تجلس أمام طاولتك صباحًا، تختار أصنافًا شتى للإفطار: أجبانًا من أنواع مختلفة بأسعار باهظة، وخبزًا أسمر صحيًّا، وخضروات، ومشروبك الصباحي. وجبة إفطار قد يشترك فيها نصف سكان الأرض الآن؛ لكن ما لا يعلمه كثيرون أن تلك الوجبة كانت إفطار الفقراء والطبقات الدنيا من الشعوب قبل آلاف السنين. خبز، وبيتزا، وبيرة، وباييا، وغيرها. مأكولات شعبية بدأت من موائد الفقراء، وانتهت إلى موائدنا جميعًا باختلاف طبقاتنا الاجتماعية.
الخبز.. حكاية تمايز طبقي
ربما يتكلف متوسط رغيف خبزك 3 دولارات، لكن مهما ارتفع ثمنه، سيظل عنصرًا رئيسيًّا على مائدتك وفي وجباتك الثلاث. مرحبًا بك في عصور ما قبل التاريخ؛ أنت متأخر عن جدك الأول بآلاف السنين، حيث كان فلاحًا أو عاملًا، تتكون مائدته من الخبز وبعض الأطعمة البسيطة بجواره، أو ربما من الخبز فقط. جدك وآلاف مثله من الفقراء، ومن ليسوا من طبقة النبلاء أو الحكام أو الأثرياء، كانوا يستعيضون بالخبز عن اللحم والطعام المُغذّي، لحشوِ بطونهم.
عمر الخبز من عمر اكتشاف الزراعة. فترجح "موسوعة الخبز" أنه اكتُشف في أواسط آسيا قبل 30 ألف عام، ثم انتقل إلى بلاد الرافدين قبل 10 آلاف عام، ثم إلى مصر القديمة قبل أكثر من 3 آلاف عام، حيث أصبح مُخمّرًا.
ولا شك أن المصري القديم كان يُقدّس الخبز لأهميته في غذائه اليومي، وكان يسميه "العيش". لكن ربما كان التغني بالعدالة الاجتماعية في عهد الفراعنة ضربًا من الخيال؛ إذ كان الخبز في مصر الفرعونية ثلاثة أصناف: من دقيق القمح للأغنياء والملوك، وهو الخبز الأبيض، ومن دقيق الشعير للطبقة المتوسطة، أما الفقراء فكان لهم خبز أسمر من دقيق نوع من الحبوب البرية، يُدعى "خبز الخُشكار"، كان لونه أسود وخشنًا، ويُصنع من الدقيق غير المنخول، بحسب بحث بعنوان: "الخبز في مصر.. دراسة في التراث الثقافي والشعبي".
كما أن ذبح الطيور وتناولها كان حلمًا، وكانت تربية الماشية وذبحها أمرًا مكلفًا جدًا، وفي متناول الكهنة والملوك وبعض النخبة فقط. أما الطبقات البسيطة، فكانت اللحوم لا تصل إلى موائدهم إلا في المناسبات، كالحفلات والاحتفالات الجنائزية حيث كانت توزع المأكولات على شرف الميت، وكانت البيرة تُمنح مكافأة للعمال، إلى جانب بعض الخضروات والفاكهة. كما استعاضوا عن اللحوم بالأسماك التي كانت رخيصة ويوفرها النيل، وفقًا لكتاب "الحياة اليومية في مصر القديمة".
أما في اليونان القديمة، والتي لم تكن تعرف الخبز قبل عام 400 ق.م، فقد عرفت خبز الماسا، وهو خبز مصنوع من دقيق الذرة، وكان يُعد وجبة أساسية على موائد الفقراء، وكان يشترك في صنعه يدويًا العبيد والنساء. الأمر نفسه تكرر في الإمبراطورية الرومانية التي ميّزت بين أنواع الخبز؛ فالخبز الأبيض كان رمزًا للانتماء إلى طبقة الأغنياء والنبلاء، بينما كان الأسود للفقراء وعامة الشعب.
هذه السردية الثقافية لموائد الفقراء والأغنياء، رغم مرور آلاف السنين، تتماشى مع شعر أحمد فؤاد نجم: "همّا بياكلوا حمام وفراخ، وإحنا الفول دوّخنا وداخ". فقد وُجد الفول والبصل والخبز وبقايا الأسماك وقليل من عظام الأبقار في مقابر العمال، بينما كان الملوك يتناولون البط، والإوز، والأبقار، والنبيذ، وغيرها.
في "كتاب الطبيخ وإصلاح الأغذية والمأكولات وطيبات الأطعمة والمصنوعات" لابن سيّار الورّاق، المؤلَّف في القرن العاشر الميلادي، والذي يضم أكثر من 600 وصفة، ويُقال إنه كُتب بإيعاز من سيف الدولة الحمداني ليجمع وصفات البلاط، أفرد المؤلف للخبز عدة أبواب، منها الباب الثالث عشر، وذكر فيه أصنافًا كثيرة أبرزها ما كان يُصنع بالخمير والملح ودقيق "السَّميذ" -وهو نوع نقي من دقيق القمح- بينما كان عموم الناس يأكلون خبز الحنطة.
لم يكن الخبز شاهدًا فقط على التمايز الطبقي بين أبناء الشعب الواحد، بل أحيانًا على تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية وديموغرافية. بين يناير 2005 ويونيو 2008، أدّى ارتفاع أسعار أغذية مثل الذرة والقمح والأرز إلى ارتفاع متوسط أسعار المواد الغذائية عالميًّا بنسبة 83%، ما أدى إلى اندلاع أعمال شغب في مختلف أنحاء العالم بين عامي 2007 و2010، وكانت من بين الأسباب الرئيسية للربيع العربي. ووفقًا لـ"جين هاريجان" من كلية الدراسات الشرقية والإفريقية، فإن "ارتفاع أسعار الغذاء كان المسمار الأخير في نعش الأنظمة التي فشلت في الوفاء بالتزاماتها تجاه العقد الاجتماعي".
كان شعار الثورة المصرية عام 2011: "خبز، حرية، عدالة اجتماعية".
ما يعني أن رغيف خبز واحد قد يؤثر في دولة بأكملها، خاصة مع السياسات التقشفية التي يفرضها البنك الدولي من حين لآخر، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة.
ومن الحضارات في المنطقة العربية، وصولًا إلى العصور الوسطى في أوروبا -ووفقًا لموسوعة الخبز- كان الخبز أساسيًا على المائدة، يُستخدم كطبق ماصّ أسفل الطعام، وفي نهاية الوجبة، يُؤكل أو يُعطى للفقراء أو يُطعم للكلاب. بل إنّ هناك نظرية تقول إن البيتزا نشأت من هذا الخبز.
البيتزا وسطو الملكة مارغريتا على طعام الفقراء
ربما في أحد مساءاتك تملّ من الطعام المنزلي، فتمسك بهاتفك وأنت على مقعدك الوثير، أو برفقة أصدقائك، يطلب كل منكم نوعًا من البيتزا: واحدة بالبيبروني، وأخرى مارغريتا، وثالثة بمزيج من الجبن. تدفعون ما يقارب راتب أحد الأسلاف الإيطاليين في شهر من العمل بأحد المصانع، أو قد تنضم إلى الأميركيين الذين يأكلون 3 مليارات بيتزا سنويًا، بمعدل 46 شريحة لكل شخص.
ظهر الشكل الأولي للبيتزا -والتي تُعد طعامًا شعبيًّا إيطاليًّا بامتياز- كخبز مسطّح عليه إضافات. في العصور القديمة، كانت قطع الخبز المسطح المغطاة بالمأكولات المالحة تُقدَّم كوجبة بسيطة ولذيذة لمن لا يستطيعون شراء الأطباق.
تظهر هذه النسخة المبكرة من البيتزا في الملحمة اللاتينية "الإنيادة" لفرجيل، التي تروي سيرة البطل إينياس الطروادي. بعد وصولهم إلى لاتسيو، جلس إينياس وطاقمه تحت شجرة، ووضعوا "كعكات قمح رقيقة كأطباق لوجبتهم". ثم نثروا عليها الفطر والأعشاب التي وجدوها في الغابة، والتهموها بشراهة، حتى القشرة، ما دفع ابن إينياس للقول: "انظروا! لقد أكلنا حتى أطباقنا!".
لكن في أواخر القرن الثامن عشر، ظهرت البيتزا كما نعرفها اليوم، في نابولي، خلال عهد ملوك بوربون. فبفضل التجارة الخارجية وتدفّق الفلاحين من الريف، زاد عدد الفقراء، وأُطلِق عليهم "لازاروني" لتشابههم مع لعازر.
ومع احتياج العمال لطعام رخيص وسهل الأكل، لبّت البيتزا هذا الطلب. لم تكن تُباع في المتاجر، بل كان يبيعها باعة جائلون يحملون صناديق ضخمة تحت أذرعهم، يقطعونها لتناسب ميزانية العامل.
لم تكن الإصدارات الأولى من البيتزا معقدة، بل بسيطة، مغطاة بالثوم، وشحم الخنزير، والملح. وبعضها كان يحتوي على جبن "كاتشوكافالو" المصنوع من حليب الحصان، أو "السيسينيلي" (سمك أبيض)، أو الريحان. كما بدأوا يُضيفون إليها الطماطم.
لفترة طويلة، احتقر كُتاب الطعام البيتزا، وارتبطت بالفقر المدقع الذي كان يعاني منه اللازاروني. ففي عام 1831، وصف صمويل مورس -مخترع التلغراف- البيتزا بأنها "نوع من الكعك الأشد إثارة للغثيان.. تبدو تمامًا كقطعة خبز تفوح منها رائحة كريهة".
هذا الانقسام الطبقي والاقتصادي الذي صاحب نشأة البيتزا، كشف عن الفجوة بين الطبقات الاجتماعية، لكنه كشف أيضًا عن استحواذ الأغنياء على طعام الفقراء. فعندما زار الملك أومبرتو الأول والملكة مارغريتا نابولي عام 1889، وطلبا تذوّق طعام محلي، قدّم لهم صانع البيتزا "رافائيل إسبوزيتو" ثلاثة أنواع، فأعجبت الملكة بالأخيرة، المُغطاة بالطماطم، والموزاريلا، والريحان، وسُمّيت "بيتزا مارغريتا" تكريمًا لها.
ومنذ ذلك الحين، تحوّلت البيتزا من طعام الفقراء إلى طبق وطني.
ولا حاجة لذكر كيف غزت العالم، إذ أخذها المهاجرون الإيطاليون إلى أمريكا، ثم أعادها جنود الحلفاء إلى بلادهم بعد الحرب العالمية الثانية.
الباييا.. بواقي القصور
حين مر ابن بطوطة بعدد من مدن الأندلس، أُعجب بمستوى العيش والرفاهية هناك، وذكر أن الطعام كان متنوعًا وفاخرًا، ما يُظهر تأثر الأندلس بالمطبخ العربي والمغاربي، بل والأوروبي أيضًا.
وأشار إلى أن موائد الأندلسيين عامرة بالأطعمة الطيبة، وأنهم يُكثرون من استخدام "الطيب" (التوابل) في طعامهم. كما وصف بعض الموائد الملكية في غرناطة، والتي كانت تُزيَّن بالأطباق المختلفة والحلويات والمشروبات المعطّرة.
ولم تخلُ الأندلس من فروق طبقية بين موائد عامة الناس وموائد الخلفاء والأغنياء؛ إذ أشار ابن بطوطة إلى تلك التباينات من خلال وصفه لبعض المناسبات والولائم الملكية، حين تحدث عن احتفالية ضخمة لطائفة في طليطلة: "وليمة في القصر الفخم لملك الطائفة في طليطلة. بعد الختان بفترة وجيزة، بدأت الاحتفالات بتقديم كميات كبيرة من أجود أنواع الأطعمة التي لا نهاية لها".
في هذه الولائم، كانت المأكولات فاخرة ومتنوعة، يحضرها كبار القوم في البداية، ويُستخدم فيها خدم خاص، وتُقدّم بأساليب راقية، كما حضرت الزخارف مثل المراوح لطرد الذباب. أما مراسم ما بعد الأكل، فتشمل غسل الأيدي وتبخير الأجسام بماء الورد قبل دخول الجماعات الأقل منزلة.
ثم يصف ابن بطوطة ما كان يُقدَّم لعامة الناس: "ثم توالت الحشود حتى دخلت آخر مجموعة، وهي عامة الناس. قُدمت لهم أطعمة لم يروا أو يتذوقوا مثلها من قبل، والتهموها بسرعة، وابتلعوا الطعام بشراهة".
هذه الاحتفالية، بالنسبة لعامة الناس، لم تكن سوى احتفالية ببقايا طعام القصور.
ويظهر التباين الطبقي أيضًا في ما ورد في كتاب "كنز الفوائد في تنويع الموائد"، الذي أشار إلى فروق واضحة بين أنواع "السنبوسك": فالسنبوسك المقدَّم للملوك والأثرياء كان محشوًا باللحم الطري والتوابل الرفيعة مثل الزعفران والقرفة والقرنفل، والمكسّرات، والعسل، بينما السنبوسك المقدَّم للفقراء وعموم الناس كان يُحشى بالجبن والخضروات وتوابل أقل.
أما "كتاب الطبيخ في المغرب والأندلس"، فذكر في معظم وصفاته أطعمة كانت تُعدّ للملوك والوزراء، مثل الطواجن، والثريد، و"القاهرية"، وعديد من الحلويات. فيما كان يُطبخ الحمص في القصور للاستفادة من مائه، بينما يُلقى بالباقي خارجها ليتناوله الناس. كما وردت وصفات لحشوات متعددة، مثل أن يُحشى البقر بخروف، والخروف ببطة، والبطة بدجاجة، وهكذا.
ومن هذه الخلفية الثقافية والاجتماعية، وُلِد الطبق الإسباني الأشهر "باييا" (Paella)، أو "البقية" كما تُترجم حرفيًّا، وهو طبق يتكون من أرز قصير الحبة، مع خليط من اللحوم والخضروات أو الأسماك أو الدجاج أو الأرانب.
تختلف المصادر حول تاريخه الدقيق، لكن يتفق كثير منها على تأثره بالعرب، خاصة مع إدخالهم زراعة الأرز إلى الساحل الإسباني، لا سيما في فالنسيا، المشهورة بهذا الطبق، بحسب ما يؤكده موقع ScienceDirect.
هذا الطبق، الذي عُرف بأنه طعام الفلاحين في إسبانيا، تناولته مصادر مثل كتاب "The Oxford Companion to Food" لألان ديفيدسون، وبحث بعنوان "Paella in 16th Century Spain"، حيث أوضحا كيف طوّر الأندلسيون والمسلمون في فالنسيا طبق الأرز، ليُصبح ما نعرفه اليوم باسم "باييا".
كان الأرز يُطهى مع الخضروات واللحوم المتبقية من الولائم الدينية والعائلية، فيتحوّل إلى طبق مستقل في أوقات الاحتفال، ويُطهى في مقلاة مسطّحة، وهو الأسلوب التقليدي حتى اليوم.
لاحقًا، تطور الطبق من كونه خاصًا بفلاحي فالنسيا، إلى أن أصبح في القرن التاسع عشر طبقًا وطنيًّا واسع الانتشار محليًّا وعالميًّا.