"لقد تقاسموا العالم
لا شيء بعدُ يفاجئني
إذا تركتَ لي الشيشان، سأترك لك أرمينيا
إذا تركت لي أفغانستان، سأترك لك باكستان
.....................................
إذا تركت لي اليورانيوم، سأترك لك الألمنيوم
إذا منحتني الكثير من القمح، سأحارب بجانبك
إذا تركت لي مناجمك، سأساعدك في ملاحقة طالبان
إذا تركتني أستخرج الذهب، سأساعدك على طرد الجنرال
لقد تقاسموا العالم
لا شيء بعد يفاجئني
لقد تقاسموا أفريقيا دون استشارتنا"
هكذا كان يصدح الفنان الكوديفواري تيكن جاه فوكولي (يوليو 1968- ) في أغنيته (Plus rien ne m’étonne) التي تحوّلت إلى نشيد احتجاجي ضد الظلم التاريخي والسلب الممنهج لمقدّرات إفريقيا الأم. بكلمات بسيطة، لكنها مشحونة بالخذلان، يستعرض نجم موسيقى الريغي فوكولي كيف اجتمع الأوروبيون حول مائدة الخرائط ليقتسموا أراضي لم يملكوها، وينهبوا ثروات شعوب لم يفهموها، معتبرين ذلك حقًّا طبيعيًّا وشرعيًّا. فالنهب الممنهج للثروات أصبح يُسمّى: حماية المصالح الدولية. تفضح كلمات الأغنية كيف قسمت القوى الكبرى العالم وفقًا لمصالحها، متجاهلةً حقوق الشعوب الأصلية وأحقية الدول النامية في مدخراتها. كما تجسّد روح مؤتمر برلين 1884، حين جلس ممثلو القوى الاستعمارية ليرسموا حدود الدول الإفريقية بالقلم والمسطرة، وكأن الأرض بلا شعب، وكأن الإنسان الإفريقي لا وجود له.
ما بدأ بخطوط على الخريطة، تواصل بعد الاستقلال في شكل آخر: عبر شركات متعددة الجنسيات أو عابرة للقارات، وعن طريق جيوش تحمي المصالح، وحكومات تُشترى بالديون والمساعدات، وثروات تُنقل من المناجم الإفريقية إلى محلات المجوهرات في القارة العجوز وأمريكا وآسيا.
الموارد المنهوبة: كنوز إفريقيا تحت السيطرة الأجنبية
رغم ما تزخر به من تنوع طبيعي وثقافي ساحر، تظل القارة السمراء محاصَرة بخط الفقر، وكأنها تدفع ثمن ثرواتها بدلًا من أن تجني ثمارها. ليست إفريقيا فقيرة، بل منهوبة، والاستعمار لم ينتهِ، بل غيّر شكله. تحوّل من جيوش محتلة إلى شركات عملاقة، ومن أعلامٍ مرفوعة إلى عقودٍ مجحفة، ومن بنادق إلى بنود.
تمتلك إفريقيا احتياطيًّا هائلًا من الثروات العالمية، فهي تضم نحو 90٪ من الكوبالت المستخدم في صناعة البطاريات الحديثة، ونصف الذهب العالمي تقريبًا، إلى جانب ما يقارب 33٪ من اليورانيوم، و12٪ من احتياطيات النفط والغاز الطبيعي، كما تحتضن 65٪ من الأراضي الصالحة للزراعة في العالم. هذه الأرقام تجعل من القارة كنزًا مفتوحًا، تتسابق عليه القوى الكبرى تحت ستار "الاستثمار" و"التنمية"، بينما الواقع يكشف عن استنزاف مستمر يُعيد إنتاج تاريخ طويل من الاستغلال.
في الكونغو الديمقراطية، على سبيل المثال، يُتوقع أن يصل إنتاج الكوبالت إلى 225 ألف طن بحلول عام 2025، ومع ذلك، لا تزال نسبة كبيرة منه تُستخرج عبر التعدين الحِرَفي في ظروف محفوفة بالمخاطر، تشمل عمالة الأطفال وممارسات غير إنسانية.
جنوب إفريقيا تنتج وحدها قرابة 74٪ من بلاتين العالم، بينما تجاوزت غانا منافسيها لتصبح من أكبر منتجي الذهب في القارة. أما ناميبيا، فاحتلت المركز الثاني عالميًا في إنتاج اليورانيوم (وفق إحصائيات 2020)، في حين جاءت زيمبابوي في المرتبة السادسة عالميًّا لإنتاج الليثيوم، المعدن الذي تتسابق عليه كبرى الشركات في سباق تكنولوجيا الطاقة النظيفة.
في النهاية، ما يجري في إفريقيا ليس مجرد تبادل اقتصادي، بل استعمار بثوب جديد، تُسلب فيه ثروات الشعوب بينما يُلقى لهم الفتات، ويُرسم المستقبل بأقلام لا تمسكها أيديهم.
مؤتمر برلين 1884
في خريف عام 1884، اجتمعت القوى الأوروبية الكبرى في قصرٍ فخم في برلين، بدعوة من المستشار الألماني الحديدي أوتو فون بسمارك. لم يكن الاجتماع لتبادل أطراف الحديث، أو توقيع اتفاقيات سلام، بل لعقد أحد أخطر المؤتمرات في التاريخ: مؤتمر برلين، أو كما يعرف بـ"مؤتمر الكونغو".
تحت ستار التنظيم والتجارة، اجتمعت أربع عشرة دولة أوروبية لتقنين نهب قارة بأكملها، أفريقيا.
في تلك اللحظة، كانت أوروبا تمرّ بحُمّى استعمارية، والخرائط لا تخلو من بقع تمثل نفوذ الإمبراطوريات التي راحت تتسابق لاقتطاع أجزاء من القارة السمراء.
أما المحرك الخفي لهذا المشهد فكان الملك ليوبولد الثاني، ملك بلجيكا، الذي لم يكن يرى في الكونغو سوى منجم مفتوح من الثروات. أرسل البعثات، موّل المستكشفين، ووقّع المعاهدات مع الزعماء الأفارقة مقابل هدايا برّاقة، لا تساوي شيئًا أمام الأرض التي تنازلوا عنها، دون إدراك للعواقب.
وعلى الضفة الأخرى، كان بسمارك يرى أن وقت الهيمنة الألمانية قد حان، لكنه لم يكن يسعى للغزو بالسلاح، بل بالدبلوماسية. أراد أن تقتسم القوى الكبرى القارة بعقلانية - كما يُقسم الإرث – دون دماء.
عُقد المؤتمر بين 15 تشرين ثان/نوفمبر 1884 و26 شباط/فبراير 1885، وفي قاعات برلين المزينة بشعارات "الوحدة الأوروبية"، تم تقسيم إفريقيا ببرود مرعب.
أُقِرَّت حرية التجارة والملاحة في أحواض النيجر والكونغو، وحياد إقليم الكونغو، على أن يُفتح أمام الجميع. وبينما مُنحت السيادة فيه لهيئة يرأسها ليوبولد، نال الأخير "دولة الكونغو الحرة" – التي لم تكن حرّة قط.
ولم يُسمح لأي دولة بفرض حمايتها على منطقة إلا بإعلام الآخرين ووجود احتلال فعلي، وكأن الأرض مشاع لا يسكنها بشر. أما الزعماء الأفارقة، فلم يُدعوا للمؤتمر، ولم يُسمع صوتهم. لقد تقرر مصير قارة بأكملها بين جدران لا تعرف العدالة.
بدأ بعدها السباق المحموم، وأُرسِلَت الشركات والمبشرون والتجار، يطرقون أبواب القرى، يطلبون توقيعًا أو بصمة على أوراق لا يفهمها أصحابها. وبحلول مطلع القرن العشرين، كانت معظم أفريقيا قد قُسمت، وسُجّلت حدودها بالقلم، كما تُرسم السدود على مجرى نهر.
أما "الكونغو الحرة"، فقد تحولت سريعًا إلى جحيم. كانت ملكية شخصية للملك ليوبولد، حيث سُخّر الناس لاستغلال المطاط والعاج، وتعرضوا لعنفٍ لا توصف به حتى الوحوش. وفي 1908، وبعد فضائح مدوية، تحوّلت "الدولة الحرة" إلى مستعمرة بلجيكية.
بينما رأى بعض المفكرين الأوروبيين – مثل إميل باننج – في المؤتمر نوعًا من التنظيم السلمي، كانت الحقيقة أنه كان ببساطة: تقنينًا دوليًّا لسرقة قارة وتجاهلًا تامًّا لإنسانيتها. فحتى إن لم تُسفك الدماء في برلين، فإن الأرض التي قُسمت هناك رُويت بدماء الأبرياء لاحقًا.
لقد كان مؤتمر برلين صفحة مظلمة كُتبت بأقلام من ذهب، لكنها خُطّت على أجساد قارة كاملة، لم تُمنح حتى فرصة الدفاع عن نفسها.
الشركات الكبرى... سادة الاستعمار الجديد
في قديم الزمان، كانت السفن تحمل الجنود والرايات، وتشقّ طريقها نحو المجهول. كانت الأرض تُقسّم بالسيف، وتُحكم بالنار والحديد.
أما اليوم، فلم تعد السفن تمخر عباب البحار، بل حلّت محلها طائرات خاصة وتقارير مالية. لم تَعُد الأعلام تُرفع فوق الأرض، بل رُفعت شعارات الشركات فوق قلوب الشعوب ومقدّراتها.
لم يَعُد المستعمِر يرتدي زيًّا عسكريًّا، بل بدلة رمادية أنيقة، يحمل في يده حقيبة جلدية، وفي جيبه صكوك التحكم بمصير أممٍ بأكملها. إنه مدير شركة عملاقة، أو مستشار مالي، أو مندوب استثمار.
ها هي شركة Glencore مثلًا، لا تُلقي القنابل، ولا تُطلق الرصاص، لكنها تستخرج الكوبالت من مناجم الكونغو وكأنها تسحب الدم من جسد الأرض. هناك، بين غبار المناجم وصراخ الأطفال، يعمل صبية بأيدٍ صغيرة وظهور منحنية، لا يعرفون من العالم سوى النفق الضيق وصوت الرفش.
وفي سهول أوغندا، تمرّ شركةTotalEnergies كعاصفة صيف لا تُبقي أثرًا من خضرة ولا حياة. مشروع لأنابيب النفط، طويل كالأفعى، يُقتلع له البشر من بيوتهم كما تُقتلع الأشجار من جذورها. لا وثائق تُشرح، ولا أسئلة يُسمح بطرحها. فقط أمرٌ يُنفذ، وسكان تُركوا في العراء، يتأملون أرضًا لم تَعُد لهم.
أما المياه – تلك التي هي سر الحياة – فقد غدت سلعة بامتياز. في قرى تعاني الجفاف، حيث الأطفال يسيرون أميالًا بحثًا عن جرعة ماء، هناك من يحمل شعارNestlé ويغرف من الآبار العميقة، ليملأ الزجاجات ويشحنها إلى المتاجر الفاخرة حول العالم. يُباع الماء بسعر الذهب، بينما يُترك أصله لمن لا يملكون ثمنه.
هذه الشركات لا تأتي وحدها، بل تُساق كجيش ناعم، خلفه البنوك الدولية، وشروط الخصخصة، وتوجيهات "الإصلاح الاقتصادي".
يُقال للحكومات: "افتحوا الأسواق، خففوا الدعم، بيعوا كل شيء"، فلا يبقى للمزارع سوى الأرض الجافة، ولا للطبيب سوى مستشفى بلا معدات.
ووسط هذه العاصفة الناعمة، تُزيّن الشركات وجهها بأقنعة براقة. تتحدث عن "الاستدامة"، و"التنمية"، و"المسؤولية الاجتماعية"، وتتبرع ببعض الفتات: تزرع شجرة هنا، تبني صفًّا دراسيًا هناك، بينما في الخلف، يُقتلع الجذر بأكمله.
نحن لا نرى اليوم مستعمِرًا يحمل بندقية، بل نراه على صفحات الجرائد، في مؤتمرات المناخ، وعلى الشاشات وهو يتحدث عن مستقبلٍ أكثر عدالة.
لكنه يوقّع العقود ذاتها التي تُجرد الأوطان من كنوزها، وتحوّل الثروات إلى أرقام في حسابات بعيدة، لا يعرفها من حُرموا من الكهرباء، أو فقدوا أرواحهم تحت أنقاض منجم، أو عاشوا بلا ماء ولا أمل.
لقد تغيّر اللباس، وتبدلت اللهجة، لكن المأساة لم تتغير.
الأرض ما زالت تُنهب، والناس يُستعبدون، والمستعمر ما زال حيًا، فقط تعلّم أن يبتسم وهو يفعلها.
خاتمة: ما بين الأمس واليوم... لم يتغير الكثير
في نهاية هذا المشهد الطويل، من مؤتمر برلين إلى الشركات العابرة للقارات، تبدو أفريقيا وكأنها تسير في دائرة مغلقة. تغيّرت الأسماء، تبدّلت الأدوات، وتقدّمت التكنولوجيا، لكن جوهر العلاقة بين القارة وبقية العالم بقي كما هو: علاقة غير متكافئة، يتقدّم فيها طرف، بينما يُطلب من الآخر أن يصمت أو يتأقلم.
المؤلم أن الواقع لا يروي فقط قصة ماضٍ استعماري، بل يُعيد إنتاجه بأشكال جديدة، أكثر هدوءًا وأقل ضجيجًا. لماذا قارة غنية بكل هذا الكم من الموارد، تعاني من الفقر والعوز؟ لماذا أطفالها يمشون أميالًا من أجل الماء، بينما تُعبّأ ينابيعه في زجاجات أنيقة تُباع في الخارج؟ لماذا يزرع الأفارقة أرضهم ويجني الثمارغيرهم؟
ربما لا توجد إجابة واحدة، وربما لا يحمل هذا المقال حلًّا، لكنه يحمل محاولة للفهم. والفهم هو الخطوة الأولى لأي تغيير.لعل ما تحتاجه أفريقيا اليوم، ليس فقط مساعدات أو استثمارات، بل احترام حقيقي لحقها في أن تقرر مصيرها، أن تستفيد من خيراتها، وأن لا تكون دائمًا الطرف الأضعف في معادلة وُضعت دون مشورتها. فالقارة التي لم تُستَشر حين قُسّمت، تستحق على الأقل أن تُسمع حين تُطالب بحقوقها.
ما زالت أفريقيا تنزف. تُنهب خيراتها في العلن، ويُهجّر أبناؤها في الخفاء. من لم يُستَغلّ في مناجمها، صار رقمًا في قوارب الموت، هاربًا من مجاعة أو حربٍ لم يشعلها. تُقسم أوطانهم مرة أخرى، لا على خرائط برلين، بل على طاولات اللجوء والحدود والأسلاك الشائكة.
يتشتت الأفارقة اليوم كما تشتتت أوطانهم من قبل. بعضهم يغرق في البحر، وبعضهم يُرفض على اليابسة. أما من بقي، فيعيش على هامش أرضٍ غنية، وفقرٍ لا يليق بثقل القارة ولا بتاريخها. ومع كل هذا، يبقى الصوت الأفريقي حيًّا، يردد:
" لقد تقاسموا العالم ... لكن لا شيء بعد يفاجئني."