للحج مكانة في قلوب المسلمين، لا تعدلها أي عبادة أخرى، فعلى رغم المشاق التي يتعرض لها الحاج أثناء قيامه بشعائر الحج والتكاليف المادية الباهظة التي يجب عليه أن يدفعها، فإن الجميع يتشوقون للتجربة والحصول على اللقب المنشود "الحاج فلان" أو "الحاجة فلانة".
وعلى مدار التاريخ الإسلامي - ومن قبل ظهور الإسلام - كان للحج وللبيت الحرام مكانة وقدسية عند العرب، ولذلك كانت العناية بالبيت الحرام، والاستعداد لموسم الحج، من أولويات الدول الإسلامية على مر العصور.
منذ نشأة مَحمَل الحج - ذلك الموكب الرسمي الذي كان ينطلق من عواصم الدول الإسلامية حاملًا كسوة الكعبة والهدايا والصدقات - تحوَّل موسم الحج إلى ظاهرة شاملة تجمع بين الديني والدنيوي. فقد اهتمت الدول الإسلامية عبر التاريخ بالاستعداد لهذا الموسم، ليس فقط كواجب ديني، بل كأداة سياسية لتأكيد شرعيتها ونفوذها، كما استفادت اقتصاديًّا من تدفق الحجاج والتجارة المصاحبة لهم.
إلى جانب ذلك، ارتبط موسم الحج بمجموعة من الطقوس الشعبية التي عبَّرت عن فرحة الناس باستقبال الحجاج، مثل إنشاد المدائح النبوية، ورسم الزخارف على جدران البيوت، ومواكب المحمل المهيبة التي كانت تشقُّ الطرقات وسط احتفالات الجماهير. هذه التقاليد لم تكن مجرد مظاهر احتفالية، بل كانت تعكس عمق الارتباط بين الشعوب الإسلامية وبيت الله الحرام، وتُبرز كيف تحوَّل الحج إلى جزء حيوي من الثقافة والهوية الإسلامية عبر التاريخ.
إمارة الحاج ونشأتها
في صدر الإسلام كان أمير الحاج هو الشخص الذي يُناط به الإشراف على موسم الحج وإرشاد المسلمين لشعائره، وكان أول أمير للحاج ذكرته لنا المراجع التاريخية هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه في العام التاسع الهجري، بأمر من حضرة النبي صلى الله عليه وسلم نيابةً عنه، وتوجه بركب الحاج من المدينة المنورة إلى مكة المكرمة.
وأصبح هذا الأمر معمولًا به، فكان الخليفة هو الذي يتولى إمارة الحاج بنفسه، وفي حالة انشغاله كان ينوب عنه شخص آخر.
ولأهمية الحج حرص الخلفاء على تولي إمرة الحاج بنفسهم، حيث يورد لنا المقريزي في كتابه "الذهب المسبوك في ذكر من حج من الخلفاء والملوك" الحكّام الذين حرصوا على ذلك فكان منهم الخلفاء الراشدون عدا علي بن أبي طالب رضي الله عنه، لانشغاله بمحاربة الخارجين عليه في معارك الجمل، وصفين، والنهروان، وذكر أيضًا عددًا من خلفاء بني أمية مثل عبد الملك بن مروان، ومن بني العباس مثل أبي جعفر المنصور، وهارون الرشيد، والحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد.
ومثلما لم يحج علي بن أبي طالب خلال فترة خلافته بسبب انشغاله بحروبه، فعل ذلك أيضًا ملوك بني أيوب لانشغالهم بحروبهم ضد الصليبيين، ولكن حرصوا على الاهتمام بالحجاج والإنفاق عليهم وتقديم كافة الخدمات لهم.
وقبل الحديث عن دولة المماليك - والتي حدث في عصرها طفرة في احتفالات الحج، حيث أولى سلاطين المماليك عناية كبيرة للغاية بكل ما يخص الحج، لأسباب سياسية واقتصادية – يجب أن نشير إلى أن إمارة الحاج قد تأثرت بالحروب الأهلية التي وقعت في القرن الأول، ونورد على ذلك مثالين:
الأول، وقع في عام 39هـ أثناء خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عندما عيّن قثم بن العباس، أميرًا على موسم الحج، وفي نفس الوقت عيّن معاوية بن أبي سفيان - الذي رفض بيعة علي بن أبي طالب ولم يعترف به خليفة - يزيد بن شجرة الرهاوي أميرًا أيضًا على الحج، فحصل بين قثم ويزيد خلاف على هذه الإمارة، ولكن اصطلحا على اختيار شخص آخر يلي إمارة الحج وهو شيبة بن عثمان.
أما المثال الثاني والذي يمثل مدى انقسام المسلمين في هذه الفترة حتى في الشعائر الدينية، فوقعت أحداثه سنة 68هـ كما ذكرها المؤرخ ابن الأثير في كتابه "الكامل في التاريخ"، حيث وافى جبل عرفات، أربعة ألوية لأربعة أمراء لموسم الحج، لواء لمحمد بن علي بن أبي طالب المشهور بابن الحنفية، ولواء لابن الزبير، ولواء لبني أمية، ولواء لنجدة الحروري وهو رأس فرقة الخوارج في ذلك العصر.
هذا المشهد الذي لم يعتَدْ عليه المسلمون كان تمثيلًا واضحًا للفتنة التي كانت تسيطر على واقعهم في ذلك الوقت، فكان عبد الملك بن مروان يحكم أجزاء في الشام، بينما عبد الله بن الزبير بن العوام كان يسيطر على الحجاز والعراق، والخوارج كانت ترى كفر عبد الملك وعبد الله وتحاربهما، بينما ابن الحنفية رفض مبايعة كلا الطرفين.
سلاطين المماليك وموسم الحج
أولى المماليك عناية كبيرة بالدين الإسلامي وشعائره وهي طريقة من الطرق التي اتبعها سلاطين المماليك للتقرب من الشعب المصري الذي كان يرى المماليك مجرد عبيد لا تجب لهم طاعة، ولذلك ظل شعور المماليك بأن شرعيتهم ناقصة صفة مستمرة، ولكنهم وجدوا علاجًا لهذه المشكلة عن طريق "عاطفة الدين" وهو السلاح الذي مكّن المماليك من كسب ود وحب الشعب المصري وكان له سحر فاق سحر وخطط السياسة والسيف.
فعمل المماليك على ذلك الخط عبر عدة محاور، أولها إعادة إحياء الخلافة العباسية مرة أخرى في القاهرة بعد توقفها بفعل التتار ودخولهم إلى بغداد عام 656هـ، ونجح بيبرس في ذلك الأمر سنة 659هـ بعد أن استدعى أحد الأمراء العباسيين إلى القاهرة ومنحه لقب المستنصر بالله، ليفوض الأخير إدارة حكم البلاد الإسلامية للسلطان بيبرس.
أمّا المحور الثاني فكان العناية بالحرم المكي والنبوي والاهتمام بالحج والحجاج لتظهر احتفالات تفنن فيها سلاطين المماليك ليظهروا مدى إخلاصهم للدين ومشاعره، ليكسبوا ود الشعب، وليوطدوا حكمهم سياسيًا واقتصاديًا.
بعد سقوط الخلافة العباسية سنة 656هـ أصبحت العناية بكسوة الكعبة صراعًا سياسيًا بين الدول الإسلامية المختلفة، وظهر مبدأ في ذلك الوقت مفاده أنّ من يكسو الكعبة هو صاحب الشرعية الأقوى لدى المسلمين. وعليه ظهر صراع حاد بين الدول الإسلامية المختلفة حول المَحمل وعلى رأسهم دولة سلاطين المماليك.
يذكر المقريزي في الذهب المسبوك، أن أول من كسا الكعبة بعد سقوط الخلافة العباسية كان ملك اليمن، الملك المظفر شمس الدين يوسف ابن رسول، سنة 659هـ بعد إحياء المماليك للخلافة مرة أخرى في القاهرة.
هذا التصرف كان له رد فعل قوي للغاية من جانب السلطان بيبرس والذي أمر في عام 661 هـ بإعداد كسوة الكعبة والطواف بها في القاهرة في موكب احتفالي ضخم قبل التوجه إلى مكة المكرمة، ليكون أول من أمر بدوران المحمل بكسوة الكعبة، ويظل هذا الأمر سُنة متبعة في دولة المماليك حتى نهايتها.
المَحمَل المصري في عصر دولة المماليك
عند زيارتي للمتحف القومي للحضارة المصرية في القاهرة، شاهدت المحمل الموجود هناك وعبر تلك المشاهدة نستطيع أن نقول أن المحمل هو عبارة هيكل خشبي - هودج - يوضع فوق جمل ويستخدم لوضع أجزاء من كسوة الكعبة عليه.
قد يعتقد البعض ان هذا الجمل هو الذي يحمل كسوة الكعبة، ولكن هذا غير صحيح، فهذا الجمل مجرد رمز للمحمل المقدس، ولكن الكسوة يصل وزنها إلى أكثر من 500 كيلوجرام، وكانت تنقل على هيئة أجزاء يحمل كل جمل جزءًا منها.
ويصف الدكتور مصطفى وجيه، في كتابه احتفالات الحج المصرية، المحمل بأنه الجمل أو الجمال التي تحمل كسوة الكعبة، وبدأ المحمل بهدايا وكسوة الكعبة من السلطان المملوكي إلى أرض الحجاز، وتطور بعد ذلك لدرجة أن قافلة الحج في القرن العاشر الهجري وصل عدد الجمال بها إلى 100 ألف جمل، يقودها أمير الحاج. وإن كنا نرى أن هذا العدد مبالغ فيه.
كانت عملية اختيار أمير الحاج في دولة المماليك تتم ليلة الاحتفال بليلة المولد النبوي، حيث يجتمع السلطان بكبار الأمراء للاحتفال بهذه الليلة المباركة.
يذكر لنا الفقيه عبد القادر بن محمد الجزيري الأنصاري في كتابه الماتع "الدرر الفرائد المنظمة في أخبار الحاج وطريق مكة المعظمة" كيفية اختيار أمير الحاج، فبعد تناول السلطان لمشروبه، ينادي الساقي، ويأمره بأن يعطي ما تبقى من هذا المشروب لأمير معين، وسعيد الحظ الذي يكون من نصيبه باقي مشروب السلطان يكون أمير الحاج.
كان لأمير الحاج واجبات مختلفة، سياسية واجتماعية ومالية وقضائية وعسكرية، وضحتها لنا الدكتورة محاسن الوقّاد في كتابها "المحمل المصري وخدمات الحج والعمرة" وهي:
- حماية الحجاج.
- رعاية الضعيف والمريض، ومراعاة الظروف الجوية.
- تجهيز الطعام والشراب والعلاج للحجاج.
- سماع شكاوى الحجاج وحل المشاكل والتنازعات فيما بينهم .
- إقامة الشرع على الجناة.
- نقل وتسليم الإعانات النقدية والعينية المرسلة من مصر إلى أهل الحرمين الشريفين.
كان المحمل يضم شخصيات أخرى لها وظائف هامة مثل، قاضي المحمل، ومشرف الجمال والخيول، والمشرف عن المؤن والطعام، والطباخ، والخباز، والمؤذن، والطبيب، والنفطي وهو المسؤول عن الأسلحة والعناية بها، ونجار متخصص.
فكان المَحمل عبارة عن مجتمع متنقل، ونظرًا لضخامته فكانت تكلفته كبيرة للغاية، حيث يورد لنا المؤرخ المقريزي في كتابه "السلوك لمعرفة دول الملوك" بعض الاستعدادات المالية التي كان يأمر بها سلاطين المماليك.
فالسلطان الصالح عماد الدين بن محمد بن قلاوون، عزم على الخروج إلى الحج سنة 746هـ وأمر بشراء ستة آلاف جمل و ألفيْ رأس غنم بالإضافة إلى الاستعدادات الأخرى، بينما في عام 778هـ قرر السلطان الأشرف شعبان التوجه للحج مصطحبًا معه خزائن ماله الخاصة وكان عددها ستة خزائن كما أورد المقريزي.
ولكن على الرغم من تلك التكاليف الضخمة التي كانت تنفقها الدولة كان للمحمل واحتفالاته أهمية اقتصادية لسلاطين المماليك.

موسم الحج وأهميته اقتصاديًا لدولة المماليك
عند ذكره لأحداث حج سنة 738هـ يورد المقريزي في كتابه "السلوك" واقعة ملخصها وصول ابنة سلطان المغرب أبي الحسن المريني، لمصر للذهاب إلى الحج، وكان بصحبة ابنة المريني هدية ضخمة من أبيها إلى الناصر محمد بن قلاوون.
ضمت الهدية خمسمائة من الجياد العربية ومجموعة من السيوف وأقمشة وعددًا من المواشي، ومجموعة نادرة من الجواهر والأحجار الكريمة. وعند تعليقه على الواقعة يقول المقريزي بأن قيمة هذه الهدية قدرت بأكثر من مئة ألف دينار.
لم تكن هذه الهدية أمرًا استثنائيًا في ذلك العهد، بل أمرًا متبعًا وخصوصًا بعد أن قويت شوكة المماليك، وأصبحت أقوى دولة في بلاد المسلمين، يحرص الجميع على كسب ودها عبر الهدايا الفخمة في المناسبات وعلى رأسها موسم الحج.
كما شجع اهتمام المماليك بطريق البحر الأحمر تجار الأقطار المختلفة على التوجه إلى الحجاز وخاصةً في موسم الحج، لتنتعش الأسواق المحلية بفعل حركة التجارة، والتي كانت تستفيد منها خزائن الدولة بفعل الضرائب المفروضة.
هذا الانتعاش المالي لم يقتصر فقط على الحاكم وطبقة التجار الأثرياء فقط، ولكن شمل أيضًا غالبية المجتمع سواء في مدن مصر أو الحجاز.
كان الحجاج الوافدون يسببون حركة نشاط قوية في جميع الأسواق، فترتفع نسبة الإنفاق، وتظل تلك الأسواق بفعل الحركة النشطة، مفتوحة على مدار الساعة وخاصةً الأسواق الموسمية التي تنشأ في فترة الحج مثل سوق المحايرين والتي يوجد فيها جميع لوازم الحاج.
كما تنشط أيضا حركة بيع المواد الغذائية، بسبب إقبال الحجاج على شراء المواد الغذائية، كما يقبل أهل القاهرة على شراء كميات ضخمة من الطعام، لأن معظمهم كان يظل في الشوارع خارج البيوت انتظارًا لاحتفالات المحمل والتي كانت من أبرز احتفالات العام.
احتفالات مَحمَل الحج في عصر المماليك
لا شك في أن احتفال المحمل كان من أبرز احتفالات دولة المماليك، وكما أشرنا سابقًا فهذا الموسم كان محط اهتمام الجميع سواء الطبقة الحاكمة أو الشعب نفسه بطبقاته المختلفة، لأن هذه الاحتفالات كانت تسبب حالة من الانتعاش تسري في أوصال المجتمع المصري بأسره على حد وصف الدكتور قاسم عبده قاسم في كتابه "عصر سلاطين المماليك".
كانت احتفالات الحج تبدأ مبكرًا، وتحديدًا في شهر رجب وهي الاحتفالات التي كانت تسمى "دوران المَحمَل"، وتقام مرتين في العام، الأولى في شهر رجب وكانت تسمى الرجبية، والثانية في شهر شوال.
في شهر رجب كانت تبدأ بطواف المنادين في شوارع القاهرة معلنين موعد دوران المحمل والذي عادةً ما يبدأ بعد ثلاثة أيام من هذا الإعلان، وكان الهدف من هذا الإعلان تنبيه الناس لمن أراد التجهز لأداء فريضة الحج.
وفقًا للمصادر التاريخية، كان موكب دوران المحمل في رجب يقام يوم الإثنين أو الخميس، ليبدأ الناس الاستعداد لهذا الاحتفال الضخم بالمبيت في الشوارع والحوانيت وتتزين الشوارع والأسواق احتفالاً بدوران المحمل، والذي كان يضم كسوة الكعبة، والتي كانت تصنع من الحرير الخالص وتُطرز بالذهب والفضة، محمولة على الجمال، بالإضافة إلى باقي الكسوات الأخرى الخاصة بضريح حضرة النبي صلى الله عليه وآله، وكسوة مقام سيدنا إبراهيم، وكسوة الخليل ببيت المقدس، يحيط بالموكب مجموعة من الفرسان المماليك يستعرضون سلاحهم وملابسهم المزركشة الأنيقة التي تسرق عقول المارة، بالإضافة إلى فئة الرمّاحة وهم من صغار المماليك، يقومون بالألعاب البهلوانية، وكانت الرماحة من أبرز معالم الموكب، ونالوا شهرة واسعة نظرًا لبراعتهم في الحركات البهلوانية حتى حفظت الذاكرة الشعبية حفظ أغنية عنهم تقول :
بيع اللحاف والطراحة حتى أرى ذي الرماحة
بيع اللحاف ذي المحمل حتى أرى ذا المحمل
هذا الموكب الذي يُشعرنا وصف المؤرخين له بما فيه من حماس، كان يبدأ عادةً مسيرته في القاهرة من باب النصر يتقدمه الوزير والقضاة الأربعة وناظر كسوة الكعبة وآخرون من كبار الدولة، ويظل الموكب يسير في شوارع القاهرة حتى يصل إلى ميدان الرميلة المواجه للقلعة حيث يزداد صخب الاحتفال عند ظهور السلطان المملوكي للعامة، ليتفقد الكسوة ويتأكد من خلوها من أي عيوب، وبعد ذلك يتوجه الموكب في النهاية إلى الفسطاط.
كانت هذه الاحتفالات تتكرر في شهر شوال مرة أخرى ولكن الاختلاف الوحيد هو عدم توجه الموكب إلى الفسطاط بعد وصوله إلى القلعة، بل كان يستعد للخروج إلى الحجاز.
أما الاحتفالات على صعيد الأسر التي كانت تخرج إلى الحج أو يخرج أحد أفرادها لأداء شعائره، فكانت موجودة وإن اقتصرت على العائلات الثرية فقط، لأن الذهاب إلى الحج كان مرتفع التكاليف آنذاك.
يورد لنا ابن الحاج المالكي في كتابه "المدخل" بعض هذه الاحتفالات والتي كانت عبارة عن سير النساء - إذا كان لهن قريب سيتوجه للحج - في الأسواق يرفعن أصواتهن بالشعر والغناء والأناشيد الشعبية في ما يعرف بـ"التحنين".
والتحنين هو نمط غنائي خاص بموسم الحج احتفالاً بالخروج إلى أداء الفريضة، وزيارة قبر حضرة النبي محمد صلى الله عليه وآله، ومسجده.
وما زال عدد كبير من هذه الأغاني شائعًا في مدن الصعيد وقراه، من بينها:
يا للى على الحج ناوى.. وزيارة طه نبينا
بلغه منى سلامى.. وقول له مشتاق بيحبك
وحبك يانبينا الغالي.. حرم عليا منامي
وحتى في هذه الاحتفالات الدينية لا يختفي حس الدعابة المصري أبدًا، ففي أحداث سنة 677هـ يذكر لنا ابن إياس في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور" حادثًا تعرض له الحجاج بعد هجوم البدو على القافلة، ليقرر أميرها الهروب، وهو الأمير بوري، فحفظت لنا الذاكرة الشعبية شعرًا عن هروبه يقول:
لقد أخذوا الحجاج في عام سبعة.. وسبعين حقًا بعد نهب تمكنا
وصار أمير الركب بوري هاربًا.. ولولا اختفاه صار بوري مكفنًا
احتفالات الحج في عهد الدولة العثمانية
بعد العصر الذهبي الذي عاشته مصر خلال دولة المماليك، أصبحت ولاية تابعة للدولة العثمانية وذلك بعد هزيمة جيش المماليك على يد جيوش العثمانيين، وإعدام آخر سلاطين المماليك الشراكسة، طومان باي، على باب زويلة سنة 923هـ.
وبالرغم من ذلك، ظلت الكسوة والمحمل المصري، محل اهتمام سلاطين دولة آل عثمان، فعند دخول سليم الأول مصر، اهتم بكسوة الكعبة اهتمامًا بالغًا وحرص على أن تكون على أفخم هيئة.
بينما لم يحدث أي تغيير في المحمل نفسه، بل أصبح أكثر أهمية، وبفضل ذلك أصبح منصب أمير الحاج، ثالث أهم منصب بعد الوالي وحاكم القاهرة، ولكن طريقة تعيينه اختلفت عن عصر المماليك.
فحسب أحمد سليمان في كتابه "تأصيل ما ورد فى تاريخ الجبرتى من الدخيل" كان يتم تعيين أمير الحاج بأمر سلطاني من السلطان، يرسله مع شخصية هامة من شخصيات القصر السلطاني.
أما احتفالات المحمل وموكبه في العصر العثماني، فقد تغير توقيتها، فبدلًا من مرة في رجب ومرة في شوال، أصبحت المرتان في شوال.
وقد تميز العهد العثماني يظهور محامل أخرى بجانب المحمل المصري، مثل المحمل اليمني، الذي أنشأه والي اليمن في ذلك الوقت مصطفى باشا "المنشار" سنة 963 هـ واستمر هذا المَحمَل حتى سنة 1049 هـ.
كما كانت بلاد الشام ترسل أيضًا محملها إلى أراضي الحجاز مع حجاجها، وتحكي لنا المصادر عن واقعة حدثت بين المحمل المصري والمحمل الشامي، وذلك في عام 919هـ، حث تسابق المحملان، فوصل المحمل الشامي قبل المصري، فقرر المصريون الانتقام بعقر جمل المحمل الشامي، وكادت أن تكون فتنة بين الطرفين ولكن تمكن شريف مكة من عقد الصلح بينهما.
أما الاختلاف الثاني في عهد الدولة العثمانية فكان نقش اسم السلطان العثماني على كسوة الكعبة، لكنها ظلت تُنسج في مصر، وتوقفت بعد احتلال فرنسا للبلاد بقيادة نابليون سنة 1798م، لتصبح إسطنبول هي المسؤولة عن الكسوة، وبعد خروج الفرنسيين من مصر، عاد هذا الالتزام مرة أخرى إلى مصر لينشأ مكان مخصص لهذه الكسوة عُرف بـ"دار الكسوة".
الفصل الأخير من تاريخ المَحمَل
بدأت معالم هذه النهاية خلال الدولة السعودية الأولى، وتحديدًا في عام 1807م عندما تعرض المحمل المصري في هذا العام لمضايقات الإمام سعود الكبير بن عبد العزيز آل سعود، حيث رأى أن المحمل بدعة لا أصل لها في الإسلام، وعلى الحاج أن يراعي الابتعاد عن أي مظهر من مظاهر الشرك بالله.
تلك الحادثة كانت لها أسباب عقائدية، بينما حادث المحمل سنة 1926م والذي مثّل النهاية الفعلية للمحمل المصري كان له أبعاد سياسية.
ففي ذلك الوقت كانت العلاقات بين الملك عبد العزيز آل سعود، ملك الحجاز ونجد آنذاك، والملك فؤاد الأول، ملك مصر، متوترة للغاية، لأن كليهما كان يرى نفسه أحق بحكم الحجاز، بعد سقوط حكم الهاشميين سنة 1925م، وجاء أول موسم حج بعد أن أصبح الحجاز تحت سيطرة آل سعود، ليكشف عن هذا التوتر بشكل واضح.
فبعد وصول المحمل المصري إلى الحجاز والذي كان يضم مجموعة موسيقية تابعة للجيش المصري، تعرضت لهجوم عنيف من جماعة تتبع فكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، كانت تدعى "الإخوان" - ليست جماعة الإخوان المسلمين المعروفة - وكانت ترى أن الآلات الموسيقية حرّمها الدين، فبدأوا في رجم المحمل المصري، والذي بدأ في الرد عليهم لتقع إصابات وقتلى بين الطرفين.
قرر الملك فؤاد تجميد العلاقات مع الملك عبد العزيز، وقطع الميرة وهي الصدقات والأموال التي كانت ترسلها مصر سنويًا إلى الحجاز مع وقف إرسال المحمل لمدة 10 سنوات حتى عام 1936م حيث تم توقيع اتفاقية بين المملكة العربية السعودية ومصر، ساعدت في إرسال كسوة الكعبة في عام 1937م.
كان إرسال مصر للكسوة بعد أزمة محمل سنة 1926، أمرًا شرفيًا، ولم يكن يتم بشكل سنوي، لأن الملك عبد العزيز قرر في العام التالي للأزمة، إنشاء دار خاصة لصناعة كسوة الكعبة في مكة المكرمة.
وفي عام 1961م توقف المحمل المصري بشكل نهائي، مع بدء توتر العلاقات بين مصر والمملكة بسبب الثورة اليمنية ثم حرب اليمن التي بدأت في عام 1962.
يا هنا اللي انوعد يا هناه.. جداريات ناطقة
على الرغم من توقف المَحمَل منذ أكثر من 70 سنة، إلا أن المصريين لم يتخلوا عن عادة ظلت موجودة حتى الآن، هي الاحتفال بالحج والحجاج، عبر توثيق هذه الرحلة بصريًا على جدران البيوت والمنازل، من خلال رسومات على جدران البيت الذي ابتسم له الحظ وتوجه أحد أفراده لأداء مناسك الحج، وتمثلت رسم الكعبة، والقبة الخضراء الخاصة بمسجد حضرة النبي محمد صلى الله عليه وآله، بالإضافة إلى كتابة آية "ولِلَّهِ عَلى النّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إلَيْهِ سَبِيلًا" [آل عمران: 97] متبوعة بجملة "حج مبرور وذنب مغفور".
وتُكتب السنة التي سافر فيها الحاج لأداء الشعائر، هجريةً وميلاديةً، وفي بعض الأحيان تُرسم وسيلة السفر، سواء الطائرة أو السفينة، وقديمًا كان يُرسم الجمل.
أما سبب شيوع هذا الطقس، فإثبات أن صاحب البيت قد شرفه الله بزيارة بيته وإقامة شعائر الحج وزيارة المسجد النبوي، لينال لقب "الحاج فُلان" وهو اللقب الذي يمنح صاحبه مكانة اجتماعية كبيرة.
وقد حاولت خلال فترة كتابتي للمقال، أن أرصد أي بيت توجد به تلك الرسومات في دائرة المكان الذي أقيم به في القاهرة، ولكني لم أجد، وأذكر أن تلك الرسومات خلال طفولتي في التسعينيات كانت موجودة بشكل شبه دائم في الشوارع الجانبية لمناطق مختلفة في القاهرة.
ولكني تحدثت مع بعض الأصدقاء المقيمين في محافظات الصعيد، مثل قنا، وأسوان، والمنيا، وأكد جميعهم وجود هذه الرسومات حتى الآن، ومنهم من أمدّني بصور لمنازل قريبة ما زالت تُرى عليها رسوم الكعبة والقبة الخضراء حتى الآن.
بينما من لم يستطع إرسال صور هذه الجداريات، لأسباب مختلفة، أمدني بمعلومات عن انحسار هذه الظاهرة، لأسباب أبرزها ارتفاع تكلفة الحج بشكل جنوني، حيث وصلت تكلفة الحج الذي تشرف عليه الدولة هذا العام إلى 400 ألف جنيه مصري "8000 دولار تقريبًا".
ولنفس السبب، أخبرني صديق آخر مقيم في إحدى محافظات الصعيد، بأن البعض أصبح يسافر للحج بدون أن يخبر أحدًا سوى عائلته خوفًا من الحسد، بينما انصرف آخرون عن هذه الرسومات واستبدلوا بها إقامة ليلة يُطعم فيها الأهل والفقراء والمساكين لوجه الله.