الحديث عن رمزية المخزن هو كشف لجوهر سلطته وأسلوب حكمه

"المخزن" في المغرب.. ثعبان بحر غير قابل للحجز

29 مايو 2025

لا تزال طبيعة النظام السياسي في المغرب توصف بـ"المخزن" إلى يومنا هذا في كثير من السياقات. وشكّل مصطلح "المخزن" لغزًا سياسيًا مركبًا، مما دفع البعض بتشبيهه بـ"ثعبان البحر غير القابل للحجز".

بل ذهبت التوصيفات الشعبية أبعد من ذلك، في محاولتها للقبض على جمرة ماهية هذا "المخزن"، إلى مقارنته بالطوفان والنار؛ هذا الثلاثي القهار الذي تفُوق سلطته كل سطلة، والذي يجعل الأفراد عاجزين أمام صولته.

في تصور هؤلاء المغاربة البسطاء، قبل أن نسبر أغوار طروحات المؤرخين والباحثين في علمي السياسة والاجتماع، يرمز هذا "المخزن" إلى الأعلى. يقال في الرأي الدّارج المغربي عن الفرد الذي أصبح في خدمة المخزن والدولة، إنه "اطْلَعْ"، أي أنه صعد.

بذلك يكون "المخزن" الدرجة العليا في تصوّر لهرمية العالم الخارجي، ولا تكتسب كل شريحة داخل هذا التصور مقدارها من السلطة إلا بمدى اقترابها أو ابتعادها عن "المخزن". هو تمثل شعبي ليس صدفة على كل حال، وهو ما يجعل مصطلح "المخزن" من أكثر المصطلحات إثارة للأسئلة في تاريخ المغرب. فمن يكون حقا هذا "المخزن"؟

بداهة معجمية وتعقد دلالي

لا بد من التأكيد مرة أخرى، أن مصطلح "المخزن" من المفاهيم الكثيرة التداول في الخطاب السياسي والتاريخي بالمغرب، الشيء الذي يجعله مثار جدل نظري حول ماهيته وكنهه ووظائفه وطبيعة حضوره. ويعزى هذا الجدل في المقام الأول إلى بداهة مضمونه المعجمي، مقابل تعقّد حمولاته ودلالاته وتشابكهما في القاموس السياسي المغربي.

ينبّه المؤرخ محمد جادور، في كتابه "المخزن، المؤسسة وأشكال الحضور"، إلى أن "مفهوم المخزن تضمّن معاني كثيرة يعصب اختزالها في صفة معيّنة، لا تراعي الجوانب الأخرى المُشكّلة لبنيته؛ لأن أي تحليل أحادي المنظور لن يفضي إلا إلى التعسّف عليه، وتشويه مضامينه".

في هذا السياق، حاولت بعض القراءات أن تنطلق من الحمولة اللغوية لمفهوم "المخزن"، بهدف الربط بين ماهيته ووظيفته؛ إذ إن لفظ مخزن استُعمل لنعت مستودع محلي تُخزّن فيه الأموال الموجهة إلى بيت مال الأمة الإسلامية، ثم اقتصر في مرحلة ثانية على التعبير عن خزينة المغرب عندما ظهرت مستقلة مع الدول الأمازيغية التي حكمت البلاد، ثم أخذ مع الدولتين السعدية والعلوية دلالة إدارية (تشمل كل الجهاز الإداري الذي يعيش من أموال الخزينة).

يرى المؤرخ محمد جادور أن "هذه القراءات استثمرت البنية الدلالية للمخزن الغنية التي توحي بعدة تأويلات، لاستنباط تصورات تمُسّ بشكل أو بآخر جانبًا من وظائفه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والإدارية، مما أسقطها في معضلة الاختزال.

هذا الاختزال، وفق جادور دائمًا، أفقد مؤسسة المخزن وحدتها المفاهيمية، التي تتجاوز أبعادها كل الوظائف السابقة لتمتد إلى ما هو ثقافي وديني، وإلى كل مجال يتداخل فيه حضورها ماديًا ورمزيًا.

تكوين سيرورتي وطابع متفرد

ترى بعض الدراسات التاريخية، أنه من غير المفيد جدًا مقاربة مفهوم "المخزن" عبر الجهاز المفاهيمي الدقيق للعلوم الاجتماعية، على اعتبار أنه ليس مفهومًا اقتصاديًا مقتبسًا من نظام السوق ورأس المال، أو مقولة سياسية أو اجتماعية تُدرك عبر الدولة والسلطة والطبقة السياسية.

يلفت المؤرخ الطيب بياض، في كتابه "المخزن والضريبة والاستعمار"، إلى أن "ما زاد اللفظ التباسًا هو كونه لم يمثل تعبيرًا عن نظام وليد فترة مخاض محدّدة أفرزت تحولات معينة، بل يشكل إحالة إلى تنظيم سياسي اجتماعي ضارب في أعماق الأمة المغربية، يستمد مقومات وجوده وضمان استمراريته من استيعابه لمختلف المكونات السوسيو-ثقافية والسياسية لهذه الأمة".

لهذا، فالمخزن، في نظر بياض هو "شكل الحكم وهيكله وآلياته، ظهرت نواته الأولى في وقت مبكر من تاريخ المغرب، وتفاعلت مع مختلف المكونات السوسيو-ثقافية والسياسية للبلاد، فعملت هذه الأخيرة على استنبات وإفراز باقي العناصر المُهيكِلة له حسب ما أملته شروط التطور التاريخي".

يبدو المخزن من خلال هذه القراءة، أنه ذو تكوين سيرورتي. لذلك كان لابد من إدراك مسوّغات حكمه التي تشكّلت جدليا مع الزمن، وتكاملت عناصرها التي أضفت عليه طابع التفرد العسير على الفهم إلى يوم الناس هذا، رغم كل القراءات التي أفرزتها الدّراسات والأبحاث. 

أداة "تسلّط" إداري

على رأس الدراسات المُنجزة حول "المخزن"، وحول طبيعة البنيات الثقافية والسياسية والاجتماعية للمجتمع المغربي بشكل عام، تبرز "الطروحات" الكولونيالية، وبشكل خاص تأويلات المستكشف الفرنسي "إدوارد ميشو بلير"، الذي شكلت مؤسسة المخزن، ومؤسسة القبيلة، ومؤسسة الزاوية، محور أعماله.

هذا المستكشف الفرنسي، الذي عاش بين المغاربة حوالي نصف قرن، أسند إلى المؤسسات المذكورة أدوارا ووظائف في خلاصات نظرية مثيرة تخدم طبعا الإيديولوجية الاستعمارية؛ خصوصًا عندما اعتبر أن "مؤسسة المخزن استبدادية مرتبطة بالمشرق العربي، ومؤسسة القبيلة في حالة فوضى دائمة".

هي قراءة كولونيالية، تُظهر المخزن باعتباره أداة تسلّط إداري تشتغل داخل فوضى اجتماعية بواسطة هذه الفوضى. وقد تحمّس الباحث الأمريكي جون واتربوري كثيرًا لما أورده بلير قبله بسنوات بخصوص المخزن، فحشد في كتابه "أمير المؤمنين.. الملكية والنخبة السياسية المغربية"، معلومات لم يكن يهمه التأكد من صحتها لإثبات فكرة نظرية كان يريد الانتصار لها.

يقول واتربوري في الكتاب (ترجمة عبد الغني أبو العزم، عبد الأحد السبتي، عبد اللطيف الفلق): "لم يكن هناك في سنة 1912 فارق بين التنظيم السياسي للدولة العلوية والنظام الذي بناه السلطان الكبير مولاي إسماعيل في القرن 17. ولم يطرأ أي تغيير على النظام، لأن المشاكل الداخلية ظلت على حالها، تتلخص في جباية الضرائب، وتنظيم الجيش، وقمع القبائل".

تفنيد للطّرح الكولونيالي

تصدى لهذا الطرح الانقسامي "الكولونيالي"، عدد من المؤرخين والباحثين المغاربة في العلوم الاجتماعية، على غرار المؤرخ المغربي جرمان عياش، الذي لا يُخفي نفوره من نزوع بعض الباحثين الأجانب إلى المغالاة في إثارة ثنائية "بلاد المخزن/ بلاد السيبة في مسعى منهم لتفنيد حقيقة وجود دولة مُوَحّدة أو أمة متلاحمة، من خلال إضاءتهم على ظاهرة القبائل المتمرّدة على سلطة المخزن المركزي.

جاء في كتاب عياش، "دراسات في تاريخ المغرب"، أنه "عند الحديث عن دولة السلاطين، فإن الجانب الذي لا يغفل الكثيرون عن التركيز عليه، في بادئ الأمر، وهو طابعها القهري. (...) وهذ ما جعل واتربوري، بعد الكثيرين ممن سبقوه، يُعرّف الدولة المغربية أو المخزن كنظيمة راسخة من العنف المستديم". 

لكن المؤرخ المغربي، ينفي أن يكون العنف ميزة المغرب عن باقي الدول التي عرفها التاريخ حتى يومنا هذا في أي جهة من جهات المعمور؛ إذ أن أي دولة، مهما ادعت الليبرالية، لم تتكون ولم تحافظ على بقائها دون أن تستأصل يوميا التناقضات التي تصطدم بها داخل كيانها.

بين وظيفتي التأديب والتحكيم

في سياق مسألة "العنف" هذه، التي استندت عليها الدراسات الكولونيالية بالأساس، يبرز "تقليد" مهم جدًا، يشكل واحدًا من أبعاد حضور "المخزن"، يطلق عليه اسم: "الْحَرْكَة"؛ وهي حملة تأديبية يقوم بها السلطان ضد القبائل لانتزاع الضرائب ولإجبارها على الاعتراف بسلطته السياسية.

في هذا الإطار، يميّز محمد جادور في مُؤَلّفِه "المخزن.. المؤسسة وأشكال الحضور"، بين نوعين من "الْحَرْكَات": أولهما ناتجة عن ردود فعل المخزن ضد حركات التمرّد الداخلية الساعية إلى تزكية قياداتها، وتندرج ضمن ما يسميه جادور مبدأ "تأطير القبائل". وثانيها يتخذ طابعا مؤسساتيا إكراهيًا وإلزاميًا، بغض النظر عن تكاليفها الباهظة وقلة مردوديتها.

غير أن المؤرخ جرمان عياش يرى أن "الْحَرْكات" لم تكن تكتسي بالضرورة طابعًا عدائيًا، إذ أن استعمال العنف كان الخيار الأخير للمخزن بعد استنفاد الوسائل السلمية والدبلوماسية الأخرى. بل إن القبائل، كانت تخصّص للسلطان، في غالب الأحيان، استقبالًا حارًا، تغمرها الغبطة لاستضافة ذلك الذي كان في أعينها شخصية مقدسة.

لهذا، يميل عياش إلى القول بأن دور هذه "الْحَرْكات"، في مبدئه وواقعيته، هي وظيفة "التحكيم" بين القبائل المتنازعة، من أجل المحافظة على تعايش سلمي بين القبائل، وكذلك جعل القبائل نفسها في وضع يمكّنها من الاستفادة هي نفسها من تنظيم شمولي، وتمكينها في الأخير من المحافظة على بقاء كل منها.

توفيق بين موقفين

يستدعي رفض المقولة الكولونيالية، التي تفترض وجود قطيعة متواصلة ومتأصلة بين طرفين متعارضين بنيويًا: وهما المخزن والقبائل، أن لا يقودنا بالضرورة إلى الموقف المضاد، الذي يغالي في التأكيد على عناصر الوحدة داخل المجتمع المغربي، وذلك بإظهار المخزن كرمز للوحدة والانسجام والالتحام داخل هذا المجتمع، كما نلمس ذلك في موقف المؤرخ المغربي جرمان عياش حول "الدور التحكيمي للمخزن".

تؤكد السوسيولوجية المغربية، رحمة بورقية، أن "المخزن كان فعلًا مركزًا، باعتبار أنه في هذا المركز ينتهي تنسيق السلط عن طريق احتكاره للعنف المادي والرمزي، وعن طريق تنسيق التحالفات والانقسامات التي يتميّز بها النظام القبلي".

على هذا الأساس، "لم يكن الانقسام يتعارض مع وجود المخزن كما تقول النظرية الانقسامية، وإنما كان وجود وفعالية المخزن ينتعشان من ذلك الانقسام"، تضيف بورقية في كتابها "الدولة والسلطة والمجتمع".

بل، إن هذه القبائل، وفق الباحثة نفسها، هي التي تحمي المدن الأساسية بجيوش "المخزن"، وهي التي تزوّد "الْحَرْكات" بعدد من الرّماة والفرسان والأعوان، وتتحمّل جلّ تكاليفها من حيث التمويل والتجهيز والتموين، وهي كذلك أهم مصدر لموارد الخزينة العامة للمخزن.

عظمة المخزن في "الْحَرْكات"

توضح رحمة بورقية في كتابها، التي اشتغلت فيه على القبيلة في علاقاتها المفترضة مع المخزن خلال القرن 19، أن "الْحَرْكات" تعدّ رمزا لعظمة السلطان والمخزن، إذ أن التنقل عن طريق "الْحَرْكات" يبيّن البعد الرمزي لهذه الظاهرة، والذي يتجلى في كونها (أي الْحَرْكات) إحدى الطرق لترويج وعرض التفاخر بالرأسمال الرمزي الذي يملكه المخزن.

ثم إن طريقة تنقل المخزن بواسطة "المحلّة" (تمثل مثالًا مصغرًا من البلاط يتنقل بين المناطق لتعزيز الولاء والصلة بين الحكام والرعية)، بحسب بورقية، "تبين لنا جانبًا من جوانب طبيعة علاقة السلطة المركزية بمجالها السياسي في المجتمع المغربي في القرن 19، بل وقد تدلنا على خصوصية المخزن المغربي في ممارسة السلطة على باقي أطراف المجتمع".

سلطة مجالية مرنة 

من هذا المنطلق، بدا أن السلطان المغربي كان له، إلى جانب وزراء وأمناء في عاصمته، عمال ونواب وموكلون في أنحاء البلاد؛ إذ أنه "من شخص السلطان ومن وجود هؤلاء الخُدّام تتكون البنية البشرية للدولة أو ما سمي في تاريخ المغرب بالمخزن"، يكتب المؤرخ مصطفى الشابي، في كتابه "النخبة المخزنية في مغرب القرن 19".

يضيف الشابي أنه من خلال "تنفيذ أوامر السلطان وسلوك أعوانه بوسائلهم وعاداتهم تتكون السياسية المخزنية في مختلف الميادين، وقد كان المخزن جهازًا فعالًا بالرغم مما قد يوصف به من المبالغة في المركزية أو من الطابع الترحالي الذي ليس من الحقيقة إلا ضربًا من المرونة في التعامل مع المجال".

لذلك، يعتبر المؤرخ مصطفى الشابي أن "المجال الترابي للمشروعية المخزنية أوسع بكثير في كل الظروف من المجال الذي يمثله فيه عُمّال دائمون أو من المجال الجبائي. وتتحكم عوامل متعددة في تقلص مجال الحكم المباشر وتمدده، ولكن عددًا من العاملين الاجتماعيين يسهمون في مد خيوط شبكة الولاء والسيادة السلطانية التي ترمز إلى بسط السيادة السياسية على عموم البلاد".

الحواضر ونخبها والمخزن

في خضم هذه الإشارات حول المشروعية المجالية للمخزن، لابد من العودة إلى دراسة رحمة بورقية، وتحديدًا ملاحظاتها حول علاقة الحواضر أو المدن بالمخزن، إذ تؤكد الباحثة السوسيولوجية، في كتابها "الدولة والسلطة والمجتمع"، أن "المدن تشكل المجال الأساسي الذي تتكأ عليه سلطة المخزن، لأن المدينة تكون الأساس الاجتماعي لهذه السلطة، وأهم دعائمها على الصعيد الاقتصادي والإيديولوجي".

تبرز دراسة بورقية أنه "على الرغم من أن "المدينة في تلك الظروف (أي القرن 19) ليست مهمة بشريًا، لأنها لا تضم إلا نسبة ضئيلة من السكان، فإن لها أهمية سياسية لأنها تحتضن مقر السلطان، وبالتالي مقر الجيش، وهي المجال الذي يحتضن أهل الحل والعقد، وجلّ العلماء والفقهاء وشيوخ الزوايا وكبار الملاكين، مما يعطيها أولوية بل وسلطة على القبائل وعلى معظم قياداتها المحلية والجهوية".

حتى أن ما تبرزه الوثائق والنصوص، كون معظم رجال المخزن في مستوى الوزراء وخُدّام القصر من أصل مديني؛ وعلى رأسها مدن فاس ومكناس وتطوان والرباط وسلا، إذ إن هذه "المدن الرئيسية تقدم عناصر اجتماعية وثقافية لها مكانتها في مرجعية التصور المخزني، وفي آليات نجاعة عمله وأسباب تميّزه واستمراره"، يشير المؤرخ مصطفى الشابي.

يستنتج، صاحب "النخبة المخزنية في مغرب القرن 19"، من خلال الوثائق دائمًا "أن بعض العائلات التي حقّقت ارتقاء اجتماعيًا في القرن 19 (وتوصف اليوم بكونها عائلات مخزنية)، إنما استندت في ذلك إلى ثقافتها الحضرية ومهارة أبنائها في الإدارة، بالإضافة إلى النسب القديم أو الإثراء في التجارة".

الأسس الرمزية للمخزن 

من خلال كل هذا، يظهر أن هذه "النخبة المخزنية" على حد وصف الشابي، إلى جانب الشبكات والمؤسسات التي "تدور في فلك السلطان، وتسعى لخدمة مصالحه وتقوية سلطته، تشكل في الأخير ما يسمى المخزن"، يسجل محمد نبيل ملين، في كتابه "السلطان الشريف: الجذور الدينية والسياسية للدولة المخزنية في المغرب".

تابع المُؤَلَّف (ترجمه عبد الحق الزموري وعادل بن عبد الله)، أن خطاب الشرعنة الذي وضعه السلطان الشريف والنخب المرتبطة بالمخزن، "يستدعي شبكة من التمثّلات الأسطورية والتاريخية المستمدة أساسًا من الثقافة الإسلامية، والتي تعكس بعض التجارب التاريخية والثقافية التي مرت بها الأمم الإسلامية وتطلعات النخب السياسية-الدينية".

لذلك، تتحدث رحمة بورقية، عن "الأسس الرمزية للمخزن" وليس "الأسس الإيديولوجية"؛ لأن "كلمة إيديولوجيا اقترنت بحركة اجتماعية فكرية واكبت تطور المجتمع الرأسمالي، ولا تعبّر عن الواقع المغربي". ومن ثمة، "يكون الإسراع نحو امتلاك واحتكار الرموز الهامة من إحدى الشروط للوصول إلى السلطة". وعلى رأس ذلك، يأتي "الشرف" و"البركة".

أبهة وعظمة "مُولْ المْظَلْ"

في سياق الحديث عن الأسس الرمزية للمخزن المغربي، هو حديث بالدرجة الأولى عن آليات ممارسات سلطة المخزن، والتي تعبّر بشكل جلي عن مدى أبهته وعظمته، ودرجة وجوده داخل المجتمع عبر ركائزه الأساسية المادة والرمزية، لأن الفصل بين الجوانب المادية والرمزية للحضور المخزني يبقى فصلا منهجيا ليس إلا.

ينبّه مُؤلِّف كتاب "المخزن.. المؤسسة وأشكال الحضور"، أنه ما دامت "الرمزية باعتبارها شكلًا من أشكال تمظهر السلطة أضحت علامة إيحائية، بحيث لا يتم الاعتراف بهيبة الدولة وبحكمها وبماهيتها وبتصوراتها إلا من منظور رمزي، فإنه من اللازم التذكير بأن الأمر يتعلق بمظاهر ثابتة، وأخرى متغيرة في الزمن".

لهذا "وظف المخزن المغربي خلال العصر الحديث رموزا مختلفة، تجسدت في مظاهر الاحتفالية والبروتوكول، وفي مواكب التنقل السلطانية، وفي البناء والترميم. وظلت جميعها مؤطّرة بنسق الثقافة الإسلامية، وبخاصية البركة التي يستمدها السلطان من نسبه الشريف"، يردف المؤرخ المغربي محمد جادور.

جلي في هذا الإطار، الإشارة إلى "المظلة" التي مثّلت علامة من علامات المخزن أو حضور المخزن المرئية، إذ انبنت عليها هيبته النابعة من رغبته المستمرة في ترسيخ ثقافة التفرد. ولا يزال القول الشعبي الدارج يردّد "مُولْ المْظَلْ" (أي صاحب المظلة)، في إشارة إلى السلطان، خصوصا أن المخزن يصرّ على جعل هذه المظلة شارة تميّزه من الآخرين.

لم تقتصر سيرة المخزن على "المظلة"، بل امتدت لتشمل التقاليد المتعقلة باللباس، والأكل، والأثاث، والأخلاق، وغيرها. على أساس أن ممارسة هذه المهام، لابد من التدرّب عيلها بهدف إتقانها على يد العارفين والعارفات بها.

في كتابه "الفلاح المدافع عن العرش" (ترجمة محمد الشيخ)، يشدد ريمي لوفو (من أهم الخبراء الفرنسيين الذين درسوا الوضعية السياسية والاجتماعية المغربية)، على أن تحليل النظام المخزني يعدّ عملًا دقيقًا، ويستوجب الانتباه إلى المظاهر التي لها وزنها الكبير، كما هو الشأن بالنسبة لما يسميه بـ"مجتمع البلاط".

كتب لوفو أنه "منذ النظرة الأولى تبدو الاستمرارية واضحة وضوح الشمس عبر المعيش اليومي للناس وحتى فيما يتعلق بحياة الملك. وكما كان عليه الأمر في القرن 19، فإن دخلة الملك في أي مكان عمومي، كان الإعلان عنها يتم من لدن زمرة من الخدام الذين يتحركون بهمة، ويرتدون زي الكندورة البيضاء والبلاغي، وهم يهتفون بدعوات بالبركة الإلهية للملك".

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

أشكال الجنس والزواج عند العرب.. الغريزة تحت الوصاية

تاريخ مشتبك من أشكال الزواج والعلاقات الجنسية وتحوُّلاتها عند العرب، في الجاهلية وبعد الإسلام، وصولًا إلى العصر الحديث

2

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

3

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

4

لقد تقاسموا العالم.. أغنية حزينة عن ماما أفريكا

تاريخ إفريقيا في العصر الحديث هو تاريخ نهب ثرواتها، يرصد هذا المقال مأساة إفريقيا منذ عهد جيوش الاستعمار إلى عهد الشركات العملاقة

5

من الأنقاض إلى الخوارزميات.. سوريا تعيد بناء ذاتها رقميًا

تمثل البيانات الضخمة فرصة، إذا واتتها الظروف التقنية واللوجستية المناسبة، لإنجاز كثير من المهام الكبرى في مرحلة إعادة إعمار سوريا، وإزالة آثار عقد ونصف من الحرب والشتات

اقرأ/ي أيضًا

الزواج والجنس، تاريخ من الاشتباك الاجتماعي والاقتصادي في المجتمعات العربية

أشكال الجنس والزواج عند العرب.. الغريزة تحت الوصاية

تاريخ مشتبك من أشكال الزواج والعلاقات الجنسية وتحوُّلاتها عند العرب، في الجاهلية وبعد الإسلام، وصولًا إلى العصر الحديث

كريم مرزوقي

الألعاب القديمة
الألعاب القديمة

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

حسام هلالي

النقود

تاريخ موجز للنقود.. من أوعية الملح إلى سلاسل البلوكتشين

كان الناس يثقون في الطين الذي يرمز إلى الشعير. ثم في الملح، ثم في الذهب، ثم انتقل إلى النقود المعدنية المزخرفة، ثم الأوراق النقدية التي تطبعها الدولة

حسن زايد

الكسكسي المغربي

قبل أن يصبح الكسكس أيقونة.. كيف تفاوضت المائدة المغربية مع المجاعات؟

لعبت المجاعات والكوارث الطبيعية دورًا محوريًا في تشكيل الذوق الغذائي للمغاربة، بعيدًا عن الصورة الرومانسية المروّجة عن "الكسكس" و"الأتاي" كرموز ثقافية فقط

عبد المومن محو

جواز

الجغرافيا ليست كما تراها.. حين يرسم جواز السفر خريطة أخرى

سيُصاب كثير من المسافرين بخيبة أملٍ كبيرة، حين يتحوّل جواز السفر من وثيقة عبور إلى تهمة يُجبَر صاحبها على حملها

فريق التحرير

المزيد من الكاتب

عبد المومن محو

صحافي مغربي

مستشفى على ظهر دبابة.. سيرة الطب الحديث في المغرب

لم يُدِرْ الأوروبيون يومًا ظهرهم للمغرب، بل ظلت أعينهم تراقب هذا البلد الشمال إفريقي المطل على ساحلي البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي من خلال مستكشفين

"الحاج فرانكو" وجنوده المغاربة.. من تطوان إلى مدريد في الحرب الأهلية الإسبانية

أخفى الخطاب الإسباني التبسيطي أن المغاربة الذين قاتلوا إلى جانب فرانكو في الحرب الأهلية جُنِّدوا قسرًا، بل وكانوا ضحايا الاستعمار الإسباني للمغرب

الإسلام المغربي في إفريقيا.. جسور روحية من فاس إلى تمبكتو

عمل المغرب على نشر الإسلام الصوفي في دول غرب إفريقيا، مما جعل الزوايا والطرق الصوفية مع الوقت فاعلًا رئيسيًا في استمرارية الروابط الروحية والثقافية بينه وبين عدة دول إفريقية

التجربة الحزبية في المغرب.. سيرة التفكك والانشقاق

كيف تحولت الزاوية الدينية من أداة للتعبئة السياسية إلى نواة لتأسيس الأحزاب؟ وكيف أسهمت الدولة في تشكيل مشهد حزبي متعدد لكنه مأزوم بالانشقاقات؟

العدالة الانتقالية في المغرب.. هكذا طويت صفحة الانتهاكات

نصوص الاعتقال السياسي هذه، التي أنجزها أساسًا بعض معتقلي يسار السبعينيات ومعتقلي الانقلابين العسكريين في الفترة نفسها، ظهر في شكل أعمالٍ أدبيةٍ وفنيةٍ

قبل أن يصبح الكسكس أيقونة.. كيف تفاوضت المائدة المغربية مع المجاعات؟

لعبت المجاعات والكوارث الطبيعية دورًا محوريًا في تشكيل الذوق الغذائي للمغاربة، بعيدًا عن الصورة الرومانسية المروّجة عن "الكسكس" و"الأتاي" كرموز ثقافية فقط