فوجئ جمهور فن التلاوة في مصر بالبيان الذي أصدرته نقابة القراء منتصف الشهر الجاري، تطالب فيه الشيوخ المحترفين من أعضائها ومن غير أعضائها بالالتزام بأحكام التجويد، وأداء التلاوة "بما يرضي الله". البيان الذي صدر ممهورًا باسم نقيب القراء الشيخ محمد حشاد، الذي يشغل كذلك منصب "شيخ عموم المقارئ المصرية" برّر مطالبته تلك بتكرار انتهاك حرمة كتاب الله، وإهانة القرآن الكريم، وتوعدت النقابة باتخاذ الإجراءات القانونية الصارمة ضد من وصفتهم بالمعتدين على القرآن، يمثل هذا البيان حلقة مهمة وصادمة من حلقات التدهور والتراجع الذي أصاب فن التلاوة خلال الأربعين عامًا الماضية، ويمكن لمن يريد أن يستوعب معنى بيان نقابة القراء أن يرسل خياله، ويتصور بيانًا يصدر عن نقابة الأطباء، تطالب فيه أعضاءها بالالتزام بأساسيات الطب، أو بيانًا يصدر عن نقابة المهندسين تهيب فيه بمنتسبيها أن يراعوا القواعد الأولية للتخصصات الهندسية.. لكن الأزمة في فن التلاوة وصلت إلى درَكات عميقة، تسمح لنقابة القراء بإصدار مثل هذا البيان الذي يؤثر -لا ريب- على سُمعة القراء المصريين في مختلف أرجاء العالم الإسلامي، كما أنه يقضي بالكلية على محاولات مستمرة للتقليل من عمق الأزمة التي يمر بها هذا الفن العريق، أو حتى نفي وجود الأزمة أصلًا، بل والزعم بأن القراء المعاصرين يملكون قدرات صوتية وأدائية تساويهم بأعلام القراء الكبار، وأن المسألة لا تعدو أن تكون اختلاف أذواق وأمزجة.
يحتاج من يرغب في رصد مسار التدهور الذي أصاب فن تلاوة القرآن في مصر إلى نقطة بدء ينطلق منها، ليسير مع تاريخ هذا الفن، ولن يجد الباحث أفضل من لحظة انطلاق أثير الإذاعة المصرية الحكومية تاريخًا يصلح للسير معه في رحلة تتبين معالمها بتسجيلات لا بشائعات، وبحقائق مدركة لا بروايات متوهمة، في 31 أيار/مايو عام 1934 بدأ إرسال الإذاعة بصوت الشيخ محمد رفعت، ثم توالت بعده أصوات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وصالح عبد الحي، فكان يوم الافتتاح برهانًا ساطعًا على أن القائمين على أمر الإذاعة لا يرضون إلا بالذرى العالية. منذ هذا التاريخ، وعلى مدار فترة دامت 20 عامًا، لم تكُفّ الإذاعة عن تقديم تلك البراهين الكبيرة التي تؤكد دورها في الفرز والانتقاء وفق قواعد شديدة الصرامة لا تعرف محاباة ولا محسوبية.. بعد رفعت، استمعت الجماهير إلى الشيوخ عبد الفتاح الشعشاعي، علي محمود، أبو العينين شعيشع، محمد الصيفي، علي حزين، طه الفشني، أحمد سليمان السعدني، عبد الرحمن الدروي، محمد فريد السنديوني، عبد العظيم زاهر، منصور الشامي الدمنهوري، كامل يوسف البهتيمي، ومحمود خليل الحصري، ومحمود عبد الحكم، ومصطفى إسماعيل، ومحمود علي البنا، ومحمد حسن النادي وعبد الباسط عبد الصمد.. ثم جاء عام 1954، وانضم الشيخ محمد صديق المنشاوي إلى الكوكبة الإذاعية، فكان ختام القراء من هذا المستوى الاستثنائي. منذ ذلك التاريخ، لم يلتحق بالإذاعة قارئ بوزن هؤلاء الكبار، لا في عظمة الصوت ولا في حسن الأداء.
بعد المنشاوي، دخل فن التلاوة في حالة سكون، وانتصف عقد الستينات من دون ظهور موهبة استثنائية، وإن لم يتوقف ظهور القراء من أصحاب الأصوات الجيدة والأداء المحترم، من دون ارتقاء إلى المستوى العبقري الفريد الذي عرفته الجماهير من جيل الأعلام الذي بدأ برفعت وانتهى بالمنشاوي، لكن جمهور المستمعين لم يشعروا بنقص أو خلل لسببين: الأول، أن أكثر القراء الكبار كان مازال حيا يمارس التلاوة باقتدار وإبداع.. نعم مات رفعت وعلي محمود، لكن صوت الشيخ مصطفى إسماعيل كان يملأ المحافل والسرادقات، ومن حوله عبد الباسط والبنا والفشني وشعيشع وعبد العظيم زاهر. والثاني، أن الإذاعة خلال الفترة بين عامي 1953 و1963 خضعت بالكلية لإدارة مستشارها الموسيقي الأشهر محمد حسن الشجاعي، الذي اشتهر بصرامة استثنائية في تطبيق قواعد الفرز والانتقاء على كل صاحب أداء صوتي يرغب في الانتماء إلى الإذاعة المصرية، ولم يكن القراء والمنشدون بعيدين عن تلك القواعد الصارمة التي منعت تسرب أي صوت دون المستوى اللائق، الذي ورثه الشجاعي عن الحقبة الملكية.
بعد وفاة الشجاعي، افتقدت الإذاعة هذا النمط من الشخصيات الصارمة التي لا تقبل بأدنى تهاون في تطبيق المعايير، ومع الوقت بدأت تلك المعايير تتآكل ببُطء، ومن دون مفاجآت صارمة.. قبلت الإذاعة عددًا من الأصوات الجميلة، لكنها بالطبع لم تكن بمستوى أسماء السنوات العشرين الأولى. ثم بدأت في قبول أصوات تتسم بمسحة ريفية، ولا تملك أي جماليات إلا قوة الصوت والقدرة الفائقة على الزعيق. ويمكن لمن يريد أن يدرك الاختلاف أن يستمع إلى تلاوات مختارة عشوائيًّا لعدد من قراء ما قبل عام 1954، وأن يعيش مع تسجيلاتهم لمدة أسبوع مثلًا، ثم ينتقل منهم مباشرة ليستمع إلى الشيخ شعبان الصياد، ومن المؤكد أنه سيضع يده على حجم التهاون في قواعد الفرز بين العهدين. لكن الانحراف الحقيقي لم يكن في فرق القدرات الصوتية، وإنما كان في جنوح بعض القراء إلى تغييرات أدائية، كي يثبتوا لأنفسهم إبداعًا وأسلوبًا خاصًّا، ويهربوا من الوصم بالتقليد والمحاكاة. ويمكن أن نمثل لبدايات هذا النمط من الانحراف بمحاولات الشيخ راغب مصطفى غلوش استحداث قفلات لا تهدف إلا إلى مخالفة أسلوب الشيخ مصطفى إسماعيل الذي تأثر به غلوش كثيرًا.. كانت القفلة دائمًا من أهم عناصر الأداء الطربي الكلاسيكي، وبالرغم من اختلاف أساليب القفلات عند القراء القدامى، بين قفلة حراقة طربية، وأخرى هادئة وقورة، وثالثة بينية معلقة، ورابعة وخامسة وسادسة.. إلا أن المشترك الجامع بين كل هذه القفلات تمثل في "الإحكام" الشديد، والسيطرة على الصوت، والقدرة الكبيرة على "الفرملة"، ثم جاءت قفلات الشيخ غلوش سائلة مسكوبة طويلة، لا يحكمها منطق نغمي.
في حينها، لم تمثل هذه التغييرات إشكالًا كبيرًا، ولم ير الجمهور أن لها تأثيرًا جوهريًّا، لكنها في الحقيقة كانت إرهاصات أولى، فتحت الأبواب لمزيد من الابتعاد عن النمط الكلاسيكي الرفيع الذي أرساه أعلام هذا الفن من رفعت إلى المنشاوي. وبالفعل، ومع الوقت، انفتحت الأبواب أمام أنماط أدائية شعبوية، تُرضي الجماهير التي لم تتدرب على الإنصات الوقور. وتَراجع دور الإذاعة في الفرز والانتقاء، وتآكلت تمامًا كل المعايير الصارمة التي سادت في الثلاثينات والأربعينات والخمسينات. وخلال العقود الماضية تعرض فن التلاوة لما يمكن اعتباره ضربات قوية تركت آثارها العميقة على مسيرة هذا الفن. ويمكن التمثيل لهذه الضربات ببعض محطاتها المهمة:
مع دخول عقد السبعينيات، عصفت رياح التحوّل العاتية بفن التلاوة، فزلزلت بنيانه المكين، وكادت أن تقطع ما بينه وبين جذوره الضاربة في أعماق الزمن. وكان من أبرز معالم هذا التحوّل أن اعتمدت الإذاعة القارئ الشيخ محمد محمود الطبلاوي، الذي جاء بأسلوب محدث، يختلف عن النمط الموروث، وتبتعد نغماته عن السمت الذي عُرفت به التلاوة في عصورها الزاهرة. كان صوت الطبلاوي ديوانًا واحدًا، يؤدي جُمَلًا مكررة، يستعرض بها طول النفس، بعد أن اتخذت لحنًا يُرضي الأسماع التي لم تألف صنعة الأوائل ولا ترقّت في مدارج التذوق العارف. ومن حظ الرجل، أنّ ظهوره واكب شيوع آلة "الكاسيت"، التي غزت الدور والحارات، فغدا صوته قرين كل مكان، يتردّد صداه بين الجدران وفي الشوارع، حتى نافست تسجيلاته من حيث الذيوع والانتشار أشرطة الغناء الشعبي لصاعدٍ في سماء الفن آنذاك، هو أحمد عدوية.
وفي الثمانينيات، عرف ميدان التلاوة ظاهرة أخرى، متمثلة في الشيخ السيد سعيد، الذي انتشرت تلاوته لسورة يوسف انتشار النار في الهشيم، وأصبح أحد أبرز نجوم السرادقات والمآتم في الأرياف ومدن الدلتا. كان أداء السيد سعيد ممعنًا في شعبوية لا تهتم لنشاز مقامي أو انكسار إيقاعي، كما أنه كان يحرص على جذب انتباه مستمعي السرداقات بلغة جسدية وأسلوب في التعامل مع الميكروفون، لم يكن له وجود قبله، وبالطبع فقد وقفت طبيعة صوته، وأسلوب أدائه حائلًا بينه وبين الالتحاق بالإذاعة، إذ لم يكن بمقدور لجان الاستماع المتعاقبة أن تقبل صوتًا أو أداءً من هذا النوع الذي تَمرس بتلاوة المآتم، وسط جمهور يتقدم عنده معيار طول النفس، والحركات أمام الميكرفون على كل معيار علمي أو فني. لكن الشيخ سيد ركب موجة الكاسيت، واستفاد منها كما لم يستفد أحد في تاريخ الأداء الصوتي بمصر، لقد حقق الرجل انتشارًا استطاع به أن يستغني عن الإذاعة ولجانها والقائمين عليها، وربما وعن مستمعيها.
وفن التلاوة، مثل أي فن، يتأثر بظروف الإنتاج، وقوة أو ضعف التسويق. وظروفُ الإنتاج بالنسبة إلى الشيوخ القراء هي السرادقات وأباطرة الفِراشة وسماسرة الحفلات، ومصورو المآتم.. وبين هؤلاء وبعضهم علاقات وتحالفات، ولهم القدرة على تشغيل قارئ بصورة شبه يومية، لأنه يتقاسم معهم أجره مهما كبر، كما أن لهم القدرة على تعطيل غيره، بحيث لا يُدعى لإحياء ليلة، حتى لو كان أجمل صوتًا وأداء.
لقد كان لظهور كوكبة القراء العباقرة مطلع القرن العشرين أثر بالغ في العالم الإسلامي، ومن ينصت إلى تلك الأصوات يدرك كيف تسللت تلاوة القرآن على الطريقة المصرية إلى آفاق العالم الإسلامي، لا كفنّ صوتي فحسب، بل كجمال مهيب يسكن السمع والقلب. لقد امتد صداها في الأرجاء، حتى صار القارئ المصري سفيرًا غير معلن، يُستقبل في الديار بوقار الملوك، وتُفرش له الأرض مهابة ومحبة، في حضرة شعوب لم تسمع القرآن على هذا النحو من قبل، لقد أصبح فن التلاوة بأصوات القراء المصريين جزءًا مهمًّا من قوة مصر الناعمة، ونفوذها الثقافي في العالم الإسلامي.
وما لبثت الدولة المصرية أن تنبّهت لهذه القيمة الفريدة، فأحاطت قراءها المبرزين بعين الرعاية. فالملك فاروق اصطفى الشيخ مصطفى إسماعيل قارئًا لقصره، وجمال عبد الناصر اصطحب عبد الباسط والمنشاوي في رحلته إلى الهند وباكستان، وكأن الصوت القرآني شريك في السياسة والدبلوماسية. أما السادات، فلم يَرضَ أن يسافر إلى القدس إلا والشيخ مصطفى معه، مؤمنًا بأن لتلك التلاوة سحرًا يسبق الكلمات.
حتى الدول الأخرى، لم تعد تطلب قارئًا "من مصر" وحسب، بل تسميه بالاسم، وتُكرمه بأوسمة لا تُمنح إلا للنخب. وتجلّى الأثر الأعمق في ذائقة الشعوب، التي أُغرمت بالنبرة المصرية في التلاوة. ويكفي أن نشير إلى العراق، الذي ظلّ متمسكًا بطريقته المحلية زمنًا طويلًا، إلى أن حلّ به الشيخ الشعشاعي ومن معه في منتصف القرن الماضي، فاهتزّ السمع العراقي لهذا الفن الجديد، وتحوّل القراء هناك يحاكون الأداء المصري، حتى كادت طريقتهم الأولى أن تتوارى في الظل.
واليوم، يغلب الأداء السوقي على محافل العزاء والمنابر، حتى طال صداه بعض من نال الاعتماد الإذاعي، وتساهلت الإذاعة والتلفاز، فصار هذا النمط المبتذل يُذاع في صلوات الفجر والجمعة وسائر المناسبات الدينية، وقد خلت الساحة من عمالقة القراءة. لقد أصبح المشهد الإقرائي كاريكاتوريًّا هجينًا، يفتقر إلى الهيبة والاتزان. وتَقدّم جيل من القرّاء يعتاش على الترويج الرقمي، لا يُعرف أحدهم إلا بلقبٍ دعائيّ يلهج به وكلاء السرادقات ومصوّرو المآتم، ألقابٌ تثير التهكّم أكثر مما توحي بالإجلال. ثم اكتملت المأساة حين تطاول على مقام التعليم من لا يُجيد مخارج الحروف، ولا يحسن الوقف ولا يعرف للّحن قيدًا، ممن ابتُلي صوتهم بالنشاز وأداؤهم بالابتذال، فأنشأوا مراكز لتخريج قراءٍ على شاكلتهم، لا ليكونوا امتدادًا للتراث، بل ليكونوا شهودًا على توريث الأزمة. وكان نتاج كل هذا التراكم السلبي، أن انتهى الحديث عن الفن والجمال، ولم يعد الصوت والأداء ميدانا للنقد أو الرصد. لقد تراجع فن التلاوة وتعمقت أزمته حتى وصلت إلى "أحكام التجويد"، وحتى أصبحت نقابة القراء تطالب أعضاءها بـ"تلاوة سليمة".. فقط "تلاوة سليمة".