتقل إليهم من الهند. 

ويعتمد هذا المسرح على الظلّ بشكل أساسي، إذ يجلس المشاهدون في الظلام لمشاهدة العرض الذي تُسلَّط فيه الأضواء على ستارة أو شاشة بيضاء بحيث تسقط الظلال عليها باستخدام دمى مسطحة وشخوصٍ وأشياء مصنوعة من الورق المقوّى أو الجلد الرقيق المقصوص، تُحرَّك بواسطة شخص يدعى الخيالي أو المخايل، والذي يؤدي بصوته المصحوب بالموسيقى حوارَ القصة التمثيلية التي تأتي عادة كنقدٍ ساخر للمجتمع أو سخريةً من الحكام ورجال السلطة وإشارةً إلى عيوبهم، مما عرّضه للمحاربة من طرف الأنظمة الحاكمة.

وحسب نفس الكاتب، فإن هناك نمطين لـ "خيال الظل" يختلف أحدهما عن الآخر اختلافًا يسيرًا، الأول "تستعرضه شاشة بيضاء وراءها مصباحًا كبيرًا من مصابيح الزيت، وبين المصباح والشاشة رسوم من الجلد تتحرك على القضبان، فتظهر ظلالها على الشاشة أمام الناس"، بينما يُستغنى في الثاني عن المصباح، "ويُستبدل بنار توقَد من القطن والزيت، أما الرسوم فيتم تحريكها بواسطة عودان من الخشب بواسطة أفراد الفرقة، ويتحدثون بألسنتها، ويستخلصون من العلاقات والأحداث العظة المطلوبة، وقد يتدخلون في سياق المسرحية، سائلين أو مجيبين أو شارحين".

ورغم اختلاف أنماط هذا الشكل المسرحي، إلا أن الثابت فيه هو أنه مبنيٌّ بالأساس على معرفة كبيرة بالضوء والبصر وطرق تحريك الأجسام لتقديم عروض غاب فيها الإنسان عن الواجهة، ليُفسح المجال للظلّ كي يلعب دور البطل على الخشبة. 

الظل والنفس البشرية.. على ضوء التحليل النفسي

تُعتبَر "نظرية الشخصية" التي صاغها عالم النفس السويسري كارل يونغ مدخلًا مهما لدراسة علم النفس، وهي النظرية التي بناها من منطلق أن النفس الإنسانية هي انعكاسٌ للعالم والإنسان. ويؤكّد الباحثان عماد الشريفين ونسرين الطراد في دراستهما لأبرز معالم هذه النظرية، أن يونغ انطلق من أساسٍ فكري هو أن "الشخصية تقوم على فكرة التوازن بين قوى الشعور واللاشعور، أو كما يطلِق عليها الواعية والخافية، والتي تؤدي بدورها إلى تحقيق الذات،" وهو الهدف الأسمى لكل شخصية مهما كانت سماتها.

وفي سعيه لفهم شخصية الإنسان، لم يعرّف كارل يونغ "الشخصية" وإنما صورها باعتبارها عدة مصطلحات نفسية؛ فالشخصية عند يونغ تتكون من الأنا (التي قال في كتابه "الأنماط السيكولوجية" إنها مركّبة من الأحاسيس التي تمثل مركز مجال الوعي) والذات (التي تتخذ موضعًا لها بين الشعور واللاشعور وتمنح للنفس حالة من الاستقرار والتوازن)، ثم القناع (الذي يعرّفه يونغ بالقول: إنه الجهاز الذي يستخدمه الفرد للتكيف مع العالم) واللاشعور الجمعي والفردي (وهو الحيز الذي تخزَّن فيه الخبرات والتجارب الشخصية وكذا تجارب الأسلاف المتراكمة)، فالأنيماوالأنيموس (حيث يجسد أولهما العنصر الأنثوي في اللاوعي الذكوري، ويجسد الثاني العنصر الذكوري في اللاوعي الأنثوي).

بالإضافة إلى مصطلح "الظل" الذي يشير عند يونغ إلى الجوانب الخفية من شخصية الإنسان بوصفه جزءًا من اللاوعي، يتكون من المكبوتات والغرائز والنواقص ونقاط الضعف وغيرها مما لا يرضى المرء أن يعترف بوجوده داخل ذاته فيُنكره أو يُخفيه تجنبًا للألم. 

يقول كارل يونغ في كتابه "علم النفس التحليلي": "يُشخّص الظّل كلّ ما ترفض الذات الاعتراف بأنه فيها، ومع ذلك يُقحم نفسه عليها مباشرة أو مداورة، كأن يكون فيها صفات دنيا أو ميول أخرى لا تتوافق مع الذات".

ويوضح بالقول: "والظل هو ذلك الجانب من الشخصية المثقل بالآثام، الجانب الوضيع والمكبوت والخبيء"، مع تأكيده أن المشاعر الخفية، أو عواطف الظل كما يُطلق عليها، والتي تختبئ في اللاوعي وتتزايد حدّتها مع الوقت، "لا تتكون من الميول التي ترفضها الأخلاق وحسب، وإنما من عدد من الصفات الجيدة أيضًا، مثل الفطرة السليمة، والارتكاسات المناسبة، والبصيرة الواقعية، والحوافز المبدعة..". 

ستوييكتا يتتبّع أدوار الظل

"تم اختراع صنع الدمى على يد فتاة شابة، وبما أنها كانت قد وقعت في حب شاب، فإنها رسمت على الحائط ظل هذا الشاب النائم، ولما انبهر أبوها بالشبه الكبير، هيّأ الطين ونحت الصورة، وذلك بملء محيطها طينًا".

يستنتج فكتور إيرونيم ستوييكتا، في تتبعه للأدوار المتعددة التي لعبها الظل في الفن والأدب خاصة، ومن هذا الاقتباس الذي يقدم إشاراتٍ تتعلق بالمراحل الأساسية لانتقال الفن من "مرحلة الظل" إلى مرحلة الرسومات المزدهرة، أنّ الوظيفة الأولى الممكنة للظل في الفن هي كونه حاملًا للذاكرة: إنه "يجعل الغائب حاضرًا" بتعبيره.

ويضيف أن "هناك وظيفة أخرى محتملة تتولد عن كون الصورة/الظل هي صورة شخص لا ترتبط به بعلاقة شَبَه فقط، وإنما بعلاقة وصلٍ". مفسرًا الظل المثبت على الحائط بكونه مجرد بقايا لظل حقيقي رحل مع المحبوب: "إن الظل الحقيقي يرافق من يرحل، بينما محيطه المثبت على الحائط يخلد حضورًا على شكل صورة، إنه يثبت الديمومةَ ويوقفها".

وفي الكوميديا الإلهية لدانتي، يفسر ستوييكتا مشهد سَير فيرجيل ودانتي جنبًا إلى جنب وهما يديران ظهريهما إلى الشمس، في وضع يُفترض أن يلقي فيه أحدهما بظله على الآخر، قبل أن ينتبه دانتي مذعورًا إلى أن فيرجيل لا ظل له -يفسّره- بكون المؤلّف يُريد أن يُبرز بالوضوح والروح الشاعرية التي يتميز بها، "أن ظل الإسقاط علامة حياة في الكوميديا الإلهية: وحده دانتي له ظل، بينما الآخرون كفيرجيل، فإنهم ظلال".

فالشخوص هنا كائنات يراها المؤلف، لكن عليها أن تظل غير مرئية، إنها ظلال في حد ذاتها، وعدم انعكاس الظلّ هنا دليل وجود وليس العكس.

ويتحدث ستوييكتا في كتابه "موجز تاريخ الظل" عن جدارية "القديس يداوي المرضى بظله" التي أنجزها الرسام الإيطالي مازاتشيو في القرن 15، والتي يظهر فيها بطرس برفقة يوحنا وحواريّ آخر، وهم يمشون في إحدى الطرقات التي يَنتظر المرضى على حافتها شفاءَهم، حيث تُجمع الدراسات التي أُنجزت حولها على أنها تضعنا "أمام مفهوم عتيق وسحري عن الظلّ بوصفه وجودًا خارجيا للروح". 

فتبعًا للتأويلات السائدة في زمن إنجاز الجدارية، فإن بطرس يمتلك قدرة خارقة على إشفاء المرضى بظله، وهو ما يلح عليه مازاتشيو ويجسّده في جداريته التي تنتمي لسلسلة لوحات "حياة القدّيس"، إذ إن "قوة الظل عند الحواريين تتعارض مع الأرواح الشريرة التي كانت تمس المرضى فتقضي على قواهم"، وبالتالي تشفيهم.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

العقل الأعوج.. صعود الصحافة الذاتية

يتناول روبرت مور التحول الجمالي والفكري في الكتابة غير الخيالية الأميركية، من الصحافة الأدبية التقليدية إلى "الصحافة الذاتية". شكل هجين يجمع بين التحقيق الصحفي والسيرة الذاتية والتأمل الفلسفي

2

نور عسلية: الهشاشة كامنة في كل عمل فنيّ

تبدأ نور عسلية مما هو ضئيل وهش وحساس، تثبّته وتجمده في لحظات هي مزيج من الهدوء والقسوة، من التأمل الدافئ إلى الخشونة الحادة

3

الموسيقات الإيرانية وموسيقاتنا.. التقليد بين التحديات والمساءلة

هل يمكن أن نعرّف الموسيقى بالهوية؟ وهل يُمكن أن تكون هناك "موسيقى عربية" أو "إيرانية" أو "فارسية" كما نتحدث عن لغات وأمم؟

4

المذكرات ذاكرةً ثقافية.. جين مقدسي وكتابة التاريخ غير الرسمي

المذكرات بابًا إلى التاريخ غير الرسمي، من خلال كتاب جين سعيد مقدسي: جدتي وأمي وأنا

5

الصوابية السياسية.. الحدود بين العدالة والرقابة

عن مفهوم الصوابية السياسية وجذوره وآثاره على المجتمعات، بين تحقيق العدالة وتقييد الحريات

اقرأ/ي أيضًا

الكوفية الفلسطينية (ميغازين)

من قماش إلى قضية.. الكوفية على كتف العالم

كيف عبرت الكوفية من كتف الفلاح الفلسطيني إلى أعناق المتظاهرين في برلين ومدريد وجامعات أميركا؟ وكيف انتقلت من لباسٍ فلكلوري إلى أيقونة عالمية للمقاومة؟

هند جودة

جين مقدسي وكتابة المذكرات بابًا إلى التاريخ (ميغازين).
جين مقدسي وكتابة المذكرات بابًا إلى التاريخ (ميغازين).

المذكرات ذاكرةً ثقافية.. جين مقدسي وكتابة التاريخ غير الرسمي

المذكرات بابًا إلى التاريخ غير الرسمي، من خلال كتاب جين سعيد مقدسي: جدتي وأمي وأنا

ممدوح النابي

لطمي النيل حضور راسخ في الثقافة الشعبية المصرية (ميغازين).

في البدء كان خنوم.. طمي النيل في الثقافة الشعبية المصرية

عن طمي النيل وتشكُّلاته في الذاكرة الشعبية المصرية عبر العصور.

عبد العظيم فهمي

تاجرات ووسيطات عقاريات قبل عشرة قرون (ميغازين).

سمسارات عقارات ووسيطات تجاريات.. النساء قبل عشرة قرون

سيدات الأعمال ونشاطُهُن في العصور الفاطمية والأيوبية والمملوكية

إيناس كمال

فن التلاوة بين ماضٍ عريق وحاضر مأزوم (ميغازين)

فن التلاوة: مِن ماضٍ عريق إلى حاضر مليء بالأزمات

قراءة في رحلة فن التلاوة العريق من ماضٍ حافل بالقراء الكبار، إلى حاضر مليء بالأزمات

هيثم أبو زيد

المزيد من الكاتب

يونس أوعلي

روائي وكاتب مغربي

بين ناس الغيوان والألتراس.. فلسطين في وجدان الأغنية المغربية

على اختلاف ألوانها ولغاتها، خصصت الأغنية المغربية مساحة واسعة للقضية الفلسطينية تعكس مدى اهتمام المغاربة بها وتضامنهم معها

أدب الدكتاتوريات.. هل الطغاة متشابهون في كل مكان؟

تعكس "روايات الدكتاتورية في أمريكا اللاتينية" استبداد السلطة وتأثيرها المدمر على المجتمعات، وتعرض تشابهات عديدة مع طغاة العالم العربي

إخضاع الشعوب.. بين آليات الاستبداد وحقّ المقاومة

يوظّف المستبد آليات مختلفة لقهر الناس ودعم استمرار حكمه، وعلى الرغم مما ينطوي عليه المستبد من ضعف إلّا أن شعور الخوف الذي يعمّمه في المجتمع يحول دون تنبّه الناس ووعيهم بهشاشة الاستبداد ما يطيل من عمر الطغيان

حين سارت الإمبراطوريات خلف عبق القرفة

أحاطت بالتوابل حكايات وأسرار وأحداثٌ كبيرة وكثيرة، فهي لم تكن مجرّد إضافةِ نكهةٍ للطعام، وإنما لعبت أيضًا أدوارًا هامّة ومختلفة في التاريخ

الكتابات الجدارية.. صفحات ممزقة من تاريخ الإنسان

لم تكن هذه النقوش ترفًا فنيًا بقدر ما كانت وسيلة تواصل، وتعبيرًا عن جزء من الذاكرة الجماعية للإنسان ومكتبته الأولى في التاريخ

من حنظلة إلى الميمز: الكاريكاتير العربي بين الرصاصة واللايك

يملك الكاريكاتير قدرة هائلة على تحويل المأساة إلى صورة ساخرة تثير تساؤلاتٍ تتجاوز سطح الأحداث إلى عمقِها