مع حلول ثمانينيات القرن الماضي، كان العالم قد شهد قفزة كبيرة في مجال الألعاب وأجهزة الحاسوب، فقد أطلقت شركة "IBM" الأميركية حاسوبها المتطور الذي تغير معه تغير مجال إدارة الأعمال بالكامل. أما اليابان، فقد بدأت في غزو العالم ثقافيًا من خلال ألعاب الفيديو التي توزعت في الأسواق العالمية مثل "باك مان"، التي تم تطويرها من قِبل شركة "نامكو". وتحولت هذه اللعبة تحديدًا، مع الوقت، إلى ظاهرة اجتماعية وثقافية في العالم.
وقبل أن تنتهي هذا الحقبة، طرحت شركة "نينتندو" اليابانية "الجيم بوي"، وهي منصة ألعاب فيديو محمولة يدويًا تعمل وفقًا لتقنية الـ8 بت. هكذا تحولت اليابان، مع الوقت، إلى مركز ضخم لعالم ألعاب الفيديو. وقد عززت هذه المكانة مع إطلاقها لجهاز "بلاي ستيشن" قبل منتصف التسعينيات، والذي ظلّ يتطور بشكل متواصل.
ومع دخول الألفية، كانت شركة "مايكروسوفت" العملاقة قد حجزت لنفسها مكانًا على خط ألعاب الفيديو بطرحها لجهاز "XBOX" ليكون منافسًا لأجهزة الشركات الأخرى. وبدا واضحًا أن ألعاب الفيديو تشهد تطورًا هائلًا بمرور الوقت حتى وصلنا في يومنا هذا إلى الذكاء الاصطناعي، وألعاب المحاكاة، والواقع الافتراضي المتخيّل. ووسط هذا الزحام والسرعة الهائلة في التطور والأفق المعرفي، خطر على بالي سؤال ملّح: كيف كانت ألعاب الأطفال في مصر قديمًا في الوقت الذي كانت فيه التكنولوجيا غائبة؟
صحيح أن أطفال العرب قديمًا كانت لهم ألعابهم الخاصة التي يقضون من خلالها أوقات فراغهم، لكن ما كان يشغلني هو التركيز على ألعاب الأطفال في مصر سواء كانت في المدن أو الأرياف. وقد اتضح لي مع البحث أن هذه الألعاب لم تكن منفصلة عن الغناء، بل إن هناك بعض الألعاب التي لم تكن تؤدى إلا في وجود أداء غنائي جماعي. وفي هذه المقالة نستعرض بعضًا منها.
شبيرو أو البحر المالح
نشرت مجلة "الدنيا المصورة" مقالة بعنوان "لا ينزل ولا يتزلزل إلا وابور الزيت" بتاريخ 31 آب/أغسطس 1930، حاولت من خلالها تسليط الضوء على مجموعة من ألعاب الأطفال الشائعة حينها في الإسكندرية، والتي كان الأطفال يمارسونها بشكل شبه يومي دون ضجر. ومن بين هذه الألعاب "شبيرو"، وهي كلمة اشتقتها الأطفال من كلمة شبر. وفيها، يجلس اثنان من الفتيان على الأرض بينهما مسافة فراغ نصف متر، ويثبّت أحدهما إحدى يديه على الأرض وهي منفرجة الأصابع، ثم يبدأ الأطفال في القفز فوق "أول شبيرو".
وبعد أن تنتهي الجولة الأولى، يثبّت الطفل الثاني يديه منفرجة الأصابع فوق يد الطفل الأول، وهكذا يعلو الحاجز شيئًا فشيئًا. ومن ثم تبدأ القفزة الثانية والتي تُسمى "ثاني شبيرو" وهكذا تتكرر الحركة مع زيادة الارتفاع. ومن جهتهم، يحرص الأطفال على عدم ملامسة أقدامهم لهذا الحاجز وإلا جلس الذي لمس الأصابع بقدميه محل الطفل الجالس على الأرض، وقد يحدث أن تُستخدم الأرجل بدلًا من الأيادي، فيصبح اسمها "رجيلو".
وأشار الباحث ماهر صالح في دراسته "ألعاب الأطفال وأغانيهم" المنشورة في مجلة "الفنون الشعبية" بتاريخ تموز/يوليو 1967، إلى أن هناك لعبة تُسمى "شبر شبير"، وهي أقدم لعبة مصرية كانت تمارس حتى تاريخه. ويُطلق عليها أحيانًا "البحر المالح"، وكانت محبوبة جدًا لدى القدماء المصريين، حيث يرجع تاريخها إلى 2500 قبل الميلاد حسبما أشارت النقوش التي عُثر عليها في مقابر بني حسن بالمنيا.

وقد تطابقت طريقة ممارستها منذ الفراعنة مع الطريقة المتعارف عليها سواء في الوجهين القبلي أو البحري أو النوبة أو الواحات. وكانت تُستعمل فيها الأرجل بدلًا من الأيادي بنفس الكيفية. وفيها، يتقابل فريقان للمنافسة بأعداد متساوية وتُجرى بينهما قرعة لاختيار الفريق الذي سيبدأ أولًا. أما عدد اللاعبين، فكان يتراوح من أربعة إلى عشرة لاعبين.
لا ينزل ولا يتزلزل
هذه لعبة شهيرة قديمًا كانت تُمارس من قبل فريقين لكل منهما فريق رئيس. والأخير كان يقوم بإطلاق أسماء مجهولة على أعضاء فريقه لدى الفريق الآخر، ومنها "وابور الزيت"، و"وابور الجاز"، و"وابور الزلط". كما كانت تُستخدم عملة معدنية لتحديد الفائز من الخاسر. فرئيس الفريق الخاسر كان يأمر أعضاء فريقه بأن يحنوا ظهورهم كالحصان حتى يتمكن أعضاء الفريق الآخر من امتطائهم كالفرسان. وكان رئيس الفريق المنتصر يقوم بإطلاق أسماء مخفية على أفراد فريقه كالتي ذكرناها. كما أنه كان يقوم بتغطية أعين الرئيس الخاسر بقطعة قماش داكنة ويسلمه الكرة في يديه.
وعندها يكون قد أطلق على أفراد فريقه أسماء مجهولة سواء "وابور الزيت" أو "وابور الجاز" أو "وابور الزلط"، ثم ينظر إلى فريقه ويقول: "لا ينزل ولا يتزلزل إلا وابور الزيت أو الجاز أو الزلط، ينزل بشويش، ويطلع بشويش، زي لقمة عيش".
هكذا ينطلق العضو الذي هتف باسمه ويخطف الكرة من يد الرئيس المغلوب المعصوب العينين ويخفيها في جيبه. وعندها يُطلب منه أن يفتح عينيه ويخمن من الذي خطف الكرة. ففي حالة الإجابة السليمة، تتبدل المعادلة وينقلب الفرسان خيولًا والعكس. وقد يحدث أن يفشل الرئيس المغلوب في تخمين صاحب الكرة لأيام وليالٍ دون فائدة، فيتم انتخاب رئيس آخر.
طاطي البصلة
تستعرض لنا المقالة السابقة في "الدنيا المصورة" أشكالًا أخرى من ألعاب الأطفال القديمة، ومنها لعبة "طاطي البصلة" التي تشبه إلى درجة كبيرة "لا ينزل ولا يتزلزل". ولكن هذه المرة يكون المغلوب فيها لاعبًا واحدًا فقط، إذ يجتمع عدد من الأطفال وينتخبوا واحدًا من بينهم يكون عليه مهمة الانحناء المعروفة باسم "طاطي البصلة"، وذلك للقفز من فوقه. وعندها يختار الطفل الذي يقفز من فوقه اسمًا من أسماء الفاكهة ويخبر به حكم اللعبة على نحو سري.
وأثناء قفزه من فوقه يردد: "من عند الفكهاني"؟ وعندها يقول المنحني: "عنب" على سبيل المثال. وإذا أصاب في التخمين، يأخذ القافز مكانه وهكذا تتواصل مجريات اللعبة. وقد تتحوّل إلى لعبة جماعية، حيث يقف الأطفال في صف واحد، ويقفز الأول ثم ينحني ويقفز من فوقه الذي يليه ثم ينحني وهكذا في دورة متتالية إلى ما لا نهاية. وقد اشتهرت هذه اللعبة بنشيد يردده الأطفال أثناء قفزهم، فيقول القافز الأول: "أولنا إسكندراني". فيرد الباقون: "وادي عيون الغزلاني، قتلني ما قتلته، ما قتلني إلا ابن عمي، بالشوكة والسكينة، تحت سور المدينة، قومي شوفي يا حزينة".
الحوكشة
يعد اسم هذه اللعبة من أكثر أسماء الألعاب انتشارًا في الحياة المصرية بين الأطفال، إذ أوضح ماهر صالح في دراسته السابق ذِكرها، أنها كانت من أكثر الألعاب شيوعًا بين الأطفال، وخصوصًا في المجتمعات الريفية. وقد ارتبطت بفصل الشتاء، فكانت تُلعب في الأجران الواسعة وتساعد على التدفئة. ومنها استلهم الغرب لعبة "الهوكي" فهي منطوق أجبني لكلمة الحوكشة.
وهكذا عمل الغربيون على تنظيم قواعدها وعدد لاعبيها وأوصاف الكرة والعصا اللتين تُستخدمان في اللعب. وكانت هذه اللعبة تحتاج إلى مكان فسيح وكرة مصنوعة من اللوف الطبيعي أما المضارب، فكانت تُصنع من الأجزاء السفلية من جريد النخيل، والذي كان ينتزع منه الجزء المُسمى بالقحف ويتم تهذيبه بواسطة سكين لإزالة الأجزاء الشائكة أو الناتئة، ثم يوضع في الفرن لتجفيف ما به من عصير، فيخف وزنه.
وكانت أحيانًا تُستبدل عصا جريد النخيل بأخرى من شجرة السنط. وفيها ينقسم اللاعبون إلى فريقين متساويين ولكل منهما رئيس يُسمى "العريف". وكانت الكرة توضع في منتصف الملعب بينهما وينادي أحد العريفين "ترنيزة" في إشارة للاستعداد باللعب، فيرد الآخر "بحر الجيزة". وهكذا كان اللاعبون يضربون الكرة بقوة عن طريق العصا لمحاولة تمريرها فوق خط مرمى الفريق الآخر، وكان الذي ينجح في ذلك يصيح "رد"، مما يعني أنه نجح في تسجيل نقطة. وفي النهاية، كان يتم تجميع النقاط والغلبة تكون للحاصل على أكبر عدد منها.
واحدة على الركبة
كانت هذه اللعبة من أشهر الألعاب التي مارسها الأطفال على نطاق واسع في الماضي، فكانوا يحضرون أعدادًا من أعواد قصب السكر، ويتحدون بعضهم في كسر عود القصب إلى قطعتين أو ثلاثة على الركبة أو السمانة أو الرقبة أو الذراع. والذي يتمكن من كسر عقلة القصب، كان يحصل عليها دون أن يدفع ثمنها.
ولعل أشد هذه الضربات صعوبة كانت ضربة الهواء، إذ كان الطفل يلوح بالعود كاملًا في الهواء، قبل أن ينزل به مرة واحدة على إحدى ركبتيه. فإن تمكن من كسره من المرة الأولى، حصل عليه كاملًا دون أن يدفع شيئًا. وكان الأطفال يتفننون في معرفة أي الأجزاء أكثر سهولة في كسرها من الأخرى. كما أن تلك اللعبة كانت تتسبب في إصابات جسيمة لبعض الصغار أحيانًا.
دق الكف "صلح"
تعد لعبة دق الكف "صلح" من أبرز الألعاب التي أوردها الباحث محمد عادل خطاب في كتابه "الألعاب الريفية الشعبية" (1961). وهي لعبة تتكون من ستة لاعبين على الأغلب، حيث كانت تُجرى قرعة لاختيار أحد اللاعبين الذي يقف وظهره يقابل الآخرين، ثم يضع يده اليمنى بجانب عينه اليمنى حتى يحجب الرؤية ولا يمكنه رؤية من حوله من اللاعبين. أما يده اليسرى، فكان يضعها تحت إبطه الأيمن بحيث تكون راحة اليد للخارج، وعندها يقوم اللاعبون بضربه بخفة على راحة يده، ثم يرفعون أصابع السبابة للأعلى قبل أن يلتفت هو إلى الخلف ويحاول تخمين الشخص الذي قام بالضرب. وإذا أصاب في تخمينه، فإن الضارب يأخذ مكانه وهكذا تتواصل اللعبة. وأتذكر أن اللاعبين في هذه اللعبة كانوا يكتمون أصوات الضحك، حتى لا ينكشف أمرهم!
الثعلب فات "وفي ذيله سبع لفات"
لقد أصبح اسم هذه اللعبة من الموروثات الشعبية في المجتمع المصري مع مرور الوقت، وبات من الصعب أن تجد فردًا واحدًا لم يسمع باسمها من هنا أو هناك. تتكون اللعبة في الغالب من 10 إلى 20 لاعبًا فأكثر، وكان يُستخدم بها منديل ملفوف يُطلق عليه "الطرة"، بينما كانت القرعة هي التي تحدد اللاعب الذي يقوم بدور الثعلب ويمسك الطرة في يده. وكان باقي اللاعبين يجلسون في دائرة متجهين لمركز هذه الدائرة، ويبدأ اللعب عندما يجري الثعلب حول اللاعبين ممسكًا بيده الطرة وهو يصيح بأعلى صوته "الثعلب" فيرد عليه باقي اللاعبين "فات فات"، فيقول "وفي ذيله"، فيردون "سبع لفات".

وأثناء الغناء يقوم برمي الطرة خلف أحد اللاعبين دون أن يشعر بها. ويستمر في الجري حول الدائرة. فإذا أكمل الثعلب دورة كاملة وعاد إلى المكان الذي رمى به الطرة دون أن يشعر اللاعب بأنها خلف ظهره، فإن الثعلب يلتقط المنديل مرة أخرى ويضربه به. وهكذا يبدأ هذا اللاعب في الجري حول الدائرة محاولًا الهروب منه حتى يصل إلى مكانه وعندها فقط يتركه الثعلب. وتتكرر اللعبة مرة تلو الأخرى. أما عندما ينجح اللاعب في الإحساس بالطرة خلف ظهره، فكان يجري خلف الثعلب ليضربه بها حتى يصل الثعلب إلى مكانه الذي أصبح فارغًا ويجلس به.
كيكا على العالي
من الألعاب الشعبية التي يذخر بها أيضًا كتاب “الألعاب الريفية الشعبية” لخطَّاب السابق ذِكره، لعبة "كيكا على العالي"، التي تتكون من 6 إلى 20 لاعبًا. ففي البداية، يتم إجراء قرعة لمعرفة الشخص الذي يقوم بدور "المسَّاك"، ثم يقف باقي اللاعبين فوق شيء مرتفع عن الأرض كقطعة خشب أو كرسي صغير أو صخرة، وتبدأ اللعبة عندما يبدأ اللاعبون في النزول إلى الأرض، فيجري المسَّاك نحوهم محاولًا أن يلمس أحدهم قبل أن يعود للقطعة الخشبية مرة أخرى.
وإذا استطاع المسّاك أن يلمس أحدهم قبل تمكنه من الصعود مجددًا إلى القطعة الخشبية، يصبح مساكًا وهكذا تتبدل الأدوار فيما بينهما. وفي النهاية يتم حساب النقاط ضد كل شخص يتم لمسه من اللاعبين، فيكون الفائز هو الذي استطاع أن يحرز أقل عدد من النقاط المحسوبة ضده.
الطاقية في اللعب
هذه واحدة من الألعاب التي كانت شائعة سيما في المجتمعات الريفية. وكانت تتكون من 10 إلى 20 لاعبًا. وكالعادة، كان يتم تقسيمهم إلى فريقين متساويين. وعندها كانت تُجرى قرعة لمعرفة الفريق الذي يبدأ أولًا، حيث يحمل الطاقية ويجلس أفراده في قاطرة منتظمة. وكان الفريق الآخر يقف بعيدًا عنهم مسافة لا تقل عن 10 أمتار تقريبًا. ويقوم واحد من لاعبي الفريق الجالس بالتقاط الطاقية ويتظاهر بأنه يخفيها في كل مرة مع أحد أفراد فريقه، حتى يضلل الفريق الآخر. وهكذا يتقدم رئيس الفريق الآخر ويحاول تخمين الشخص الذي تُخبأ معه الطاقية ويشير إلى الشخص الذي يظن أنه قام بإخفائها في "عبه"، أي داخل الجلباب. وإذا نجح في تخمينه من المرة الأولى، فإن الفريقين يتبادلان الأدوار. وإذا لم يجدها من المرة الأولى، فإن المحاولة تتكرر مرة تلو الأخرى حتى يعثر عليها.
ألعاب الحاضر
لا شك أن هذه النماذج التي تطرقنا لها، على سبيل المثال لا الحصر، من شأنها أن تعطينا مؤشرًا حول طبيعة الترفيه لدى الأطفال في المجتمع المصري قديمًا. فكانت هذه الألعاب – على الرغم من بساطتها – تحمل في جعبتها مساحة واسعة من الذكاء الفطري والمرح لقضاء أوقات مسلية بأقل التكاليف المادية.
ويبدو أننا اليوم، مع تبدل الأحوال الاجتماعية والضغوط المتعددة التي حفلت بها الحياة، وفي ظل سطوة التكنولوجيا؛ بات لدينا حنين متواصل إلى بساطة هذه الألعاب وعفويتها. كما أصبح من الواضح أيضًا أنها كانت تعزز روح الجماعة لدى الأطفال، بعيدًا عن حالة العزلة الفردية التي نعيشها اليوم. فهل كانت هناك ألعاب شبيهة في باقي المجتمعات العربية قديمًا؟












