لطالما ارتبط اللعب واللهو بوصفهما نقيضين للجد والحكمة - خاصةً في الثقافة العربية - سواء في الأدبيات الدينية أو اللغوية. إلا أن ترسخ الاعتقاد بأن اللعب هو أمر منافٍ للجدية بصورة تامة يدعونا للتعمق في التاريخ الإنساني. حيث يمكن عبر قراءات بسيطة تناول الألعاب بنظرة مغايرة.
فمن زاوية اقتصادية بحتة تجاوزت القيمة السوقية لصناعة الألعاب حاجز341 مليار دولار أمريكي عام 2024، وبمعدل نمو سنوي يفوق نسبة 4% مع الوضع في الاعتبار اقتصار هذه الاحصائية على الألعاب التقليدية وحدها (كالدمى، والألعاب اللوحية، والتعليمية، وألعاب الورق) دون النظر إلى سوق المقامرة المستقل بذاته. بينما ترتفع القيمة السوقية لهذه الصناعة الضخمة إلى أكثر من 528 مليار دولار إذا ما أضيف إليها قطاع ألعاب الفيديو وتطبيقاتها الرقمية عبر الإنترنت والهاتف النقال.
قد يمثل الاقتصاد مدخلًا جيدًا لفهم تطور مفهوم اللعب، وتحوله من سلوك بشري إبداعي يهدف للتسلية والتعلم إلى منتج قابل للتسليع في سوق عالمية كبرى. لكن وكما أدى التطور التقني نهايات القرن العشرين إلى نشوء الألعاب الرقمية كقطاع مستقل أكثر حداثة، فمن الواجب أن ندرك العلاقة الوثيقة بين التطور الحضاري والتقني، وبين صناعة الألعاب منذ ما قبل التأريخ. ليس في طرق إنتاجها وممارستها ونوعية المواد المستخدمة لصنعها فحسب، بل وأيضًا في نسق القيم والأفكار التي أسهمت شعبية الألعاب في نشرها وإدراكها بين مختلف الأجيال والشعوب.
بمعنى آخر، النظر للعب بوصفه مبحثًا في الفكر ونمطًا من الثقافة.
لعب يلعب فهو لاعب
في السياق العربي يفرد معجم "لسان العرب" لابن منظور أكثر من ألف كلمة لشرح معنى "اللعب" وحده. أما مرادفه المشتق من المصدر "لها" فيأخذ بدوره حيزًا أكبر. يقول المؤلف: "اللَّعِبُ واللَّعْبُ ضدُّ الجِدِّ" - وهي الفكرة التي يسعى هذا المقال "للتلاعب" بها – ويواصل: "ويقال لكل من عمل عملًا لا يجدي عليه نفعًا إنما أنت لاعب". في مفارقة لا أدري كيف كان لابن منظور أن يستوعبها لو عاش ليرى لاعبًا "كمواطنه" محمد صلاح وهو يلقب بـ"فخر العرب".
قام ابن منظور الأنصاري بجمع وتلخيص مادة "لسان العرب" اعتمادًا على مصادر لغوية أقدم (كالصحاح للجوهري، وتهذيب اللغة للأزهري، والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير)، وهو رغم انتمائه لشمال إفريقيا بجذور حجازية، فقد عاش لصيقًا بالبلاط لعمله كاتبًا في ديوان الإنشاء (مراسلات السلطان) بمصر – لا غيرها - بين القرنين الثالث والرابع عشر الميلادي. البيئة والحقبة الزمنية اللتين شهدتا تداخلات ثقافية عنيفة نتيجة لتغييرات سياسية واجتماعية أعنف أهمها الحملات الصليبية الأخيرة (أوروبيون) وسقوط الدولة الأيوبية (أكراد)، وحتى وقف الزحف المغولي ونشأة دولة المماليك البحرية (أتراك) وما رافق ذلك من تحول القاهرة إلى واحدة من أغنى عواصم القرون الوسطى. محتفظة بمكانتها كمدينة تحتفي بمختلف أنواع اللهو واللعب.
رغم ذلك لا يخفى على متصفح "لسان العرب" ربط اللعب ومشتقاته بإيحاءات سلبية أو منبوذة يلحقها بمضامين مباشرة كالشيطان، والحُمق، واضطراب الموج، وما سال من الفم (اللعاب). كذلك هو الحال مع "اللهو" الذي يبدأ "لسان العرب" شرحه له بالقول: "ما لَهَوْت به ولَعِبْتَ به وشغَلَك من هوى وطَربٍ ونحوهما"، ولا يجد ابن منظور حرجًا من تناول المعنى فقهيًا ببعض المواضع، ولكن مما يدهش في المعجم توسيع نطاق الدلالات ليرتبط اللهو بأنساق سلوك وممارسات أخرى كالموسيقى والجنس: "اللَّهْوُ الطِّبْل [...] والمَلاهِي آلاتُ اللَّهْو [...] وقد يكنى باللَّهْوِ عن الجماع [...] واللَّهْوةُ المرأَة المَلْهُوّ بها".
وفي المرتبة الوسيطة بين الموسيقى والجنس نجد فنًا آخر يشمله مفهوم اللعب عربيًا ألا وهو الرقص. كاصطلاح ما يزال مستخدمًا حتى الآن في سياق الحديث عن التراث الشعبي خاصة بالجزيرة العربية، وخير مثال على ذلك عنوان الورقة البحثية "أنثروبولوجيا الرقص واللعب الشعبي" لعالم الاجتماع السعودي عبد الرحمن الشقير. التي وضّح فيها وجود تمايز جندري لكلمتين تحملان الدلالة نفسها.
يقول الشقير: "والرقص مصطلح يتركز أكثر في حالة اللعب النسائي، وفي حالة الرجال فإنها تسمى "اللعب" وهو التمايل بالجسد باستخدام السيف أو الخنجر أو العصا، مع أن القواسم المشتركة بينهما واحدة من حيث أداء حركات تمايل على إيقاع موسيقي أو قرع طبول".
ويسهل العثور على دلالات مرتبطة بالفن لمفهوم اللعب في لغات أخرى كذلك، فنجد بالإنجليزية الفعل Play بمعنى يلعب أو يعزف الموسيقي. كما هو شائع لدى المصريين: "يلعب مزيكا"، وليس من الضرورة أن يكون استخدام الكلمة قد انتقل إلى الدارجة المصرية من لغات أوروبية، فاللهو والموسيقى ظلا دائمًا صنوين في الثقافة العربية كما ذُكر سابقًا. بينما نجد استخدام الكلمة الإنجليزية ذاتها كاسم مرادف لمجال فني آخر وهو "المسرحية". بصورة تحيل فورًا إلى اشتقاقات اللهو العربية في الفن ذاته. حيث تستخدم "الملهاة" كمرادف فصيح للكوميديا، وهي استخدامات لم يكن الربط فيها بين اللعب وفن التمثيل نابعًا من قبيل المصادفة.
وبالعودة إلى العربية لا يسعنا إلا الاعتراف بوجود نظرة اجتماعية وأخلاقية إشكالية لمفهوم اللعب في الوعي الجمعي، والم تكن تلك النظرة قاصرة دون الإشارة إلى اللعب بمفهومه الحديث الذي نستخدمه اليوم، فنجد في "لسان العرب" أيضًا: "اللُّعْبةُ نَوْبةُ اللَّعِبِ [...] واللُّعْبةُ جِرْم ما يُلْعَبُ به". في إشارة إلى ألعاب معروفة بعينها منذ ذلك العصر: "والشِّطْرَنْجُ لُعْبةٌ والنَّرْدُ لُعْبة وكلُّ مَلْعوب به فهو لُعْبة".
الإنسان اللاعب
لم يكن تناول اللعب كموضوع فكري وفلسفي أمرًا نادرًا على مر العصور. لكن أبرز من تناولوه كمبحث تأسيسي في مجال الدراسات الإنسانية المؤرخ الهولندي يوهان هويزنجا – وهو من مؤسسي التأريخ الثقافي – الذي وضع عام 1938 مصطلحًا جديدًا لدراسة اللعب على نسق مشابه للدراسات الحيوية والتطورية، فبدلًا من Homo Sapiens (الإنسان العاقل) يطلق هويزنجا على كتابه عنوان: Homo Ludens (الإنسان اللاعب): دراسة حول اللعب كعنصر في الثقافة
وعبر العنوان يحيل هويزنجا أيضًا إلى اتساع دلالات اللعب تاريخيًا، فكلمة Ludens هي اسم الفاعل المضارع المشتق من الاسم Ludus، الكلمة اللاتينية التي لا تجد لها مكافئًا مباشرًا في اللغات الرومانسية أو الجرمانية الحديثة، لأنها تشير في آن معًا إلى: اللعب، والرياضة، والممارسة، والتمثيل، والتعلم. من هنا ندرك أن الفنون المسرحية والمنافسات الرياضية - بما في ذلك الألعاب الأولمبية التي يقدر أرسطو نشأتها في اليونان منذ القرن الثامن قبل الميلاد – كانت كلها مشمولةً تحت مفهوم اللعب.
ولا يكتفي هويزنجا بدراسة اللعب في سياق الطفولة المبكرة كوسيلة للتعلم وتقليد سلوكيات البالغين فحسب، بل يتعداه كخصيصة مرتبطة بالبشر عمومًا والثدييات إجمالًا. متتبعًا ارتباطه الوثيق بالفكر والإبداع كما في الشعر والعلوم وحتى فنون الحرب، فيقول بشكل يدعو للتأمل: "اللعب أقدم من الثقافة، فالثقافة مهما كانت غير دقيقة في تعريفها، تفترض وجود مجتمع بشري، بينما الحيوانات لم تنتظر الإنسان ليعلّمها كيف تلعب". مبينًا أنه لا يقصد بأن "اللعب يتحول إلى ثقافة" بل أنهما متحدان كتوأم. مؤكدًا أن "اللعب هو الأولي" لا الثقافة.
ومن أهم فرضيات كتاب "الإنسان اللاعب" هو وجود ثلاثة أشكال للعب: ألعاب الحظ، والمنافسة، والمطارحات اللفظية والشعرية. محددًا كذلك خصائص معينة يتوجب توافرها في أي لعبة: كالحرية، والخروج من حيز الحياة "الواقعية أو الاعتيادية"، ووجود نظام يحكم سير اللعبة، والأهم عدم ارتباط الألعاب بأية مصلحة مادية تحقق للاعب ربحًا. الحجة التي يمكن استخدامها لإخراج رياضات المحترفين من حيز اللعب، وبالتأكيد ألعاب القمار والمراهنات. التي يرتبط الكثير منها بألعاب الحظ أو المنافسات البدنية كالمصارعة وسباقات الجري والفروسية. بوصفها لعبة موازية للرهان على الفائز في اللعبة الأصلية.
النرد: أصل الألعاب
قد تشكل فرضية هويزنجا الأخيرة حول خصائص اللعب تحديًا لدارسي التاريخ. حيث يصعب الفصل التام بين نشأة ألعاب الحظ وممارسة القمار. خاصة مع عثور علماء الآثار على الكثير من الدلائل التي تؤكد مزاولة الإنسان للرهانات على الأقل منذ العصر الحديدي، ومن أقدم هذه الآثار التي تمثل جوهر ألعاب الحظ والقمار – على حد سواء - وحتى اليوم هي زهرة النرد.
تتعدد الأشكال المكتشفة للنرد والمواد المستخدمة لصنعه عبر اختلاف العصور والحضارات، فمن استخدام عدة قطع مسطحة معًا ليرمز كل سطح منها لعدد بعينه، إلى استخدام الحجارة والعظام والأسنان وحتى الفواكه المجففة كمجسمات متعددة الأسطح والرموز. فيما يعتبر المكعب سداسي الأوجه الذي يرمز للأعداد من 1 إلى 6 أكثرها انتشارًا اليوم، وأيًا كان شكل زهرة النرد، فمن المعروف أن الهدف من استخدامها هو توليد قيم عشوائية.
وأهم ما تمثله زهرة النرد هو ارتباطها الوثيق بالأسطورة. سواءً في غرضها أو في قصة نشأتها، فإلى جانب ألعاب الحظ والقمار. ارتبطت زهرة النرد بالتنجيم وقراءة الطالع منذ ظهورها. في حين تحيل الميثولوجيا الإغريقية ابتكار النرد إلى شخصية بعينها، وهي بلاميدس، الذي ذُكر في العديد من الأساطير في سياق حرب طروادة بالقرن الخامس قبل الميلاد - بما في ذلك الإنياذة لفرجيل - وكان من أهم ما ارتبط ببلاميدس هو الادعاء بابتكاره للأبجدية، والأعداد، وكذلك النرد.
وعلى الرغم من ذلك، كشفت البحوث الأثرية لاحقًا عن ظهور النرد في العديد من الحضارات التي سبقت اليونان القديمة، وبشكل يصعب معه تحديد المكان الذي ظهر فيه لأول مرة. مما يعني أن ابتكاره قد تم بشكل منعزل في مواقع مختلفة حول العالم: قرية سكارا براي في اسكتلندا (العصر الحجري)، ومدينة لاركانا في باكستان (حضارة وادي السند بالعصر البرونزي)، وغيرها. في حين ظلت استخدامات النرد للعب تأخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا في حضارات شرق وجنوب المتوسط على وجه التحديد.
وهنا بالذات، تجدر الإشارة إلى الاكتشافات الأثرية أوائل القرن العشرين، والتي ربطت ألعاب النرد بالنخب الحاكمة في العالم القديم، فخلال العشرينات والثلاثينات عثر عالم الآثار البريطاني ليونارد وولي على خمس ألواح من لعبة لوحية في مقبرة أور بالعراق تعود للألفية الثالثة قبل الميلاد سرعان ما سُميت بـ"لعبة أور الملكية"، ويعتقد أنها كانت واسعة الشعبية في مناطق نائية عن العراق كقبرص وسريلانكا، ومع اكتشاف خبير المصريات الإنجليزي هوارد كارتر لمقبرة توت عنخ آمون بالأقصر جنوب مصر، عُثر بين كنوزها على أربع ألواح شبيهة بهذه التسلية "الملكية" التي تتشابه كثيرًا مع لعبة الداما حديثًا.
ففي مصر القديمة أشار "كتاب الموتى" إلى لعبة نرد لوحية باسم سينيت (وتعني العبور)، وهو يصف ممارسة الشخص المتوفي للعبة مع خصم خفي كأحد جوانب العالم الآخر. بالصورة نفسها التي رسمت فيها الملكة نفرتاري وهي تلعب اللعبة منفردة على جدارية مكتشفة عام 1904 بوادي الملكات بالأقصر، قبل العثور على نسخة رائعة من اللعبة تنسب للملك أمنحوتب الثالث. احتوت على ثلاثين مربعًا مرسومين فوق سطح مستطيل وبتصميم رائع أزرق اللون جُهّزت خصيصًا ليتم الاحتفاظ بقطع اللعب داخلها في درج خاص.
وعلى الرغم من محاولة الكثير من المعاصرين تخمين الطرق التي لعبت بها هذه الألعاب، فإن كثيرًا من التفسيرات ترجع اندثار ممارستها إلى ظهور لعبتين لوحيتين كانتا الأكثر شعبية في بلدان العالم القديم، وما زالتا تلعبا بشعبية طاغية دون الوعيّ بعلاقتهما بالأساطير. ألا وهما طاولة الزهر والشطرنج.
الشطرنج: الأسطورة في خدمة اللعب
نالت الشطرنج تحديدًا نصيبًا وافرًا من التناول في العديد من الأدبيات العربية. إضافة إلى ربطها كذلك بالنخب، فقد أورد الأديب والرحالة ياقوت الحموي في كتابه "إرشاد الأريب إلى معرفة الأديب" أخبارًا عن أبرز لاعبي الشطرنج في العصور الإسلامية من بينهم صلاح الدين الأيوبي الذي كان مولعًا باللعبة. إلى جانب العديد من الأدباء والنحويين والعروضيين ممن ألحقت اللعبة بألقابهم، كأبي الرجاء الضرير الشطرنجي، وأحمد بن سهل البلخي الذي وضع كتابًا عن قواعد الشطرنج، أو النحوي عبد الله بن أحمد الخشاب الذي ذُكر لعبه الشطرنج مع العامة على قارعة الطريق بوصفه من الطرائف.
إلا أن أكثر النصوص العربية فرادةً في الحديث عن الألعاب وارتباطها بالنخب والأساطير على حد سواء فهو "مروج الذهب ومعادن الجوهر" للرحالة المؤرخ علي بن الحسين المسعودي. الذي لاقت مروياته واهتمامه المبكر برسم خرائط لليابسة المجهولة وقتها (أمريكا)، وكشف أسرار الآثار الفرعونية (خاصة الأهرام) إلى حد وصفه من قبل المستشرقين الأوروبيين بـ"هيرودوت العرب".
لا يكتفي المسعودي في كتابه بذكر الشطرنج والنرد معًا في سياق التأريخ لحضارات الشرق القديمة (الهند وفارس)، بل إنه يستفيض في شرح المضامين الفلسفية وراء ابتكار اللعبتين واضعًا إياهما في صورة متضادة. حتى وإن تم ذلك وفق خطاب تمتزج فيه الأسطورة بالشواهد التاريخية، فهو يعزي اختراع لعبة النرد (الطاولة) إلى أردشير الأول مؤسس الدولة الساسانية بالقرن الثالث، والذي ابتكر اللعبة لتكون مجازًا عن ارتباط مصير الإنسان ومكتسباته الدنيوية بالقدر والحظ. جاعلًا خاناتها الاثنا عشر مجازًا عن شهور السنة، وأحجارها الثلاثين بعدد أيام الشهر (وقد يكون اختيار اللونين الأبيض والأسود دلالةً على الليل والنهار على النسق ذاته) في حين يشير المسعودي إلى أن مكعبي النرد هما مجاز عن القدر "وتقلبه بأهل الدنيا".
أما الفلسفة وراء ابتكار الشطرنج فلا تقل إثارة للإعجاب. خاصة وأنها على النقيض من لعبة النرد، فينسب المسعودي نشأة الشطرنج إلى أحد ملوك الهند أسماه " بلهيت"، والذي: "قضى بلعبها على النرد، وبَيَّنَ الظفر الذي يناله الحازم والبلية التي تلحق الجاهل"، وفي ذلك رفض واضح للاعتماد على الحظ في اللعب، والاستعانة بالإرادة الحرة لتحكيم العقل والتفكير.
ولا تختلف المصادر التاريخية الأخرى مع المسعودي في مسألة نشأة الشطرنج في الهند – وإن كانت تسرد أسطورة أخرى – موضحةً أن شكل اللعبة وحجارتها وطريقة تحريكها على لوح اللعب كانت تتم في البداية بشكل مغاير عن اليوم، وهو ما يتضح من اسمها السنسكريتي "تشاتورانجا"، والذي يعني الأقسام الأربعة [للجيش]، في إشارة إلى قطع المشاة، والفرسان، والفيلة، والعربات الحربية. قبل أن تخضع اللعبة لكثير من التطوير بعد انتقالها شرقًا إلى بلاد فارس. حيث سميت اللعبة "شاه - ترانج"، وبعد غزو العرب للبلاد تحت راية الخلافة الإسلامية تطورت "الشطرنج" في شكلها وطريقة لعبها الأصلية تدريجيًا. حتى انتشرت عبر أوروبا مع حلول الألفية الثانية للميلاد تحت اسم "تشيك" و"تشيس". في تحريف لكلمة ملك الفارسية "شاه" - أو حتى ربما "شيخ" العربية - والتي ما تزال مستخدمة باللفظ الفارسي/العربي نفسه في الحركة الختامية للعبة "checkmat" أو "الشاه مات".
وعلى الرغم من المصادر التي تنسب التطور النهائي للشطرنج إلى الأوروبيين – وهو ما حدث مع لعبة لوحية هندية أخرى من القرن السادس وهي "باشيسي" التي تعرف في بريطانيا حديثًا بـ"لودو" - إلا أن شعبية الشطرنج كانت قد سبقت ذلك بقرون لتصل أولًا إلى أقاصي آسيا، فبينما عثر على أقدم قطع أثرية للشطرنج بالقرب من سمرقند (أوزبكستان حاليًا)، والتي يقدر الخبراء أن قطعها المصنوعة من العاج تعود لحوالي العام ٧٦٠ ميلادية، فإن اكتشاف قطع أخرى على طول طريق الحرير قد دفع ببعض المؤرخين إلى التخمين بأن النسخة الصينية من اللعبة "شيانجتشي" هي المصدر الأصلي لها.
لعب الورق عبر طريق الحرير
وأيًا كانت نقطة الانطلاق في المسار التطوري للشطرنج، فقد مثل طريق الحرير وقوافله العابرة للحضارات مسارًا لانتقال لعبة أخرى لا تقل شعبيةً وانتشارًا حتى اليوم وهي ألعاب الورق (الكوتشينة)، التي تؤكد الكثير من الشواهد نشأتها في الصين أصلًا على عكس الشطرنج.
وكما هو واضح من اسمها، فقد ارتبطت هذه اللعبة تحديدًا باختراع الورق والحبر الأسود وبالتالي الطباعة اليدوية، وهي جميعًا من ابتكارات الحضارة الصينية. لكن الصين كانت قد استبقت كل هذه الابتكارات لتمارس ألعاب القمار باستخدام مواد صلبة، وفي لعبة ما تزال منتشرة حتى اليوم وهي الدومينو.
ويستشهد عالم الاجتماع السعودي عبد الرحمن الشقير في دراسته "ورق اللعب: تاريخه ورموزه وحكمه" بازدهار الحضارة الصينية في عصر سلالة سونج – وتحديدًا الإمبراطور هوي تسونغ - ليؤيد فكرة ابتكار ألعاب الورق وقتذاك. كونها الفترة التي شهدت تطوير صناعة الورق وظهور العملات الورقية نتيجةً لتقنيات الطباعة.
وعبر طريق الحرير غربًا، لم تكتف الحضارة العربية باكتشاف تقنيات صناعة الورق وتطبيقها في التدوين والكتابة، ولكنها تجاوزت ذلك بممارسة ألعاب الورق التي انتشرت بمسماها الفارسي "الكنجفة"، وهو الاسم الذي أورده الفقيه الشافعي المصري ابن حجر الهيتمي في كتابه "كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع" بالقرن السادس عشر.
وعلى رغم الفرضية التي تعزو عدم انتشار اللعبة بين العرب في القرون الوسطى لارتباطها بالقمار. تؤكد شواهد أخرى ممارسة رجال البلاط لها في العهد المملوكي المتأخر (المماليك البرجية الشركس)، ومنها كتاب "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة" للمؤرخ المملوكي ابن تغري بردي بالقرن الخامس عشر. حيث أورد قصة غريبة حول اعتقال السلطان المؤيد شيخ المحمودي لنائب دمشق أقباي المؤيدي بعد توليه السلطنة ووصوله للشام، فأقباي لم يكن فقط أحد مماليك المؤيد الذي رباه وأعتقه ورفعه في المناصب منذ كان أميرًا فحسب، ولكنه كان قد اشتراه بألفي درهم من تاجر أثناء لعبهما للكنجفة، ولم يكن ثمن أقباي سوى الأموال التي ربحها المؤيد خلال المقامرة بأوراق اللعب.
ومن أروع الأدلة الملموسة على ممارسة سلاطين المماليك للعبة هي مجموعتي أوراق اللعب النادرة التي عثر عليها بين مقتنيات قصر "توب كابي" بإسطنبول، والتي استدل الخبراء من رموزها وزخارفها الملونة على نسبتها لدولة المماليك، ففضلًا عن كروت الكأس (نائب الملك)، والعملة (ملك الدراهم)، والسيف (ملك السيوف)، وعصا خيال الكرة (البولو)، فقد عثر كذلك بين أوراقها الثمانية والأربعين على كرت شاذ يحمل رمز الهلال. يخمن الشقير أنها استخدمت كورقة (جوكر).
وكما ارتبط ظهور (الكوتشينة) في الصين القديمة بصناعة الورق، فقد أدى انتقال اللعبة عبر المماليك إلى أوروبا إلى تطوير مجموعاتها الأربعة [البستوني (الأسود)، والديناري، والهارت (الكبة)، والشيريا] في 52 كرت وعبر اللونين الأحمر والأسود. في حين ساعد اختراع يوهان جوتنبرج لآلة الطباعة في تحويل صناعة أوراق اللعب من فن يدوي يقتنيه النخبة وحدهم إلى لعبة شعبية سهلة الاقتناء وتنتج بشكل واسع وزهيد، والأهم هو أن التغيير الذي طرأ على اللعبة بين ثقافة وأخرى لم ينعكس فقط على طريقة تصميمها ورسمها، بل وأيضًا على دلالات الرموز وبالطبع طريقة ممارسة اللعبة، التي أخذت مع الوقت تتمايز مع ابتكار ألعاب عديدة بقواعد وأهداف متنوعة.
لعب النخبة ولعب العامة
وكما يرتبط الترفيه بحياة الرفاه – بشكل يفوق ارتباطهما بالجذر اللغوي نفسه عربيًا – فإن ذلك لم يمنع البشر من مختلف الطبقات والشعوب عن ممارسته. كما هو الحال في المجتمعات الريفية والقبائلية بأفريقيا. التي طوّرت أنماطًا من اللعب الشعبي تعتمد على وسائل شديدة البساطة. كالرسم على الرمل أو استخدام الحجارة والعيدان دون حاجة إلى أدوات معقدة.
ففي غرب أفريقيا نجد لعبة تشوكو، التي تُشبه لعبة الداما، بينما تنتشر على عرض القارة ألعاب المانكالا المتنوعة التي تعد من الأقدم في العالم، مثل لعبة أواري، التي يمكن استبدال اللوح ذي النتوءات (الأهداف) بالحفر في الأرض، وهناك لعبة آتشي، ومثيلاتها العدة كمورابارابا في جنوب أفريقيا، والتي تستخدم شبكة خطوط مرسومة بالحجارة لتكوين صفوف وإقصاء الخصم، وكلها ألعاب تتطلب مستوىً عالٍ من الذكاء التراكمي يؤكد أن اللعب لم يكن حكرًا على المدن الكبرى والقصور، بل حاضرًا في الساحات المفتوحة والطرقات الرملية.
مع ذلك، يتضح من قراءة التاريخ وثيق العلاقة بين فترات الازدهار الاقتصادي وبين تنوع وازدياد صنوف التسلية والألعاب خاصة لدى النخب الحاكمة. التي كثيرًا ما استخدم إسرافها فيها كوسيلة لتقويض سلطتها ونزع الشرعية عنها، وهو ما يتضح بجلاء في التاريخ الإسلامي وتحديدًا حقب الخلافة العباسية. التي عد مؤرخون ذروتها عصرًا ذهبيًا. حيث توازى الاهتمام بالآداب والعلوم وفنون العمارة وغيرها بمظاهر اللهو والغناء والتسلية المختلفة. خاصة في عهد الخليفة هارون الرشيد.
وسلط الضوء على هذا الجانب بصورة أكبر عند تناول صراع السلطة بعد وفاة الرشيد. أي بين ابنيه محمد الأمين، وعبد الله المأمون، فيروي المؤرخ والفقيه محمد بن جرير الطبري في "تاريخ الرسل والملوك": "لما ملك [أي الأمين] وجه إلى جميع البلدان في طلب المْلهِين، وضمهم إليه، وأجرى لهم الأرزاق [...] وأمر ببناء مجالس لمتَنزهاته، ومواضع خلوته ولهوه ولعبه، [...] وأنفق في عملها مالًا عظيمًا وفيها قال أبو نواس مدائحه". في حين يناقش الأديب والمؤرخ المصري أحمد أمين في كتابه "ضحى الإسلام" هذا الصراع بوضع الخليفة المأمون لا في مرتبة النقيض لسلفه (الأمين) بل في مقام المتزن عند ممارسة صنوف التسلية. التي تنوعت مظاهرها بين حبه للفلسفة والجدل في المسائل الفقهية والفكرية بمجالسه، وبين لهوه "الخفيف" واهتمامه خاصة بالشعر والموسيقى.
ويمكن المحاججة بأن اللعب والترفيه ظلا ولعصور طويلة ليس فقط من امتيازات السلطة، بل واحدة من أدواتها، ويعود ذلك لاستئثار النخبة لهما داخل قصورهم وعوالمهم الخاصة بغض النظر عن السمات الاجتماعية المحافظة التي حكمت مجتمعات رعاياهم. في حين سمحت السلطة الحاكمة للعامة بممارسة بعض أشكال الترفيه في المحافل والمساحات العامة كجزء من تشريعاتها وبما يناسب صورتها الدعائية، كالأعياد الدينية، أو المناسبات الخاصة للحكام من حفلات التنصيب، والمبايعة، والزواج، والإنجاب، إضافة إلى خروج الحملات وتحقيق الانتصارات الحربية، وهو ما دفع ثقافات بعينها لإيجاد محافل متكررة على مدار العام لممارسة مختلف أنواع اللهو واللعب في نطاق واسع ومشروع، وأنصع مثال أمامنا هو مصر في مختلف عصورها.
احتفت الحضارة المصرية القديمة بالآلهة في مناسبات سنوية مختلفة. حيث خرجت المواكب الاحتفالية إلى معابد بعينها لتقديم القرابين والذبائح، وهو ما استمر بعد انتشار المسيحية وإن استبدل البشر المؤلهون وقتها بالقديسين، وهو ما أخذ نسخة جديدة مع دخول الإسلام – خاصة في العصر الفاطمي – بالاحتفال بموالد النبي وآل بيته وشيوخ المتصوفة من الأولياء الصالحين، وعلى اختلاف الأديان المتعاقبة احتفظت تلك المناسبات وطقوسها السنوية بطابعها الشعبي. بالقدر ذاته الذي استخدمتها فيه السلطة الحاكمة للدعاية والاستعراض. حتى بلغ عدد الموالد الإسلامية والمسيحية في مختلف المحافظات المصرية اليوم أكثر من 2800 مولد يحضرها 40 مليون شخص.
وبجانب استعراض كرامات الولي أو القديس في المولد، وما يصاحب ذلك من تقديم النذور وعقد حلقات الذكر والإنشاد ونحو ذلك من الطقوس. يطغى الجانب الاحتفالي للموالد بصورة متناقضة مع الطابع الجنائزي الذي يصبغ المآتم الشيعية في مناطق أخرى من العالم الإسلامي، فمع تغير المذهب الحاكم في مصر من الشيعي الإسماعيلي (العصر الفاطمي) إلى المذهب السني (العصر الأيوبي). ترسخت الموالد كمناسبات لممارسة مختلف أنماط اللهو واللعب. بدءًا بفنون الإنشاد والغناء والرقص، وانتهاءً بالألعاب والرياضات الشعبية التي تنوعت بدورها من المنافسات البدنية كالجري والصيد وشد الحبل، أو حتى ألعاب التوازن ومبارزات التحطيب، والرقص بالخيول، إضافة إلى الألعاب النارية، وألعاب الحظ، وبالطبع ألعاب الأطفال والمراجيح.
وتميزت الموالد في مصر بظهور كل ما هو جديد وغريب من فنون التسلية. بما في ذلك تطور مهارات فنون السرد والقصص الشعبي، كمسرح الدمى (القراقوز)، أو حتى خيال الظل، الذي يمكن اعتباره نقطة البداية لفنون المشاهدة الحديثة لاحقًا كالرسوم المتحركة والسينما، وبالعصر المملوكي على وجه الخصوص ازدهرت مختلف فنون اللعب البدنية بالمجال العام فيما عرف بالميادين.
ومما يوثق لذلك بقاء العديد من المخطوطات المملوكية التي استعرضت عبر خطوطها ورسوماتها التوضيحية الملونة مختلف أنواع الألعاب البدنية في ميادين القاهرة. كـ"تحفة المجاهدين في العمل بالميادين"، ومخطوط "المخزون جامع الفنون"، وغيرها من التي أرخت للكثير من فنون الفروسية. بما يعزز من مهارات المماليك القتالية وبالتالي من شرعية سلطتهم كحماة "للدين"، ومن تلك الألعاب التي تطلبت مهارات عالية في الرماية والمبارزة وركوب الخيل لعبة القبق، والبرجاس، والكزلك، واللعب بالنار من على ظهر الخيل. في حين احتفظت لعبة الكرة أو "الكرة والصولجان" بالشعبية الأكبر، وهي من منافسات الخيالة التي تهدف لتحقيق الأهداف برمي الكرة، أو ما يعرف اليوم برياضة البولو، والتي انتشرت من مناطق وعصور سابقة مع وصول الفرسان المسترقين (المماليك) إلى مصر من بلدان آسيا. لتنال شرعية التحليل من الفقهاء لما فيها من مقاصد التدريب العسكري "وغرضه الاستعانة على الجهاد الذي أمر الله بها رسوله". كما يذكر الفقيه الحنبلي بدر الدين البعلي (ابن بلبان).
وكما هو الحال جنوب وشرق المتوسط. اهتمت طبقات النبلاء والأمراء في أوروبا بالترفيه والألعاب، والتي روعي في كثير منها التغيرات الموسمية للطقس، فإلى جانب ألعاب الورق والشطرنج ومختلف الألعاب اللوحية الأخرى، تطورت ألعاب العصا والكرة التي تلعب في الهواء الطلق لتمارس تدريجيًا داخل الأماكن المغلقة منذ القرن الخامس عشر، ومع تراجع الألعاب الأرضية مثل الكروكيه والتروكو، ازدهرت لعبة البلياردو كنشاط داخلي راقي، فسجل للملك الفرنسي لويس الحادي عشر امتلاك أول طاولة بلياردو معروفة، قبل أن تنتشر اللعبة لاحقًا في النوادي الخاصة والمقاهي كلعبة ذات طابع نخبوي.
الثورة الصناعية ومدن اللعب
وفي فصلي الربيع والصيف اتجهت النخبة في مختلف أنحاء أوروبا للخروج إلى الحدائق والغابات، وشيئًا فشيئًا برز ما يسمى بـ"حدائق المتعة"، وهي متنزهات مخصصة للنبلاء ووسائل ترفيههم، التي أخذت تتطور لتستقطب حشودًا ضخمة بشكل منظم لعروض ألعاب الخفة، والسيرك، وصعود المناطيد، وحتى الحفلات الموسيقية. في الوقت الذي استخدمت فيه بعضها كأماكن للمواعيد الغرامية، أو لاحقًا كمقاهي لاحتساء الشاي والقهوة ومختلف أنواع الأطعمة.
وشيئًا فشيئًا أخذ هذا النمط من المتنزهات ينتشر عبر بلدان أوروبا، كـ"منتزه باكن" الذي افتتح في الدنمارك عام 1583 كأقدم متنزه ترفيهي في العالم، أو "حدائق فوكسهول" في انجلترا عام 1661، وعلى النسق ذاته حولت النمسا متنزه "براتر" في فيينا إلى مكان مفتوح للعامة عام 1766 بعد أن كان محمية صيد ملكية.
وبعد دخول أوروبا إلى حقبة الاستكشافات الجغرافية، وما تلاها من صعود الإمبريالية وانتشار نمط الاقتصاد الرأسمالي كنتيجة لمكتسبات الثورة الصناعية، انعكست كل هذه الظواهر والتغيرات على مجالات اللعب والترفيه خصوصًا في الفضاء العام، وبالتالي نجحت المدن الصناعية الجديدة في صهر "حدائق المتعة" ودمجها بالمهرجانات الشعبية (الكرنفالات) وظاهرة المعارض السنوية الحديثة في مكان واحد، وهو المتنزه الترفيهي أو "مدينة الملاهي" التي نعرفها اليوم.
تعتبر مدن الملاهي واحدة من منجزات الثورة الصناعية نظرًا لسببين: الأول ظهور الطبقات العاملة وقدرتها المتزايدة على إنفاق فائض أجورها على الترفيه، وبالتالي كسر احتكار النبلاء لوسائله كممارسة نخبوية، والثاني هو التطور التقني الناجم عن مبتكرات الثورة الصناعية نفسها.
فمع انتصاف القرن التاسع عشر تطور مفهوم "مدينة الملاهي" مع بروز ظاهرة "المعرض العالمي" أو الإكسبو، الذي جاء تنظيمه بغرض استعراض آخر المنجزات الصناعية وغرائب الاستكشافات العلمية والجغرافية حول العالم. بحيث يشكل المعرض مناسبة لتبادل المعرفة وتقديم وسائل الترفيه في آن معًا.
فإلى جانب عروض الكائنات الغريبة، والبهلوانيات، والسحر، وحدائق الحيوانات البرية، شكلت المعارض مجالًا للإبهار بكل ما هو غريب وجديد، ومع زيادة الابتكار ظهرت الألعاب الميكانيكية، كدوامة الخيل البخارية، التي عُرضت لأول مرة في معرض آيلشام عام 1861، لتتطور لاحقًا إلى لعبة "الخيول الراكضة" فيما يعتبر أول عملية ميكنة للمراجيح التقليدية.
ومع انتقال المعرض العالمي إلى الولايات المتحدة جاء "المعرض العالمي الكولومبي" عام 1893 في شيكاغو ليمثل النموذج الأحدث لنمط المتنزهات الهادفة للربح. حيث خصصت بعض أجنحة المعرض للتسلية والعروض سميت بـ"ممر بلايزانس" حيث احتوت على العديد من الألعاب المبهرة للزوار. كعجلة فيريس الفولاذية الأولى، التي سرعان ما أدى تطوير استخدام الكهرباء إلى نشرها في مختلف المنتزهات الثابتة الأخرى. إلى جانب ألعاب الحظ، وعروض المشاهدة، وميادين الرماية، والآلات التي تعمل تلقائيًا بالعملات المعدنية.
البلاستيك: عالم جديد بألعاب جديدة
من أوروبا إلى آسيا مرورًا بأمريكا، لعب التطور الصناعي المتنامي الدور الأبرز في تحويل أدوات التسلية والألعاب من مجال للراحة بعيدًا عن العمل في المصنع إلى صناعة راسخة بحد ذاتها، وكان للاكتشافات العلمية التي أنتجت الحداثة ولازمتها الدافع الأكبر لتطوير الألعاب وزيادة تسويقها، واستهلاكها، وبالطبع إنتاجها بكميات تجارية ضخمة. على عكس صناعة الألعاب اليدوية وخاماتها التقليدية التي جعلت منها لقرون منتجات نادرة لا يقدر على امتلاكها سوى الأثرياء.
كان لاكتشاف واحد بعينه أن يغير ليس صناعة الألعاب وحدها، بل الصناعات ككل – والنظام البيئي كذلك - ألا وهو عملية القولبة بالحقن، وهي عملية تستخدم فيها حقن ضخمة لدفع المادة السائلة عبر أسطوانة ساخنة، وبعدها تتجمد المادة داخل قالب مجهز بمكبس لتأخذ شكله، وكانت المادة الأولية في تلك العملية هي السليلويد. أول أشكال البلاستيك شبه الصناعي في التاريخ.
وبعد تسجيل الأخوين الأمريكيين جون وإيزايا هيات لاختراع أول آلة للقولبة بالحقن في سبعينيات القرن التاسع عشر. بدأت الصناعات الحديثة تنتقل إلى مرحلة الطفرة، ولم يكن من قبيل المصادفة أن تتلازم الألعاب مع البلاستيك، فقبل أن تستخدم هذه المادة بشكل واسع في تصنيع الأزرار، وأمشاط الشعر، وأغلفة الكتب، ولاحقًا في آلات التصوير والأفلام السينمائية، كان أول المنتجات التي قدمها الأخوان هيات عبر الآلة الجديدة هو كرات بلياردو مصنوعة من اللدائن بدلًا من العاج.
مثلت مادة البلاستيك كلمة السر في صناعة الألعاب الحديثة بالقرن العشرين. ما دفعها إلى الازدهار حتى في أحلك الفترات الاقتصادية، وأنصع مثال على ذلك هو لعبة قطع البناء المتشابك "ليجو". التي بدأت رحلتها من ورشة نجارة لحرفي دنماركي يدعى أولي كيرك كريستيانسن. اتجه في فترة الكساد العظيم بالثلاثينات إلى صناعة الألعاب الخشبية.
إلا أن اسم "ليجو" المشتق من العبارة الدنماركية (leg godt ومعناها: العب جيدًا) ما كان ليتحول علامةً تجارية معروفة إلا بعد استخدامها لتقنيات الصب بالقالب. لتنتج بعد ذلك قطعًا ومكعبات بلاستيكية ملونة قابلة للتركيب والشبك لبناء المباني، والمركبات، وحتى الشخصيات المصغرة. بصورة حفزت خيال الأطفال عبر الأجيال، وبمواد طويلة الأمد حولتها إلى أكبر مصنع ألعاب في العالم من حيث المبيعات، حتى نجحت الشركة وفقًا لإحصاءات عام 2015 في بيع 600 مليار قطعة ليجو.
أسهم البلاستيك في تقديم حلول تجارية ناجحة لتسويق الألعاب التقليدية، فأصبحت خامات أوراق اللعب تعيش لمدة أطول مقارنة بتلك المطبوعة على الكرتون أو الورق المقوى، وأسهم إنتاج ألعاب النرد وقطع وألواح الشطرنج بهذه المادة في بيعها بأسعار أتاحتها لأي إنسان أو طفل، ومع الوقت حفزت هذه الإنتاجية العالية خيال الصناع لتطوير الألعاب وتحويرها بل وخلق ألعاب جديدة، فسارع المبتكرون لتسجيل ألعابهم كبراءات اختراع وتسويقها تجاريًا، وإنشاء ثقافات موازية سرعان ما راكمت من ثروات الشركات المصنعة.
فلولعه بألعاب الورق، ابتكر الحلاق الأمريكي ميرل روبنز لعبة ورق جديدة. مستلهمًا إحدى ألعاب الكوتشينة المسماة "الثمانية المجنونة". حيث يرمي اللاعبون فيها بأوراقهم شرط أن تحمل العلامة أو الرقم نفسه للورقة الموجودة على الطاولة. استمتعت أسرة الحلاق باللعبة التي سميت أونو (وتعني [واحد] بالإسبانية). ما دفع روبنز لبيع محل الحلاقة والاستثمار في اللعبة، وبالفعل نجح في بيع حقوقها لصاحب قاعة جنازات أعجب بها وحقق من إنتاجها مبيعات هائلة بدوره. قبل أن يعيد بيع حقوقها لشركة ألعاب كبرى تسمى "ماتيل".
تعتبر "ماتيل" قصة نجاح مبهرة أخرى في عالم الألعاب، وارتبط نجاحها أيضًا بالتصنيع البلاستيكي، فإلى جانب أونو، وسلسلة نماذج السيارات المصغرة "هوت وييلز"، انطلقت شهرة "ماتيل" من بداية متواضعة عندما قرر الزوجان إليوت وروث هاندلر تأسيس شركة ألعاب عام 1945 داخل مرآب صغير بمدينة لوس أنجلوس الأمريكية. بالشراكة مع رجل الأعمال هارولد ماتسون، الذي سرعان ما أدى تدهور صحته إلى بيع حصته في الشركة دون أن يأخذ اسمه من علامتها المسجلة "مات-يل". الاسم الذي لم يحتو اختصاراه قط على أي إشارة لروث هاندلر رغم دورها المحوري في ازدهار الشركة لاحقًا.
باعت "ماتيل" إطارات الصور، والأثاث المصغر المعاد تدويره لبيوت الدمى الخشبية. إلا أن باكورة منتجاتها واسعة الانتشار كان قيثارات "يوكي-آ-دودل"، وهي نموذج مصغر من آلة اليوكيليلي الموسيقية مزودة بأربع أوتار معدنية وجسم من البلاستيك المرمري، ومثلما أدى استلهام آلة موسيقية شعبية من جزر هاواي إلى انطلاق شركة الألعاب الصاعدة. نجحت "ماتيل" في تحقيق مكانتها العالمية نظرًا لخيال روث هاندلر. الذي وإن كان قاصرًا دون ابتكار إلا أنه متعها بقدرة رائعة على الاقتباس والاستحواذ على المنتجات الموجودة سلفًا.
ففي خمسينات القرن العشرين أطلقت شركة جراينر وهاسر الألمانية خط إنتاج لدمية أزياء "بيلد ليلي"، والتي جاء تصميمها تسويقًا لشخصية كرتونية ابتكرها الرسام راينهارد بويتين لصالح صحيفة "بيلد" الألمانية، وتروج السردية التي أشاعتها "ماتيل" لاحقًا بأن روث هاندلر كانت قد طرحت بالفعل فكرة إنتاج دمية على هيئة امرأة بالغة على عكس دمى الأطفال المنتشرة وقتها على هيئة رضع فقط، لأنها لاحظت لعب ابنتها باربرا بالدمى الورقية كشخصيات بالغة، ورغم تحفظ زوجها وشريكها إليوت هاندلر على الفكرة لم تتخل روث عنها. خاصة بعد شرائها نسخًا من دمية "بيلد ليلي" خلال رحلة لها إلى سويسرا، فأعادت تصميمها في الولايات المتحدة بمساعدة جاك رايان. قبل أن تعيد تسويقها هناك باسم "باربي" تيمنًا بابنتها باربرا.
في النهاية اضطرت روث هاندلر وشركة "ماتيل" لشراء حقوق الدمية الأصلية في ألمانيا ليتوقف إنتاجها على الفور. في حين توسعت علامة "باربي" التجارية منذ إطلاقها عام 1959 لتصبح سلسلة متعددة الوسائط، وشخصية مرنة تحمل مختلف الوظائف والأدوار المهنية والأسرية، وشملت منتجاتها ألعاب الفيديو، والرسوم المتحركة، والمسلسلات التلفزيونية، وأنتجت كذلك كفيلم سينمائي بتصوير ممثلين حقيقيين.
اعتبرت شخصية "باربي" إلى جانب نظيرها الذكر "كين" أشهر دميتين في العالم، وإلى جانب الأرباح الكبيرة التي حققتها "ماتيل" من بيع هذه الدمى ومنتجاتها من الاكسسوارات، والملابس، ومجسمات البيوت، والمركبات، تحولت "باربي" مع الوقت إلى رمز ثقافي نجح في تسويق رسالة "الحلم الأمريكي" حول العالم، ولكن بكثير من الجدل.
داخليًا سعت "باربي" إلى تسويق نفسها كمنتج أمريكي ذا رسالة مجتمعية تهدف لتمكين النساء، وعلى الرغم من ظهور نسخ منها بمئات الأدوار المهنية كطبيبة، وجندية، ومهندسة، ورائدة فضاء، لم تسلم الدمية من النقد النسوي. كما حدث عند طرح "تين توك باربي" عام 1992، وهي دمية ناطقة تحتوي تسجيلات متنوعة اعتبر بعض عباراتها نمطية. ترسخ تصورًا سلبيًا عن المرأة واهتماماتها السطحية.
منذ ذلك الوقت اتجهت "ماتيل" لإصدار خط إنتاج ضم 22 لون بشرة، و94 لون شعر، و13 لون عين، و5 أنواع لأشكال الجسد. تلبيةً للانتقادات التي واجهت "باربي" بشكل متكرر من ناشطي التعدد الثقافي ومعاداة العنصرية. بعد استخدام الشركة لملامح وجه أوروبية حتى مع الدمى سوداء البشرة. في الوقت الذي أثار فيه انتشار الدمية عالميًا جدلًا واسعًا حول القيم الثقافية والدينية المغايرة في دول محافظة كالسعودية وإيران. بصورة سمحت بترويج نسخ إسلامية محلية من اللعبة كدمية "فلة" المحجبة ذات الثياب المحتشمة. كل هذا حول "باربي" إلى ساحة صراع مشحونة بالتأويلات القيمية والسياسية والثقافية، لا مجرد لعبة أطفال.
مونوبولي: الاستحواذ واللعب
لم تتحول الألعاب إلى أدوات معرفية ومنتجات لنشر الثقافة السائدة فحسب، بل إن بعضها صمم ومنذ البداية بهدف طرح اتجاهات أيدولوجية محددة، وأسطع الأمثلة على ذلك هي (مونوبولي). لعبة الحظ اللوحية من نوع "ارمِ وتحرك" تحتوي مجسمات صغيرة للمباني والمنشآت - إضافة إلى أوراق العملة الوهمية - بهدف الاستحواذ على الممتلكات العقارية وفرض إتاوة على العابرين بها خلال تحريك حجارة اللعب، ومن المفارقات الكبرى أن الانتشار الواسع للعبة كهذه كان قد بلغ ذروته الأولى في الولايات المتحدة خلال الكساد الاقتصادي العظيم.
عندما تدخل اليوم لزيارة متحف ذا سترونج الوطني للألعاب في ولاية نيويورك ستجد أقدم نسخة من (مونوبولي) حاملةً أسماء أحياء وعقارات في مدينة نيوجيرسي، وستلاحظ فورًا اختلافها الشديد مع شكل اللعبة اليوم. حيث كان التصميم الأول الذي وضعته لها شركة الإخوة باركر دائريًا لا مستطيلًا.
الاسم الذي يحمل براءة اختراع اللعبة اليوم هو تشارلز دارو، الذي فقد وظيفته عقب انهيار سوق الأسهم نهاية العشرينات، وبعد تعرفه عبر أصدقائه على "لعبة المالك". أدخل دارو تعديلات من اللعبة محاولًا بيعها لشركة الإخوة باركر التي تجاهلت عرضه. قبل أن ينجح في بيع ٥ آلاف نسخة منها على نفقته. ما دفع الشركة لاحقًا لشراء حقوقها وتسويقها حتى اليوم.
روجت (مونوبولي) بانتشارها للكثير من القيم والظواهر المرتبطة بالاقتصاد الحر، وتمثلت المهارات التي يمكن اكتسابها عبر اللعبة في إعلاء المنافسة الفردية على التعاون الجماعي، والحث على التخطيط المالي وإدارة الموارد، ولتحقيق النقاط فيها توجب على اللاعب معرفة مهارات أخرى كالمخاطرة والمكافأة، والاستثمار في الأصول، وبالطبع كما هو معنى اسمها الإنجليزي: الاحتكار.
لم يمض وقت طويل على انتشار (مونوبولي) حتى خاضت شركة باركر صراعًا حول حقوق ملكيتها الفكرية مع مبتكرة "لعبة المالك". التي لم يكن تشارلز دارو قد اقتبس فكرتها محققًا الأرباح فحسب. بل ومشوهًا لإرثها الأصلي، فلم تكن إليزابيث ماجي مجرد هاوية للألعاب. بل كاتبة نسوية آمنت بالمذهب الجورجي في الاقتصاد، وهو تيار إصلاحي أسسه هنري جورج على مبدأ أن الأرض مورد طبيعي مشترك لا يجب احتكاره من قبل الأفراد، ولم يكن ابتكار ماجي لـ"لعبة المالك" سوى طريقة تعليمية مسلية لشرح أفكار الجورجية كبديل أخلاقي للرأسمالية دون الانجرار تمامًا للنظام الاشتراكي.
وعلى الرغم من حصول ماجي لاحقًا على تعويض من الشركة لم يتجاوز 500 دولار. إلا أن المفارقة الكبرى كمنت في كون لعبتها السابقة لـ(مونوبولي) كانت هي الأخرى مقتبسة من لعبة محلية أخرى وهي لعبة زوهن آهل. التي كانت بدورها تطورًا لألعاب لوحية أخرى لعبها جميعًا السكان الأصليون لأمريكا الشمالية، وبالخصوص قبيلة الكايووا في السهول الجنوبية مما عرف لاحقًا بالولايات المتحدة، والتي يبدو أنها لم تكتف بتأسيس دولتها الاستيطانية على أراض الغير. بل وسرقة تراثهم وإعادة إنتاجه كأفكار مسجلة الحقوق.
اللعب كسياسة
وطوال القرن العشرين أخذت الألعاب في الولايات المتحدة تتطور بصورة لا يمكن إغفال شعبيتها وانتشارها حتى بات بعضها يستخدم كوسيلة للهيمنة الثقافية - أو ما يعرف اليوم بالقوة الناعمة - وأهم الدواع لذلك كان وجود لعبة ضمنية أكبر بخصم جاد على الطرف الآخر وهو الاتحاد السوفييتي. الذي استعر التنافس بينه وبين الولايات المتحدة حتى تنوعت ميادينه ومضاميره خلال الحرب الباردة، فمثلت المسابقات الرياضية الأولمبية مجالًا مناسبًا لذلك بغرض الدعاية الأيدولوجية، ورسم صورة المنتصر أمام الخصم بكل ما يمثله من قيم ومعتقدات ورؤوس نووية.
ومع مواظبة تنظيم المنافسات الدولية في الشطرنج. أخذت اللعبة المعتمدة على إبراز الذكاء والقدرات الفكرية العالية تتحول لأداة جديدة في الصراع الجيوسياسي بين الإمبراطوريتين المعاصرتين، فكرس الاتحاد السوفييتي الموارد بغرض اكتشاف المواهب الفذة داخل جمهوريات الاتحاد، والدفع بهم للهيمنة على المسابقات الدولية.
ورغم فشل الولايات المتحدة في الارتقاء لمستوى المواهب البشرية المتوفرة لدى الروس. إلا أنها نجحت في إلحاق هزيمة فادحة باللاعب الروسي جاري كاسباروف عام 1997 – بصورة تناسب في مزلتها سقوط الاتحاد السوفييتي قبلها ببضع سنوات – ولم تكن هزيمة بطل العالم في الشطرنج من لاعب أمريكي مكافئ. بل نتيجة تطوير برمجيات الذكاء الاصطناعي التي بلغت أوجها في حاسوب "ديب بلو" لشركة "آي بي إم" ذلك الوقت.
تلازم العمل على نماذج محاكاة لألعاب الشطرنج، وألعاب لوحية أخرى أبسط مع بداية تطوير البرمجيات وعلوم الكمبيوتر، ولكن من المثير للاهتمام أن ما عد أول خطوة في مجال ألعاب الفيديو كان لعبة تنس بسيطة أنتجت كذلك في سياق الحرب الباردة. حيث قام عالم الفيزياء الأمريكي وليام هيجنباثام بابتكارها عام 1958 على شاشة لمراقبة إشارات الرادار ومسارات الصواريخ في مختبر بحثي بداية سباق الفضاء مع الاتحاد السوفييتي.
في البداية أدى حصر استخدام الحواسيب الأولية ضخمة الحجم وباهظة التكلفة داخل المنشآت العلمية والعسكرية إلى جعل ألعاب الفيديو أشبه بالهواية الجانبية للمبرمجين، وكان الوضع مشابهًا على الجانب الآخر من الجدار الحديدي عندما قام عالم الحاسوب الروسي أليكسي باجيتنوف بتطوير لعبة ألغاز تعتمد على المهارة والسرعة والتنظيم سماها "تيتريس" انتقلت شهرتها من الشبكة الداخلية لأكاديمية العلوم السوفييتية إلى بريطانيا والولايات المتحدة. حيث نجح بالفعل في بيع حقوق التوزيع التجاري لها دوليًا، لا وبل وتزويد جهاز "جيم بوي" الثوري لشركة نينتندو اليابانية لألعاب الفيديو. لكنه لم يحقق أي مكاسب مادية منها قبل تفكك الاتحاد السوفييتي وانهيار مفاهيم التأميم والملكية العامة في روسيا.
ومع زيادة الإنفاق والابتكار أخذت تكلفة صناعة الحاسوب تنخفض شيئًا فشيئًا، فقبل أن يصبح الكمبيوتر والإنترنت في متناول المواطن العادي بعقود. نجحت شركات كأتاري الأمريكية ونينتندو اليابانية في خلق صناعة كاملة لألعاب الفيديو طوال عقد الثمانينات. سواء عبر أجهزة اللعب الآلية باستخدام العملة (الأركيد)، أو حتى أجهزة تشغيل الألعاب. التي سرعان ما نافسها توفر أسطوانات مدمجة لتشغيل الألعاب في أجهزة الكمبيوتر الشخصية، وعبر لاعبين مجهولين في مختلف أنحاء العالم موصلين بشبكات الإنترنت.
اللعب ونداء الواجب
وكما هو واضح فلم تخل مسيرة الألعاب ككل - وألعاب الفيديو على وجه الخصوص - من الجدل. خاصة بعد تطورها في القرن الحادي والعشرين لتنافس تقنيات التصوير والرسوم ثلاثية الأبعاد فيها أكبر أستوديوهات الأفلام السينمائية، ومع شعبية الألعاب القتالية بين المراهقين اقترنت تلك الألعاب في النقاشات المجتمعية والإعلامية بمظاهر العنف المنفلت. كما في حوادث إطلاق النار في المدارس الأمريكية.
وخلال عقدين أصبحت ألعاب القنص القتالية والمطاردات مثل كول أوف ديوتي (نداء الواجب) أو جراند ثيفت أوتو (سرقة السيارات الكبرى) أسماء مألوفة في تقارير التحقيقات الأولية رغم عدم وجود دليل علمي قاطع يربط بين ممارسة الألعاب والجريمة المنظمة أو النزوع إلى القتل. ففي أعقاب مجزرة "ساندي هوك" عام 2012 سارع مسؤولون أمريكيون إلى الربط بين الحادثة وسلوك المجرم داخل عوالم الألعاب الافتراضية، وهو ما تكرر أيضًا في مشهدية هجوم كرايست تشيرش في نيوزيلندا عام 2019 حين بثّ الجاني لقطات إطلاق الناس على المصليين في المسجد كما لو كانت منظور لاعب.
مع ذلك، لا تزال أغلب الدراسات الأكاديمية تشير إلى أن الأثر المحتمل لألعاب العنف يقتصر على سلوك عدواني عابر، وليس على قرارات بالقتل الجماعي. خاصة أن استهلاك الألعاب ذاتها لا يختلف كثيرًا بين المجتمعات. بينما تظل أمريكا حالة استثنائية في مسألة حرية اقتناء الأسلحة النارية باعتبارها حقًا دستوريًا مكفولًا للمواطنين. ما يجعلها بيئة خصبة للانفجار العنيف خارج الشاشة.
من ناحية أخرى، سمح المجال المفتوح للممارسة ألعاب الفيديو متعددة اللاعبين على الإنترنت بصعود ظاهرة أخرى وهي التجنيد الأيديولوجي. فداخل غرف الدردشة الصوتية في ألعاب مثل ورلد أو ووركرافت (عالم فنون الحرب) وبلايستيشن نيتورك (شبكة محطة الألعاب)، وأيضًا كول أوف ديوتي، تمكن أفراد من تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) من التسلل إلى المنصات الرقمية لاختبار القابلية النفسية والتأثير العقائدي لدعى مراهقين جاءوا من جنسيات وخلفيات متعددة إلى ذلك الفضاء التفاعلي. في حين كانت البنادق والمعسكرات التي أسرت صورها ونماذجها خيال اللاعبين تتحول إلى واقع عبر المحادثات العابرة والرموز المشفرة التي نجحت في كثير من الأحيان في زيادة تجنيد المقاتلين في العراق وسوريا من مختلف بلدان العالم.
في نهاية المطاف، فإن اتهام الألعاب بوصفها محفزًا للعنف هي جانب واحد لممارسة فطرية ارتبطت منذ وجودها - أو ربما قبله في حالة الحيوان - وتعد الألعاب اليوم من أدوات تعزيز الإبداع خاصة في كبرى شركات التكنولوجيا. التي اختارت دمج غرف ألعاب الفيديو ضمن بيئة العمل اليومية، جنبًا إلى جنب مع طاولات البلياردو ومساحات الاسترخاء، لا بغرض اللهو بل لتحفيز العقول. فشركات التقنية كجوجل أو مايكروسوفت (والأخيرة باتت من أكبر مسوقي ألعاب الفيديو في العالم) أثبتت أن الألعاب فرصة لشحن الطاقة الذهنية لموظفيها ومبرمجيها، ووسيلة لتحرير الأفكار من أسر مسارات التفكير التقليدية، والجمع بين الانضباط والابتكار للوصول إلى الهدف.