عبر مدرسة الإسكندرية انتقلت الفلسفة من الوثنية إلى التوحيد (ميغازين).

مدرسة الإسكندرية الفلسفية.. الجسر الروحي بين أثينا وبغداد

6 يوليو 2025

من اللافت للنظر في مدونات تاريخ الفلسفة المشهورة، تجاهل المحطات الشرقية في تاريخ الفكر الإنساني، وخصوصًا مدرسة الإسكندرية التي كان لها السبق في التوفيق بين الفلسفة والدين، بل كانت هي الجسر الذي عبرت من خلاله الفلسفة اليونانية إلى الثقافة العربية الإسلامية بعد تصفيتها من شوائب الوثنية.

فبينما يُنظر إلى الفلسفة الإسلامية غالبًا على أنها امتداد مباشر للفكر اليوناني، فإن الحقيقة أكثر تعقيدًا؛ فالفكر الذي تلقاه فلاسفة الإسلام الكبار –من الكندي والفارابي إلى ابن سينا وابن رشد– لم ينتقل إليهم بصيغته الوثنية القديمة التي كانت منتشرة في أثينا اليونانية، بل مرّ عبر جسر فكري وروحي متين، هو مدرسة الإسكندرية، التي نقّحت الموروث اليوناني من شوائب الوثنية، وقدّمته بلُغة تقترب من التصور التوحيدي للعالم.

الإسكندرية: المركز الفلسفي العابر للحضارات

تعود بدايات المدرسة السكندرية إلى تأسيس مكتبة الإسكندرية في عهد بطليموس الأول (نحو 300 ق.م)، والتي لم تكن مجرد مستودع للكتب، بل كانت مركزًا علميًّا وبحثيًّا استلهم من الأكاديمية الأفلاطونية والمدرسة المشائية الأرسطية، لكنه تميّز عنهما بالانفتاح على التراث غير اليوناني، كالحكمة المصرية القديمة، والديانات الشرقية، والتقاليد البابلية والهندية.

هذا التفاعل أنتج ما عُرف لاحقًا بالفلسفة الهيلينستية، وهي مزج بين الميتافيزيقا اليونانية والتصورات الدينية الشرقية، ما أسس لنمط في التفكير لا يرى تعارضًا جوهريًّا بين العقل والروح، ولا بين الفلسفة والدين، وهو النموذج الذي لقىَ لاحقًا صدًى واسعًا في الفكر الإسلامي.

التوراة في حضرة أفلاطون: التوفيق بين الوحي والفلسفة

كانت الإسكندرية مدينة متعددة الأعراق والثقافات، وكان اليهود يشكلون نحو خُمس سكانها، ولهم فيها حضور ثقافي فاعل. ومع ترجمة التوراة إلى اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد والتي أطلق عليها (الترجمة السبعينية)، انفتح المجال أمام التأويل الفلسفي للنصوص المقدسة. 

سعى مفكرو اليهود إلى إثبات أن التوراة لا تتعارض مع الفلسفة اليونانية، بل تسبقها في الحكمة وتتناغم معها، فظهر اتجاه يُعرف بـ"التأويل الرمزي"، تجسّد في شخصية فيلون السكندري، الذي تجاوز التفسير الحرفي في تفسير التوراة، واقترب من الفهم الأفلاطوني – الأرسطي للإله والعالم، وقبله كان أريستوبولس المشائي الذي استخدم التأويل العقلي في فهم الكتاب المقدس متجنبًا التجسيم والتشبيه للذات الإلهية، كما حاول أن يثبت بحماس وغلوّ أن أرسطو وأفلاطون وفيثاغورس وغيرهم من فلاسفة اليونان قد اقتبسوا تعاليمهم من التراث العبري.

المسيحية والفلسفة: محاولة التوفيق في قلب الإسكندرية

لم يكن حضور المسيحية في الإسكندرية نهاية للفكر الفلسفي، بل بداية لمسار جديد من التأويل الديني العقلاني. فقد حاول بعض آباء الكنيسة الأوائل، الذين نشأوا في بيئة المدرسة السكندرية، أن يُعيدوا صياغة العقيدة المسيحية بمنطق الفلسفة، لا ليفرضوها على النص المقدس، بل ليمنحوا الإيمان المسيحي لسانًا عقلانيًّا يُمكّنه من أن يحاور العصر.

برز في هذا الاتجاه كلمنت السكندري، الذي لم يرَ في الفلسفة اليونانية عدوًّا للمسيحية، بل اعتبرها تمهيدًا للوحي، وذهب إلى أن العقل الإنساني إذا تُرك لطبيعته الصافية، فإنه يهتدي إلى حقائق قريبة من حقائق الإنجيل.

ثم جاء أوريجانوس، أبرز تلامذة هذه المدرسة، فحاول أن يقرأ الكتاب المقدس بمنهج رمزي متأثر بالأفلاطونية والرواقية، مؤمنًا بأن وراء ظاهر النص روحًا خفية لا يدركها إلا العقل المتأمل، وقد سعى في تأويله إلى تجنب التشبيه والتجسيم، مقاربًا بين "اللوجوس" المسيحي و"العقل الفعال" في الفلسفة اليونانية.

وهكذا، ظهرت في الإسكندرية أولى محاولات التوفيق بين الدين المسيحي والميراث الفلسفي، وهي المحاولات التي ستجد امتدادها لاحقًا في الثقافة الإسلامية. 

الأفلاطونية المحدثة: حلقة الوصل الكبرى

لم يكن هذا المسار التأويلي خاصًا باليهود والمسيحيين، بل بلغ ذروته مع نشأة الأفلاطونية المُحدثة، التي صاغ معالمها الفيلسوف السكندري أفلوطين (القرن الثالث الميلادي)، الذي وُصف في المصادر الإسلامية بـ"الشيخ اليوناني". وقد درس أفلوطين في الإسكندرية، وزار فارس والهند، وتَشرّب الحكمة الشرقية وخصوصًا الهرمسية، ثم كتب تأملاته الفلسفية في كتابه "التاسوعات"، الذي انتقل إلى المسلمين لاحقًا عبر الترجمات السريانية.

تميّزت الأفلاطونية المحدثة بأنها لم تكن عقلانية بحتة، بل كانت تمزج العقل بالحدس الروحي، وتؤمن بأن المعرفة لا تتحقق فقط بالبرهان، بل بالانجذاب إلى "النور الأعلى"، وهذا ما يفسر حضورها القوي في فلسفة السهروردي، وفي نظرية الفيض والعقل الفعال عند الفارابي وابن سينا، ثم تجلياتها الأكثر وضوحًا في فلسفة الملا صدرا ومدرسة الحكمة المتعالية عند الشيعة.

خالد بن يزيد: الترجمة قبل العباسيين

رغم أن حركة الترجمة الكبرى اقترنت بالعصر العباسي، فإن أولى بوادر التواصل العربي مع الفكر السكندري سُجلت مبكرًا في العصر الأموي، على يد الأمير خالد بن يزيد بن معاوية (ت. 85 هـ)، فقد استعان خالد بعدد من فلاسفة الإسكندرية لترجمة كتب الطب والكيمياء والتنجيم إلى العربية.

ورغم أن هذه الترجمات لم تكن فلسفية خالصة، فإنها مثّلت البذرة الأولى لانفتاح فكري عربي، وفتحت الباب أمام استقبال النصوص الأجنبية، وأسهمت في خلق مناخ ذهني مهيأ للتجريب والعقلانية، ظهر أثره لاحقًا في أمثال جابر بن حيان والرازي الطبيب اللذين تأثرا بالأفكار الهرمسية الشرقية وبعض ما تُرجم عن السكندريين حينئذ. 

مدارس ورثت المنهج التوفيقي: من الإسكندرية إلى الرها وأنطاكية

مع تراجع الإسكندرية في أواخر العصر الروماني، وبفعل الصراعات اللاهوتية، بدأ تراثها ينتقل شرقًا، لكن بعد أن زرعت فكرة التوفيق بين الفلسفة والدين، وقدمت شروحات على النصوص اليونانية كانت هي المصدرّة إلى الشرق والمدارس الجديدة في ذلك الوقت، حيث ظهرت مراكز فكرية بديلة، أهمها أنطاكية والرها.

في الرها، أسّس النساطرة مدرسة فلسفية – لاهوتية مزدهرة، ترجمت نصوص أرسطو وأفلاطون إلى السريانية، ودرّستها لأجيال من اللاهوتيين الذين مزجوا بين العقل والدين

أما في أنطاكية، فقد ساد اتجاه أكثر عقلانية وحرفية في التأويل، ركّز على المنطق والجدل، وابتعد عن التأويل الرمزي.

ورغم تباين الاتجاهين، فإن كلتا المدرستين لعبت دورًا مزدوجًا في حفظ النصوص اليونانية وترجمتها، قبل أن تُنقل إلى فارس. 

جُنديسابور: الحلقة الفارسية في السلسلة

في جنوب غرب إيران، ظهرت مدينة جُنديسابور كمركز علمي كبير أسسه الملك الساساني شابور الأول. استقبلت المدينة اللاجئين النساطرة من الرها، الذين أسسوا فيها مدرسة ومستشفى شهيرين.

وفي جنديسابور، تُرجمت الكتب من اليونانية إلى السريانية ثم إلى الفهلوية، وصيغت شروح وتعليقات فارسية على هذه النصوص، لتُصبح هذه المدينة "الجامعة الكبرى" التي جهّزت العلماء والمترجمين الذين سيلتحقون لاحقًا ببيت الحكمة في بغداد.

بيت الحكمة: ذروة الترجمة ونضج الفكرة

في العصر العباسي، تأسس بيت الحكمة في بغداد، وضم نخبة من المترجمين الذين جاؤوا من تقاليد الرها وأنطاكية وجنديسابور، وقد تُرجمت فيه كتب أرسطو، وأفلاطون، وجالينوس، وإقليدس، وغيرها من كنوز اليونان، إلى العربية، بعد أن مرّت عبر سلسلة طويلة من اللغات والتأويلات كان أهمها التوفيق السكندري بين الفلسفة والدين ثم المدارس التي تبعتهُ في طرق الشرح والدرس. 

لم يتلق الفلاسفة المسلمون –من الكندي إلى ابن رشد- النصوص الفلسفية اليونانية كما هي، بل تلقّوها مُشبعة بروح الشرق، وموائمة لنسق التوحيد الإسلامي. ولهذا لم يكن استقبالهم للفلسفة مجرد اقتباس، بل كان إعادة إنتاج في سياق حضاري جديد. 

أثر الإسكندرية في منهج التعليم الإسلامي

لم يتوقف أثر مدرسة الإسكندرية على المحتوى المعرفي، بل امتد إلى نظام التعليم ذاته، فقد كانت حلقات الدرس في المدرسة السكندرية تبدأ بـ"المتن"، ثم "الشرح"، فـ"الإشكالات"، فالردود على الإشكالات والاعتراضات وهو ما يُعرف في الثقافة العربية بـ"الحواشي"، وهو نفس النسق الذي ساد لاحقًا في المدارس الإسلامية من بغداد إلى الأزهر. 

وهكذا، تسربت روح الإسكندرية لا في الكتب فقط، بل في طرائق التعليم، وآليات الشرح، وأساليب التأمل والحوار المفتوح بين الأستاذ والطالب. 

خاتمة: الإسكندرية.. الحلقة المنسية في طريق الفلسفة

لم تكن مدرسة الإسكندرية مجرد محطة تاريخية عابرة، بل كانت جسرًا معرفيًّا روحيًّا، عَبْرَهُ انتقلت الفلسفة من أثينا الوثنية إلى بغداد التوحيدية. ولم تكتفِ مدرسة الإسكندرية بتخزين النصوص، بل أعادت تأويلها، وصاغتها في قوالب تصلح للديانات السماوية، وفتحت الباب أمام فكرة أن الفلسفة لا تناقض الدين، والتي أسس عليها فلاسفة الإسلام جهودهم، فاتّصلت الجسور بين الفكر الإنساني ووحي السماء.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

فن التلاوة: مِن ماضٍ عريق إلى حاضر مليء بالأزمات

قراءة في رحلة فن التلاوة العريق من ماضٍ حافل بالقراء الكبار، إلى حاضر مليء بالأزمات

2

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

3

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

4

المتنبي مثقفًا: التوازن المستحيل بين الوعي والمصلحة

محاكمة لشعر المتنبي في ضوء المعايير الأخلاقية التي يُفترض أن ترسخها الثقافة.

5

للكتاب آباءٌ شتّى: عن سُلطة المُترجم وتشكُّلات النص

عن سُلطة المُترجم على النص وحدودها، وعلاقاتها مع الكاتب والناشر والقارئ

اقرأ/ي أيضًا

فن التلاوة بين ماضٍ عريق وحاضر مأزوم (ميغازين)

فن التلاوة: مِن ماضٍ عريق إلى حاضر مليء بالأزمات

قراءة في رحلة فن التلاوة العريق من ماضٍ حافل بالقراء الكبار، إلى حاضر مليء بالأزمات

هيثم أبو زيد

الألعاب القديمة
الألعاب القديمة

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

حسام هلالي

النقود

تاريخ موجز للنقود.. من أوعية الملح إلى سلاسل البلوكتشين

كان الناس يثقون في الطين الذي يرمز إلى الشعير. ثم في الملح، ثم في الذهب، ثم انتقل إلى النقود المعدنية المزخرفة، ثم الأوراق النقدية التي تطبعها الدولة

حسن زايد

الكسكسي المغربي

قبل أن يصبح الكسكس أيقونة.. كيف تفاوضت المائدة المغربية مع المجاعات؟

لعبت المجاعات والكوارث الطبيعية دورًا محوريًا في تشكيل الذوق الغذائي للمغاربة، بعيدًا عن الصورة الرومانسية المروّجة عن "الكسكس" و"الأتاي" كرموز ثقافية فقط

عبد المومن محو

جواز

الجغرافيا ليست كما تراها.. حين يرسم جواز السفر خريطة أخرى

سيُصاب كثير من المسافرين بخيبة أملٍ كبيرة، حين يتحوّل جواز السفر من وثيقة عبور إلى تهمة يُجبَر صاحبها على حملها

فريق التحرير