مع ظهور هلال شهر ربيع الأول، يستعد المسلمون من مشرق الأرض إلى مغربها للاحتفال بالمولد النبوي، تعبيرًا عن حبهم لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم، عبر دراسة سيرته وأخلاقه، وعقد المجالس في مدحه. لكن تزامنًا مع هذه الاحتفالات، يدور جدال حاد يتكرر سنويًا حول هذه الاحتفالات نفسها، إذ هناك من يرى أن الاحتفال بالمولد النبوي مجرد بدعة لا أصل لها في الدين.
لا يوجد نص في القرآن أو في السنة النبوية يُصرّح بالاحتفال بذكرى مولد النبي. أما لجهة التلميح، فهناك حديث صحيح عن صوم يوم الإثنين، وهو اليوم الذي ولد فيه النبي: "عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، سُئل عن صوم الإثنين، فقال: فِيهِ وُلِدْتُ وَفِيهِ أُنْزِلَ عَلَيَّ". وقد أجاز بعض العلماء الاحتفال بمولده الشريف، مستندين إلى نص هذا الحديث الذي رواه مسلم والترمذي.
ومن بين هؤلاء العلماء جلال الدين السيوطي، الذي دافع عن شرعية وإجازة الاحتفال بالمولد النبوي في كتابه "الحاوي للفتاوي"، الذي رد فيه على الشيخ تاج الدين عمر بن علي اللخمي السكندري المشهور بـ"الفاكهاني"، وهو أحد علماء المذهب المالكي، الذي أكد أن المولد النبوي هو بدعة مَذْمُومَة.
يقول السيوطي: "إن ولادته أعظم النعم، ووفاته أعظم المصائب لنا، والشريعة حثت على إظهار شكر النعم، والصبر والسكون عند المصائب. وقد أمر الشرع بالعقيقة عند الولادة، وهي إظهار شكر وفرح بالمولود، ولم يأمر عند الموت بذبح (عقيقة) بل نهى عن النياحة وإظهار الجزع. فدلت قواعد الشريعة على أنه يحسن في هذا الشهر إظهار الفرح بولادته دون إظهار الحزن فيه بوفاته".
إذن، متى ظهر الاحتفال بمولد النبي؟ ولماذا لم نرَ هذه الاحتفالات في صدر الإسلام؟
ولد الهدى فالكائنات ضياء
لا يوجد إجماع على اليوم الذي ولد فيه النبي محمد صلى الله عليه وسلم، إذ إن غالبية علماء أهل السنة، يقولون إن مولده كان يوم 12 من شهر ربيع الأول، معتمدين على مصادر مثل سيرة بن هشام، التي تؤكد أن مولده كان في عام الفيل، يوم 12 من شهر ربيع الأول. أما البلاذري، فقد ذكر في كتابه "أنساب الأشراف" عدّة أيام، حيث قال: "وكان مولد رسول الله في عام الفيل، يوم الإثنين لعشر ليال خلون من شهر ربيع الأول، ويقال لليلتين خلتا منه، ويقال لاثنتي عشرة ليلة خلت منه".
أما غالبية علماء الشيعة فيؤكدون أن مولده كان يوم 17 من شهر ربيع الأول، من بينهم العلامة المجلسي، في عمله الضخم "بحار الأنوار"، حيث يقول: "إن الذين أدركناهم من العلماء كان عملهم على أن ولادته المقدسة صلوات الله عليه أشرقت أنوارها يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الأول في عام الفيل".
إذن، فالمجمع عليه أن النبي ولد في شهر ربيع الأول، من عام الفيل، الذي سيصبح بسبب هذا الاختلاف شهرًا كاملاً من الاحتفالات.
لماذا لم يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في صدر الإسلام؟
تعود مسألة شرعية الاحتفال بالمولد النبوي إلى واجهة النقاش العام في مختلف الدول الإسلامية، وخصوصًا على مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة، مع دخول شهر ربيع الأول. وفي كل مرة يتجدد فيها النقاش يظهر هذا السؤال: إذا كان الاحتفال بمولد النبوي أمر أجازه الشرع، فلماذا لم يحتفل المسلمون بالمولد النبوي في صدر الإسلام؟
للإجابة على هذا السؤال، يجب علينا في البداية تشريح "صدر الإسلام" إلى ثلاث حقب تاريخية؛ الأولى هي عهد الخلافة الراشدة، والثانية الدولة الأموية، والثالثة والأخيرة دولة بني العباس.
أما عهد الخلافة الراشدة، فنرى أنه كان عهدًا قريبًا من حياة النبي، حيث إن الغالبية العظمى في هذا العهد كانت قد رأت النبي، وصحبوه في غزواته، وشهدوا معه مختلف الأحداث. ولقرب هذا العهد من حياة النبي، لم تظهر الحاجة أو الرغبة في إحياء ذكرى مولده الشريف.
إضافةً إلى ما سبق، هناك أيضًا التحديات التي واجهها الصحابة منذ اليوم الأول من وفاة النبي، والتي جعلتهم منشغلين بشكل كلي في الحفاظ على الدولة الوليدة بعد وفاة مؤسسها وبدء موجة ارتداد واسعة بين العرب، لدرجة أن معظم القبائل ارتدت، باستثناء المدينة ومكة والطائف. ثم جاءت بعد ذلك مرحلة الفتوحات، والتي استمرت حتى ولاية الخليفة الثالث عثمان بن عفان.
أما الشاغل الثالث، فقد كانت الحروب الأهلية التي وقعت أحداثها بين المسلمين بعد الفتنة التي أعقبت مقتل عثمان بن عفان عام 35 هـ، وظلت قائمة حتى صالح الحسن بن علي معاوية بن أبي سفيان، وسلم له أمر الخلافة عام 41 هـ.
تختلف الأسباب في عهد الدولة الأموية، التي كانت تعاني من "هشاشة شرعيتها" مقارنةً بالبيت النبوي "الهاشمي". ولذلك، كانت في صراع دائم مع الهاشميين، منشغلةً بالقضاء على أي شكل من أشكال الثورة أو التمرد من جانب بني هاشم، أبرزها ثورة سبط النبي الحسين بن علي بن أبي طالب.
تقول بثينة بن حسين، في كتابها "الدولة الأموية ومقوماتها الأيديولوجية والاجتماعية"، إن ثورة الحسين بن علي كانت تضعف الشرعية التاريخية الأموية الهشة لأنهم الطلقاء، الذين دخلوا في الإسلام حينما أصبح ذلك ضرورة لا بد منها، بينما ينتمي الحسين إلى آل بيت الرسول. وتؤكد في موضع آخر من الكتاب أن الخلفاء الأمويين عتّموا على الرسول وسنته، ولم يذكروه في خُطبهم.
وتذكر بعض كتب التاريخ، أن سب ولعن علي بن أبي طالب على منابر الدولة الأموية كان معمولًا به وسنّة من السنن منذ بداية الدولة في عهد معاوية بن أبي سفيان 41 هـ، وحتى قرار عمر بن عبد العزيز وقف هذا الأمر حين ولي أمر الخلافة سنة 99.
إذن، كيف لدولة تصرفت مثل هذه التصرفات مع آل بيت النبي، أن تقوم بالاحتفال بمولده؟ فمع هشاشة شرعية دولة بني أمية، كان هناك ربما اعتقاد بأن الاحتفال بذكرى مولد النبوي قد يجعل المسلمين ينظرون إلى بيت نبيهم على أنهم الأحق بأمر الخلافة منهم، وقد يؤدي هذا إلى انتفاضات أو ثورات ضد الدولة، التي كانت تعاني منها بالفعل حتى نهايتها عام 132 هـ.
أما بالنسبة إلى الدولة العباسية، فقد رأى حكّاكها أن العلويين - أولاد عمومتهم، هم المنافس الأول لدولتهم، ولذلك مارسوا الأسلوب الأموي نفسه، من سجن ومراقبة وقتل أي فرد علوي - أي يرجع نسبه إلى علي بن أبي طالب - قد يشك في أنه يعمل على محاربة دولتهم.
يذكر لنا كتاب "مقاتل الطالبيين" لأبي الفرج الأصفهاني، عدد ضخمًا من العلويين الذين قُتلوا على يد الدولة العباسية، سواء بالسم، أو في الحبس، أو بعد ثورة انتهت بمقتل صاحبها والقضاء عليها.
ومن أبرز تلك الثورات ثورة محمد بن عبد الله، المُلقَّب بـ"النَّفس الزكيَّة"، في عهد الخليفة أبو جعفر المنصور سنة 145 هـ، وثورة الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن في عهد الخليفة موسى الهادي سنة 196 هـ، وكتب للثنائي الفشل وقُتلا مع أتباعهما بلا رحمة.
ثمة إذن عدة أسباب لعدم وجود فكرة الاحتفال بذكرى المولد النبوي، تختلف باختلاف العصر والدولة، لكننا نجد أن هو نفسه تقريبًا في عهدي الأمويين والعباسيين، وهو الخوف من تقوية شوكة العلويين، خصوصًا أنهم اكتسبوا على مرور الزمن أنصارًا في كل الإمبراطورية الإسلامية.
الفاطميون والمولد النبوي
اهتمت الدولة الفاطمية بالأعياد التي كانت من أبرز معالمها على الإطلاق، وذلك وفقًا لما نقلته كتب التاريخ من تفاصيل خاصة بتلك الأعياد التي اتسمت بالفخامة والبذخ والإسراف.
وقد أرجع المؤرخ المملوكي ابن ترغي بردي، في كتابه "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة"، هذه الاحتفالات إلى الخليفة الفاطمي المعزّ لدين الله، حيث قال: "والمعزّ هذا هو الذي استسنّ ذلك كلّه".
عرفت الدولة الفاطمية عددًا كبيرًا من الأعياد على مدار السنة السنة، وكان من أهمها رأس السنة الهجرية، وعيد الفطر، وعيد النحر "الأضحى"، ويوم عاشوراء، ومولد النبي صلى الله عليه وسلم، ومولد السيدة فاطمة، ومولد علي بن أبي طالب، ومولد الحسن بن علي، ومولد الحسين بن علي، ومولد الخليفة الفاطمي الحاضر، وموسم شهر رمضان، وليلة النصف من شعبان، وغيرها من الأعياد والمواسم الأخرى.
لماذا كل هذا الاهتمام بالأعياد والمواسم؟
مع نشأة الدولة الفاطمية سنة 297 هـ، نشأ معها إشكال يتمثل في حقيقة نسب الخلفاء الفاطميين، والتي ما زالت تثير جدلًا حتى الآن.
يَنسب الفاطميون أنفسهم إلى إسماعيل بن جعفر الصَّادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ولذلك لقبوا بـ"الإسماعيلية" نسبةً إلى إسماعيل. وبحسب ما جاء في كتاب المؤرخ العلاّمة تقي الدين المقريزي "المواعظ والاعتبار"، انقسم الناس إلى فريقين حول حقيقة هذا النسب؛ فريق يثبت صحة ذلك الادعاء، وآخر ينفيه بشدة.
كانت دولة بني العباس من الفريق الذي حاول نفي هذا النسب عن خلفاء الدولة الفاطمية، لأن الأخيرة تمكنت من السيطرة على رقعة واسعة من الأراضي التي كانت تسيطر عليها الدولة العباسية، مثل مصر، والمغرب والشام، والحرمين واليمن.
ولذلك استخدم الخلفاء العباسيون فكرة الطعن في نسب الخلفاء الفاطميين كسلاح ضدهم، مثل المحضر الشهير الذي ذكره الإمام الذهبي في ترجمة الخليفة العباسي القادر بالله في كتابه "سير أعلام النبلاء" عام 402 هـ، حيث جمع عددًا من العلماء والقضاة، وأمر بعمل محضر – أي وثيقة مكتوبة - يتضمن التشكيك في نسب الفاطميين، وإرجاع نسبهم إلى شخص يهودي، ونفي نسبهم عن علي بن أبي طالب.
في وسط هذه الظروف، كانت الأعياد والمواسم شديدة الأهمية بالنسبة إلى الفاطميين لأنها ستثبت لأعدائهم أنها دولة تتمتع بإمكانيات اقتصادية قوية، إذ كانت الاحتفالات بهذه الأعياد مكلفة للغاية. كما ستحاول الدولة من خلال تلك الأعياد استمالة العامة إليها نظرًا لحب العامة الكبير لأهل بيت النبي، بالإضافة إلى شراء ولائهم على اعتبار أن تلك الاحتفالات كانت تضم ولائم ضخمة وأموالًا كانت توزع بينهم.
الدولة الفاطمية واحتفالات المولد النبوي
الدولة الفاطمية أول من احتفل بالمولد النبوي. فبعد أن استقرت في مصر وبنت القاهرة عاصمةً لها، صار من الأعياد الجليلة عندها لدرجة أن الخليفة كان يحرص على أن يحضر بنفسه احتفالات الدولة بهذا اليوم.
وثقت كتب التاريخ صورًا مختلفة للاحتفالات والاستعدادات بالمولد النبوي خلال فترة قيام دولة الفاطميين، مثل استعداد قصر الخلافة لتجهيز الطعام والحلوى، وحملها إلى الناس، وكانت الدار المسؤولة عن ذلك تدعى "دار الفطرة"، وهي المسؤولة عن تحضير السكر، والعسل، والزعفران، والطيب، والدقيق، وكل المواد المطلوبة لعمل الطعام والحلوى.
كانت تلك الأطعمة والحلوى توزع على جميع الناس على اختلاف طبقاتهم ومنازلهم أيضًا. يقول المقريزي في "المواعظ والاعتبار"، ما نصه: "فيفرق جميع ذلك في جميع الناس، الخاص والعام، على قدر منازلهم". كما كان يتم توزيع المال على سبيل الصدقة التي حدد ابن المأمون، في كتابه "أخبار مصر"، قيمتها بستة آلاف درهم سنة 517 هـ.
يذكر لنا ابن الطوير في كتابه "نزهة المقلتين في أخبار الدولتين"، وبشيء من التفصيل، طقوس الاحتفال الرسمي للمولد النبوي. يبدأ الاحتفال بعد صلاة الظهر بتوجه كبار الدولة، وعلى رأسهم قاضي القضاة، إلى الجامع الأزهر لسماع ختم القرآن الكريم. ثم يتوجهون إلى قصر الخلافة لرؤية الخليفة، الذي يظهر خلف إحدى "النوافذ" بوجهه فقط. يلي ذلك تلاوة لبعض آيات القرآن الكريم، ثم إقامة خطب في مساجد القاهرة بمناسبة المولد النبوي الشريف، تتناول سيرته ومعجزاته. تنتهي الخطبة بالدعاء للخليفة، ثم تغلق النافذة التي كان الخليفة يطل منها، لينتهي الاحتفال وينصرف الجميع.
اكتفت المصادر بذكر الاحتفالات الرسمية فقط للمولد النبوي، ولم توثق لنا أي جانب من جوانب الاحتفالات الشعبية، التي نستطيع بحكم المنطق تأكيد وجودها، ونتخيل أن تكون حاضرة في أسواق المدينة المختلفة، وخصوصًا سوق الحلاويين، الذي يؤكد المقريزي أنه كان يستعد للمواسم بالزينة والحلوى التي يتم صنعها بأشكال مختلفة يُحَيّر الناظر حسنها، بالإضافة إلى صنع الحلوى على شكل الحيوانات مثل الخيول والقطط والسباع، وكانت تسمى "العلاليق" لأنها كانت ترفع بالخيوط على أبواب المحلات.
لم تكن الاحتفالات بالمولد النبوي مستمرة طوال الخلافة الفاطمية، إذ توقفت أكثر من مرة لعدة أسباب، مثل إبطال الوزير الأفضل بن بدر الجمالي الاحتفال بعدد من الموالد، من بينها المولد النبوي، لفترة زمنية طويلة لدرجة أنه نسي ذكرها، لترجع مرة أخرى في عهد الخليفة الآمر بأحكام الله سنة 517 هـ.
المولد النبوي واحتفالاته خلال الدولة الأيوبية والمملوكية والعثمانية
بعد سقوط الدولة الفاطمية عام 567 هـ، عادت مصر مرة أخرى إلى حكم أهل السنة بفضل آخر وزير فاطمي، وهو صلاح الدين الأيوبي، الذي ما إن ثّبت أقدامه ورسّخ حكمه في مصر، حتى بدأ بطمس ملامح ومعالم الفاطميين، ومن أبرزها أعيادهم.
يؤكد لنا أبو شامة المقدسي في كتابه "الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية" أن صلاح الدين أبطل "حيّ على خير الْعَمَل" التي كانت موجودة في الأذان. وبعد أن كان يوم عاشوراء من أبرز أيام الحزن والبكاء عند الفاطميين، صار عيدًا تُقام فيه الاحتفالات ويتسم بالفرح.
كما أُلغيت العديد من الأعياد الأخرى، مثل عيد الغدير الذي يعتبر من أبرز أعياد الطائفة الشيعية، بينما قُلّصت الاحتفالات في أعياد مثل المولد النبوي. لكن تلك الاحتفالات لم تلغَ نهائيًا كما يشاع على أن الدولة الأيوبية ألغت كافة الأعياد الفاطمية.
يؤكد جلال الدين السيوطي في كتابه "الحاوي للفتاوي"، أن صاحب مدينة إربل في عهد صلاح الدين الأيوبي، مظفر الدين أبو سعيد كوكبري، كان يحتفل بالمولد النبوي احتفالات عظيمة تضمنت آلاف الخراف المشوية والدجاج، إلى جانب صحون الحلوى. وكان المولد عنده مقتصرًا على العلماء والصوفية فقط، وبلغت جملة مصاريف هذه الاحتفالات حوالي 300 ألف دينار.
أما سبب هذا التقليص، فيعود إلى سببين؛ الأول، هو القضاء على مظاهر ومعالم الفاطميين كما قلنا. والثاني هو اقتصادي، حيث إن تلك الاحتفالات كانت مكلفة للغاية خاصةً في ظل الخطر الذي يهدّد الدولة الأيوبية والمتمثّل في الحروب الصليبية، ولذلك كان تجهيز الجيش هو الأولوية عند قادة الدولة.
أما دولة المماليك، فقد اهتمت اهتمامًا بالغًا بالمولد النبوي والأعياد الأخرى، سواء الدينية أو غيرها. وقد شجعهم على ذلك، كما يقول سعيد عاشور في كتابه "المجتمع المصري عصر سلاطين المماليك"، وفرة المال والثروة.
ووفقًا لكتب التاريخ، شهدت الاحتفالات بالمولد النبوي، والأعياد الأخرى، طفرة كبيرة خلال عهد المماليك، لدرجة أن السلطان كان يحضر بنفسه تلك الاحتفالات في خيمة المولد، والتي وصفها المؤرخ ابن إياس في كتابه "بدائع الزهور في وقائع الدهور" بأنها "من جملة عجائب الدنيا". وكان السلطان قايتباي أول من أمر بصنع هذه الخيمة. وتبدأ الاحتفالات بالمولد بعد صلاة الظهر، ويحضرها مع السلطان شيخ الإسلام، وقضاة المذاهب الأربعة، وبعض الشيوخ وعلماء الصوفية.
يبدأ الاحتفال بتلاوة القرآن، ثم يبدأ تقديم الطعام بعد صلاة المغرب بمختلف ألوانه، وغالبًا ما كان يتميز بالتنوع والفخامة والكثرة. وبعد ذلك، تبدأ فترة الإنشاد، فيمدحون النبي حتى بعد منتصف الليل، قبل أن يفرّق السلطان على الحاضرين أكياس الذهب احتفالًا بهذا اليوم الجليل.
أما الاحتفالات بالمولد الشعبية، فيؤكد قاسم عبده قاسم في كتابه "عصر سلاطين المماليك" أن العامة كانت تحتفل بالمولد النبوي على طريقتها الخاصة، إما داخل منازلهم أو أمامها في الشارع. تبدأ تلك الاحتفالات بتلاوة القرآن، ثم يبدأ بعد ذلك الغناء وإنشاد القصائد في مدح النبي وتوزيع الحلوى فيما بينهم والهدايا.
ويعود هذا التنوع في الاحتفالات، بحسب ما ذكره فاروق أحمد مصطفى في كتابه "الموالد: دراسة للعادات والتقاليد الشعبية في مصر"، إلى أن مصر كانت في ذلك الوقت، القرن السابع الهجري، تحتضن عددًا كبيرًا من شيوخ الصوفية، مثل أبي الحسن الشاذُلي، وأبي العباس المرسي، والسيد أحمد البدوي؛ الذين تمكنوا من نشر تعاليمهم وأفكارهم في مصر، وتقرب إليهم سلاطين المماليك، ورحبوا بهم بحفاوة.
مع كل هذه العوامل، أصبحت الموالد في عهد دولة المماليك راسخة في وجدان أهل مصر، وكان ذلك برعاية طبقة المماليك الذين استخدموا تلك الاحتفالات وقربهم من طبقة العلماء والصوفية، لتحسين صورتهم أمام الشعب وكسب ودهم.
وبإعدام آخر سلاطين المماليك الشراكسة، السلطان طومان باي، بعد هزيمة جيوش الدولة العثمانية لجيوش المماليك، على باب زويلة سنة 923 هـ، أصبحت مصر ولاية تابعة للدولة العثمانية. وفي العام نفسه، يذكر ابن إياس في كتابه بدائع الزهور، أن القاهرة لم تحتفل بذكرى المولد النبوي بسبب الأحداث الجارية، وقال إن السلطان سليم بعد دخوله القلعة، رأى خيمة المولد وقرر أن يبيعها بـ400 دينار بعد تقطيعها إلى ستائر.
هاجم ابن إياس، بشكل مبطن، قرار السلطان سليم ببيع الخيمة من خلال استعراضه ما يميزها، وقوله إنها من جملة عجائب الدنيا، ولم يُصنع مثلها أبدًا. كما قال إن مصروفها كان يصل في عهد الأشرف قايتباي إلى 30 ألف دينار، وكانت من أبرز معالم دولة المماليك. وتحسّر ابن إياس عليها لأنها بيعت بأبخس الأثمان، ولم يعرف السلطان سليم قيمتها، وفقدتها الملوك من بعده.
ومع أن المراسم والاحتفالات عادت إلى طبيعتها سنة 924، إلا أنها كانت متواضعة ولم يشعر به أحد من الناس بحسب وصف ابن إياس، الذي قال إنه لا يمكن المقارنة بينها وبين تلك التي كانت تُقام في عهد المماليك.
ومع مرور السنين، بدأت الاحتفالات بالمولد النبوي تعود مرة أخرى، لكن ليس بمثل قوة الاحتفالات في عهد الدولة المملوكية بالطبع. في ذلك الوقت، أصبحت هناك مظاهر ثابتة عند المصريين للاحتفالات بالأعياد ذكرها الجبرتي كتابه "تاريخ عجائب الآثار في التراجم والأخبار".
قال الجبرتي إنه كان يُطبخ في أيام المواسم، مثل أيام أول رجب، والمعراج، ونصف شعبان، وليالي رمضان، والأعياد، وعاشوراء، والمولد الشريف؛ الأرز باللبن وحلوى الزردة التي كانت تُصنع من الأرز والعسل والزعفران، بالإضافة إلى الكعك المحشو بالسكر، والعجمية، والشريك - وهو نوع من المخبوزات - ويتم توزيعها على المحتاجين والفقراء إلى جانب النقود.
الغزو الفرنسي لمصر وأعياد المسلمين
دخل الجنود الفرنسيون، بقيادة الجنرال نابليون بونابرت، الأراضي المصرية عام 1213 هـ. وخلال فترة وجودهم في مصر، حرصوا بشتى الطرق على كسب ود المصريين ومن بينها حرصهم على إقامة الأعياد، واستمرار الاحتفال بها دون إلغاء أي منها. وذكر الجبرتي في تاريخه أن نابليون احتفل بالمولد النبوي، بل وارتدى في الاحتفال زي المماليك، وأُطلقت حينها الصواريخ الملونة.
وبعد رحيل الجيش الفرنسي، ظلت الاحتفالات كما هي بل وزادت فعالياتها أيضًا وفقًا لما ذكره الجبرتي، وشملت تزيين للأسواق، وكنس ورش الشوارع الرئيسية، وتزيين المحلات بالحرير والرسومات، وتعليق المصابيح في الشوارع ليلًا، وعلى منارات المساجد، مع قراءة القرآن وإنشاد المدائح في النبي، وكانت هذه الاحتفالات تظل لعدة أيام متتالية، وهو ما جرى في عام 1217 هـ، حيث ظلت الاحتفالات بالمولد النبوي مستمرة لمدة 3 ليالٍ، أولها صبح يوم الجمعة وآخرها الأحد، ليلة المولد الشريف.
المولد النبوي في العصر الحديث
ظل الاحتفال بالمولد النبوي قائمًا بعد ذلك، لكن الاهتمام بهذه الاحتفالات بدأ يقل نظرًا لتكلفتها المرتفعة. ففي عهد محمد علي باشا، أشار إدوارد لين في كتابه "عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم" إلى احتفالات المولد عام 1250 هـ، الموافق 1834م، وأوضح أن الانتهاء من التحضيرات للاحتفالات يكون يوم 2 من شهر ربيع الأول، وتستمر حتى ليلة 12 من الشهر وهي الليلة الكبيرة للمولد. ويؤكد لين أن بعض سكان القاهرة كانوا يتوافدون على منطقة الأزبكية ويبيتون فيها هذه الأيام، ذلك أنها المكان الذي كانت تُعقد فيه احتفالات المولد.
الاحتفالات ضمت فقرات للمغنيين والمشعوذين، وأصحاب الحيل، والمهرجين، بالإضافة إلى بائعي الأكل والحلوى، ورقص الغجر على الحبال. وفي منتصف الليل، كان يبدأ مرور موكب الدراويش حاملين عصيّ طويلة عليها رايات تحمل اسم الطريقة الصوفية المنتمين إليها.
إضافةً إلى جلسات الذكر التي كانت تعقد بكثافة في أجزاء متفرقة في المولد، والتي تبدأ بقراءة سورة الفاتحة ثم الصلاة على النبي وآل بيته وأصحابه، ثم يبدأون يتمايلون وهم يلهجون بذكر الله "لا إله إلا الله"، وتستمر هذه الجلسات حتى موعد صلاة الفجر.
موكب الدوسة
يُعد هذا الموكب من أبرز طقوس الاحتفال بالمولد النبوي خلال هذه الفترة. وبحسب ما جاء في كتاب لين، كان شيخ الطريقة السعدية يرأس هذا الموكب راكبًا على حصانه ليدخل به إلى الأزبكية، وحوله موكب ضخم من الدراويش، الذي يبدأ عدد منهم في النوم على الأرض، متلاصقين بجوار بعضهم البعض، ذاكرين الله بصوت مسموع، ثم يبدأ الحصان الذي يحمل شيخ الطريقة بالدوس على هؤلاء الرجال، في مشهد يثير دهشة وخوف الحاضرين.
يؤكد لين أن الأشخاص الذين داستهم حصان الشيخ لم يتعرضوا لأي أذى. لكن يقال أيضًا إن بعضهم أصيب أو مات بسبب هذه الدوسة، وذلك بسبب عدم استعدادهم الجيد لهذه المناسبة، بما في ذلك قراءة الأوراد اللازمة لتحصين أنفسهم. وظل الاحتفال بموكب الدوسة قائمًا حتى عام 1880، في عهد الخديو توفيق الذي أصدر أمرًا بنقل مقر الاحتفال بالمولد النبوي إلى العباسية بدلًا من الأزبكية، وإلغاء موكب الدوسة.
صعايدة يا رسول الله
أما احتفالات المولد النبوي في مصر اليوم، فإن أبرزها وأكبرها احتفالات محافظات الصعيد، مثل الأقصر، وأسوان، وقنا. تحتفل محافظة أسوان بالمولد النبوي بمشاركة الطرق الصوفية ومن خلال تنظيم "زفّة المولد"، وهي مسيرة طويلة تزينها الأعلام والرايات الضخمة المطرزة باسم الطريقة الصوفية، ويشارك فيها أهالي محافظة أسوان الذين قد يصل عددهم إلى الآلاف. ويحرص الأهالي في هذا اليوم على زيارة مقابر الأولياء، وأشهرها الجبانات الفاطمية التي تقع بجوار متحف النوبة.
تتشابه الاحتفالات في قنا مع احتفالات أسوان، لكن ما يميزها هي المسيرات الطويلة وحمل العصا والشوم - وهي عصا طويلة وغليظة - وترديد عبارات مدح النبي، مثل "صعايدة يا رسول الله.. صعايدة وأحباب الله"، وهو إنشاد شائع جدًا في محافظات الصعيد.
تعتبر الموالد مناسبةً للتجمعات وعقد الصفقات بين التجار، بل وأيضًا لعقد جلسات الصلح بين الأشخاص المختلفين، وغالبًا ما تنتهي هذه المشاحنات بالصلح بين الطرفين، ويرجع البعض ذلك إلى بركة المولد وصاحبه، أي النبي صلى الله عليه وسلم.
كما تحرص العائلات الكبيرة، وخصوصًا في محافظات الصعيد، على تقديم ولائم ضخمة للجميع تُقدّم فيها اللحوم، والأرز، والفاكهة، وكذلك الحلوى مثل الأرز باللبن. ونظرًا لظروفهم الاقتصادية الصعبة، يحضر الفقراء هذه الولائم لتناول اللحوم، التي لا تسمح لهم ظروفهم الاقتصادية بشرائها، ولذلك يعتبرون الاحتفال بالمولد النبوي مثله مثل عيد الأضحى، موسمًا لتناول اللحوم.
أما الطعام الذي يُقدَّم، فإنه يختلف باختلاف المدينة أو المحافظة. فعلى سبيل المثال، يُقدِّم أهالي الإسكندرية مشروبًا شائعًا للغاية عندهم وهو شربات الورد بالموز، وهو من المشروبات الخاصة بالمحافظة. وفي يوم المولد النبوي، يحرص الجميع على تقديم هذا المشروب للمارة في الشارع.












