الشيخ مصطفى إسماعيل والملك فاروق (ميغازين).

الشيخ مصطفى إسماعيل: حين تمتزج السيرة والتاريخ في شريط كاسيت

17 يونيو 2025

حين نَذكُرُ اسم الشيخ مُصطفى إسماعيل لا نكون بحاجة إلى مزيد تعريف به، فالرجل الذي تَربَّعَ على عرش فن التلاوة في مصر والعالم العربي لأكثر من ثلاثين سنة، ما يزال مُنفردًا بمكانه ومكانته حتى الآن. ولئن كان الشيخ محمد رفعت يُمثل فاتحة فن التلاوة في الذاكرة السماعية الشعبية، المقيدةِ بما وصلنا مِن تسجيلات، فإنّ الشيخ مُصطفى إسماعيل يُمثّل مرحلة نضوج هذا الفنّ، وبلوغِه طورًا مُتقدمًا من متانة البناء وثراء الأساليب وتنوُّعِها، بفضل ما أضفى عليه من خصائصَ أدائية اتّبعه فيها اللاحقون، حتى باتت من أصول الأداء، كترتيب النغم المؤدَّى به، وصياغة الجُمل النغمية الطويلة المقفولة، والعناية بالقفلة بوصفها لحظة الطرب الكُبرى، حتى اختلف شكلُ فنّ التلاوة بَعده عما كان قبله.

مصطفى إسماعيل، المولود في 17 حزيران/يونيه عام 1905، والمتوفى في 26 كانون أول/ديسمبر عام 1978، وبرحلة بين التاريخين امتدّت ثلاثةً وسبعينَ عامًا، ملأ الدنيا وشَغَل الناس، فما زالت تسجيلاته تستحوِذ على مِزاج الملايين وتأسر أسماعهم وقلوبَهم بعد قُرابة خمسة عقود على رحيله. وقد أسعدهم الحظ بوفرة هذه التسجيلات في العقود الثلاثة الأخيرة من حياته، فوصلنا ما يزيد على خمسمئة تسجيل خارجي لسهراته وحفلاته في المساجد والمآتم، تملأ اليوم فضاء الإنترنت بنُسخها الكاملة ومقاطعها المُجتزأة، متمتعةً بطولٍ نسبي يتجاوز مُدد تلاوات مُعظم القراء، وتفاعلٍ جماهيري صاخب صارخ، وثبات نسبي في وتيرة الإبداع من أول التسجيل إلى آخره، قد ينقلب إلى تصاعُد ومن النادر أن يتراجع.

بمجموع هذه الخصائص، باتت حفلات الشيخ مصطفى إسماعيل في التلاوة تضارع حفلات أم كلثوم في الغناء، شعبيةً وشُهرةً وطرَبًا وطلَبًا من الجماهير، وبات الشيخ نجمًا عابرًا للأجيال والفنون بين نجوم الدين والفن والطرب.

وإذا كان الخوض في عبقرية الشيخ أمرًا قد سَبق إليه عشراتُ الكُتاب، وإن لم يستوفُوه، وكان التصدّي لتلاواته بالدرس والتوثيق والتحليل أمرًا يقتضي سنينَ من العمل ومُجلداتٍ من النشر، فإننا سنتوقف اليوم مع تسجيل فريد في مضمونه وظَرفه وجمهوره، والأحاديث التي يمكن أن تتولّد عنه وحولَه. ليس التسجيل لتلاوة هذه المرة، بل لجلسة يقُص فيها الشيخ مصطفى إسماعيل سيرته الذاتية على أصدقائه وزملائه القراء ونخبة من المذيعين ومحبي فن تلاوة القرآن الكريم.

السيرة والتاريخ وكل شيء.. في جلسة صفا

الزمان مساء الجمعة السابع من تشرين أول/أكتوبر عام 1977، وهو تاريخ كان الشيخ مصطفى فيه قد جاوز الثانية والسبعين، وبات أكبر قراء الصف الأول وأسنّهُم، فضلًا عن زعامته الفنية التي حازها قبل ذلك بزمان طويل. وباتت سيرته ورحلته مع فن التلاوة مَقصدًا يبحث عنه كل قارئ وسمّيع ومَعني بهذا الفن، كما صار تكريمه والاحتفاء بمسيرته واجبًا يتحرى قضاءهُ كل ذي صلة بالقرآن وتلاوته وسماعه.

أما المكان فمنزل الحاج حسين فرج بحي حدائق القبة بالقاهرة، وكان حُسين فرج واحدًا من كبار السمّيعة في هذا العصر، اشتهر باستضافة القُراء في منزله وإقامة سهرات التلاوة لهم وتسجيلها، كما اشتهر بحرصه على جمع التسجيلات وإهدائها للسمّيعة ومُحبي القرآن، وفي ثروة التلاوات المتاحة على الإنترنت اليوم تسجيلات لعدد من السهرات في بيته، ومن المؤكد أنّ عددًا أكبر منها خرج من مكتبته، وبفضل جهده في الجمع والنشر والتوثيق.

وأما ظرف الجلسة فلا يبدو واضحًا من بداية التسجيل، ولكننا نتبين من مقدمة المُذيع أنها أقيمَت إعدادًا وتحضيرًا لحلقة مِن برنامج (لقاء الجُمعة) الذي كان يُبث على موجات إذاعة القرآن الكريم القاهرية، ويُفهَم من كلامه اللاحق في سياق الحوار أنّ مادّة الحلقة قد أُخذَت من هذا التسجيل.

وأما جمهور الجلسة فجمعٌ حافلٌ من قراء القرآن الكريم، على رأسهم الشيخ محمود علي البنا (1926-1985) الذي نسمع مُداخلاته ومُداعباته في مواضع كثيرة من التسجيل، وبعضُ أبناء القراء الراحلين والأحياء، وبعض المُذيعين وخواصّ السمّيعة الذين كان بيتُ الحاج حُسين فرج كعبَتهُم ومزارَهُم من أجل لقاء القراء وسماعهم. 

امتدّت السهرة ساعتين واثنتين وأربعين دقيقة، ذهبَ نصفُ الساعة الأولى منها في تقديمات ثلاثة مُذيعين على التعاقب، أولهم الدكتور عبد الخالق عبد الوهاب مقدم برنامج (لقاء الجمعة)، وبرنامج (من تسجيلاتنا الخارجية) الذي ظل يُذيع تلاوات المحافل حتى عهدٍ قريب، ثم الدكتور كامل البوهي مدير إذاعة القرآن الكريم القاهرية وأحد مؤسسيها سنة 1964، وأخيرًا الأستاذ عبد البديع قمحاوي صاحب الباع الطويل في تعليم اللغة العربية.

وبانتهاء مقدّمات الثلاثة شرَعَ الشيخ مصطفى إسماعيل في حكاية سيرته ورحلته، بلهجته الريفية البسيطة، وبلا تحضير أو إعداد سابق، وباستجابةٍ حُرة للذكريات التي تتداعى مِن كل وجهة في جنَبات الماضي، ليجتمع في كلمته حشد عجيب من مقتطفات السيرة الذاتية، وتاريخ فن التلاوة والقراء الأوائل الذين لم تُدركهم التسجيلات، وحكايات القصر الملكي وأهل السياسة وأسماء الأعيان ومناسباتهم، وملامحُ مُنتثرة من الثقافة الشعبية والظواهر المجتمعية في النصف الأول من القرن العشرين، بلهجةٍ ريفية تلقائية، لا تتكلف أي قدر من الرسمية، وتترك البابَ مفتوحًا للمداخلات والاستطرادات والمداعبات والنِّكات والملاسنات المازحة اللذيذة، ما جعل الجلسة ممتعةً طريفةً رغم دسامة ما حوَته من المعلومات والأخبار.

من القرية إلى المدينة.. بداياتٌ واثقة

مِن قرية (ميت غزال) القريبة من طنطا -حيث وُلد- بدأ الشيخُ حكايته، ولمّا كان حفظُ القرآن فاتحةَ المشوار الذي أوصله إلى هذه الجلسة فقد ذكر أسماء الشيوخ الذين حفظ عليهم في الكتاتيب، بحسب ما أسعفته الذاكرة، فذكر شيوخه (عبد الرحمن أبو العينين)، و(شحاتة غنيم)، و(عبد الحميد النجار)، وصولًا إلى شيخه الأهم (إدريس فاخر) الذي درس عليه القراءات.

وجدير بالذكر أن هذه الحوارات المسجلة لكبار القراء كانت مصدر معرفتنا الوحيد بكثير من مشايخ القراءات والقراء الذين عاشوا قديمًا في الريف فلم تسمعْ بهم العاصمة ولا صحافتُها، رغم ما يصفهم به تلاميذهم مِن سعة العِلم وكثرة الطلاب.

كان جد الشيخ من أعيان قريته، وكان يُقيم سهرات رمضان في بيته، ويدعو إليها المحيطين من القراء وشيوخ الكتاتيب. وفي تلك السهرات، مارس الشيخ التلاوة لأول مرة أمام الجمهور، فلما نال استحسانهم صار يقرأ في مآتم القرية، واشتهر فيها بجمال صوته، حتى ذهب مع جده مرةً إلى مدينة طنطا، ودخلا أحد مساجدها للصلاة، فأمرَهُ جدُّه أن يقرأ عَشرًا، وكانت عادةً شائعةً إلى عهد قريب أن يقرأ قارئ تلاوةً قصيرة بين الأذان والإقامة، فلمّا سمعه الحاضرون في المسجد أعجبوا به، وتوَجّه أحدهم بالنصح إلى جده أن يجعله يُقيم في طنطا، وينتسب إلى المعهد الأحمدي التابع للأزهر الشريف لطلب العلم، وكان مقره الجامع الأحمدي الشهير -جامع سيدي أحمد البدوي- بمدينة طنطا، واستجاب الجدُّ فورًا، وبدأ الحفيد مرحلةً جديدة من مشواره إلى الشهرة.

يستطرد الشيخ هنا ليُحدّثنا أن المعاهد التي كانت تابعة للأزهر في الأقاليم، هي معهد طنطا ذاك، ومعهد الإسكندرية، ومعهد دمياط، ومعهد دمنهور، ويستمدُّ هذا الاستطراد قيمته من وصفه لواقع التعليم الأزهري في الأقاليم قبل إصلاحات الملك فؤاد عام 1930، كما يصف الشيخ الجامع الأحمدي بكثرة الطلاب الذين يتدارسون العلم ويستظهرونه في رحابه، حتى إنك لا تَسمعُ مُحدّثَك من ضجيج ترديدهم وتسميعهم.

وفي عام 1927 توفي بمدينة إسطنبول حسين بك القصبي، أحد أهم أعيان طنطا، وعضو مجلس الشيوخ عنها، وعضو الوفد المصري الذي أوفده الخديو عباس إلى لندن للمطالبة بالاستقلال عام 1908. ونُقل جثمانه بحرًا إلى الإسكندرية، ليُقلع به قطارٌ خاص إلى طنطا. وخرجت المدينة كلها لاستقباله، وخرج الشيخ مصطفى بينهم، لكنه لم يلبث أن طُلب للقراءة في مأتمه.

وهناك لقي عددًا من قدامى القراء، ويمتاز حديث الشيخ عن هذه الحقبة بتوثيقه أسماءَ عدد كبير من قدامى القراء الذين لم يقرأوا في الإذاعة ولم تصلنا أصواتُ معظمهم، كالشيخ حسن صبح، والشيخ محمد سالم هزاع، والشيخ محمد السيسي، والشيخ منصور بدار، والشيخ محمد العقلة، والشيخ محمد أبو شرقاوي، والشيخ محمد عامر.

قَبضَ الشيخ عن هذا المأتم عشرة جنيهات، وهو مبلغ كبير حينها، وكان حديث عهد بالمال فقدّمه إلى أمه، التي اشترت له بقرتين توالدتا حتى كثرت أبقاره، ثم باعها واشترى بثمنها أول فدّان أرض امتلكه.

وفي طنطا لقي الشيخ كبار قراء القاهرة، فالتقى بالشيخ عبد الفتاح الشعشاعي (1890-1962) الذي حضر إلى طنطا يوم مأتم القصبي مدعوًّا للتلاوة في مأتم ثري آخر، فلما فرغ منه توجَّه إلى مأتم القصبي للعزاء، وقرأ الشيخُ مصطفى أمامه فعرف موهبته. ثم التقى لاحقًا بالشيخ محمد رفعت (1882-1950) في عزاء تاجر القطن الثري إبراهيم عبده بميدان كوتشنر بطنطا وقرأ معه.

خلال تلك السنوات نال الشيخ شهرةً في جميع مُدن الدلتا وقراها (شمال مصر)، فصار يُدعى إلى دمياط وبورسعيد والإسكندرية ودمنهور وغيرها من مدن الدلتا، وباتت القاهرة على بُعد خطوة، وقد صار حتمًا لازمًا أنّ ذِكرهُ انتقل إليها عبر أعيان الوجه البحري الذين لا يمكنهم الانقطاع عن زيارتها لرعاية مصالحهم. 

مِن طنطا إلى القاهرة.. إلى القصر والسياسة

لم تتأخر القاهرة كثيرًا، فسُرعان ما أتته دعوة للتلاوة مِن عائلة الحمصاني بمنطقة (الداودية) بحي (المغربلين) القاهري العريق، وكان الشيخ ممتلئًا بشُهرته وجماهيريته في طنطا فزهد في الحضور، فلما ألحّ عليه الداعي طلب عشرين جُنيهًا أجرًا عن الليلة، ووافق الداعي فورًا، وكان هذا الرقم ضِعف ما يتقاضاه كبار القراء في القاهرة.

ومِن حُسن حظه أن سمِعه في هذه الليلة الشيخ درويش الحريري (1881-1957) راوية الموشحات الأشهر، وأحد أهم شيوخ الموسيقى، تتلمذ عليه مُلحنو العصر ومُطربوه وعلى رأسهم زكريا أحمد وعبد الوهاب، كما أنه اضطلع بتسجيل تراث الموشحات لمؤتمر الموسيقى العربية الذي أقامه الملك فؤاد عام 1932، فبات إسنادنا الوحيد إلى كثير من الموشحات التراثية التي لولاه لذهبت في مجاهل الضياع.

أثنى الحريري على تلاوة الشيخ مصطفى وصحح له حرفًا مِن قراءة حمزة، وقام في الحاضرين خطيبًا مادحًا لتلاوته وفنه، فكان لحضوره أثر كبير في اجتماع الجمهور على الشيخ مصطفى ومعرفتهم به. ولم يمضِ أسبوع حتى دُعي إلى القاهرة مرة أخرى لعزاء الحاج محمد خميس الذي سجّل كثيرًا من تلاوات الشيخ محمد رفعت التي وصلتنا، وهنا سمعه عدد من كبار السمّيعة الذين نصحوه بالانضمام إلى (رابطة القراء) وهو ما استجاب له الشيخ مُسدِّدًا رسم العضوية وتبرُّعًا للرابطة.

وكانت الرابطة بابَهُ إلى السعد والشهرة، إذ أقامت في هذا العام، 1944، احتفالًا بالمولد النبوي في مسجد الإمام الحُسين، مَعقل التلاوة الأشهر بين مساجد القاهرة، ودَعته للتلاوة فيه، فاستمع إليه جمهور المسجد وأسرهم أداؤه. وكان من المقرر أن يحضر الملك فاروق في اليوم التالي لصلاة الجمعة في المسجد، فبعث عدد من السمّيعة اقتراحًا إلى قصر عابدين بأن يقرأ الشيخ مصطفى إسماعيل سورة الكهف أمام الملك فاروق في المسجد، لكنّ الشيخ الذي كان يحترم كبار القراء ويحفظ لهم مكانتهم، استحيا من الشيخ محمد الصيفي قارئ المسجد وخشي أن يُزاحمه في موقعه، فهرب عائدًا إلى طنطا.

ويبدو أن رسائل السمّيعة إلى القصر قد فعلت فعلَها، فلم يلبث أن تلقَّى تلغرافًا من مراد باشا مُحسن ناظر الخاصة الملكية يدعوه إلى قصر عابدين للتلاوة في الذكرى الثامنة لرحيل الملك فؤاد. واستجاب الشيخ فورًا، لتأتيه دعوة أخرى من القصر، بعد مُدة قصيرة، للتلاوة في عزاء شاه إيران السابق رضا بهلوي، الذي مات في جنوب إفريقيا ونُقل جُثمانه إلى القاهرة لتعذُّر نقله إلى طهران بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية، فدفنه الملك فاروق بمقابر الأسرة المالكة بمسجد الرفاعي، رعاية للمصاهرة التي جمعَته بولده الشاه محمد رضا بهلوي الذي تزوج من الأميرة فوزية أخت فاروق عام 1939. (ومن العجيب أن الشاه قد أعاد جثمان أبيه إلى إيران بعد وقوع الطلاق بينه وبين فوزية عام 1948، لكنّه بعد ثلاثين عامًا جاء منفيًّا ليُدفن في الموضع نفسه حين أزاحته ثورة الخميني عن عرشه).

بات الشيخ مصطفى قارئًا معروفًا وأثيرًا لدى القصر الملكي، ولمّا كانت عادة الملك إقامة سهرات التلاوة في قصره طيلة شهر رمضان، فقد كان من المنطقي أن يُدعى الشيخ إليها في العام اللاحق 1945، وأقيمت السهرات في قصر رأس التين بالإسكندرية، وحضرها الملك بنفسه، وقرأ فيها الشيخ وبصحبته الشيخ أبو العينين شعيشع (1922-2011)، وثبت الشيخ مصطفى في موقعه قارئًا للملك، فيما كان زميله في التلاوة عُرضةً للتبديل، ففي العام التالي قرأ معه الشيخ محمد عكاشة (1882-1982)، ثم قرأ معه الشيخ طه الفشني (1900-1971) عدة سنوات.

وبلغ احترام القصر للشيخ مصطفى أن صار يُؤخذ رأيه في القارئ الذي سيصاحبه في السهرات الرمضانية عند الملك، لكنّ حادثة عجيبة يحكيها تكشف لنا أعاجيب تدخُّل السياسة فيما لا يعنيها، ففي عام لاحق استدعاه قاسم بك سكرتير الملك (يسميه الشيخ مصطفى رئيس السرايات الملكية) واقترح عليه اسم الشيخ محمود علي البنا لمزاملته في التلاوة في القصر، ووافق الشيخ مصطفى وأثنى على الشيخ البنا وظن أن الأمر انتهى، لكنه فوجئ باتصال من محمد حيدر باشا وزير الحربية يدعوه للقائه، ليقترح عليه اسم الشيخ منصور الشامي الدمنهوري (1906-1959)، ولم يستطع الشيخ مصطفى معارضة حيدر باشا الذي يصفه بأنه "كان جبروت"، وضاعت الفرصة على الشيخ البنا.

وقد شغل حيدر باشا (1887-1957) منصب وزير الحربية لعدة سنوات جرت خلالها حرب فلسطين، وكان على علم بتحركات الضباط الأحرار واجتماعاتهم في نادي الضباط، ورفض قرارات ملكية بغلق النادي، كما كان خالًا غيرَ مباشر لأحد الضباط الأحرار، وهو عبد الحكيم عامر (المشير لاحقًا)، وربما لهذا السبب تساهل مع التنظيم ولم ينشط للإيقاع به. 

ضيف الملك.. وحريق القاهرة

في صيف عام 1947 كان الشيخ مصطفى يقيم في شقة مستأجرة بحي المغربلين الذي شهد مولد شهرته في القاهرة، وكان الطقس حارقًا، فشكا الأمر إلى مراد باشا محسن ناظر الخاصة الملكية، الذي أمره بالتوجه فورًا إلى فندق (شبرد) الشهير ضيفًا على الملك.

كان للخاصة الملكية طابق كامل في الفندق، لا يُقيم فيه إلا ضيوف الملك، وسرعان ما وجد الشيخ نفسه في جناح فخم متعدد الغُرف، في كل ركن منه تليفون، وطالت إقامته في الفندق، وصار يدعو زوجته من طنطا لتُقيم معه أحيانًا، وامتدت إقامته خمس سنوات، فلما كان عام 1952 خرج مع زوجته بسيارته الجديدة يتنزهان في شوارع حي الزمالك، وفي طريقه قرأ إعلان شقة للإيجار فصعدا لمعاينتها، وسرعان ما استأجرها وخلال أربعة وعشرين ساعة فرشها وانتقل إليها. بعدها بستة أيام فقط احترقت القاهرة حريقها الشهير في 26 كانون ثانٍ/يناير الذي قضى على فندق شبرد وأحاله إلى ذمة التاريخ!

لكنّ أخطر ما يحكيه الشيخ مصطفى عن حريق القاهرة، أنه منعَ بنفسه حرق فندق الـ(كونتننتال) الشهير بميدان الأوبرا، إذ رأى المجموعة المتوجهة إليه لحرقه، وكان على رأسها شاب اسمه (أحمد علي) مِن سمّيعة الشيخ، فلمّا عرف غايته حذره من الإقدام على حرقه، وقال له: "الكونتننتال دا آثار". فانصرفوا عنه ولم يحرقوه. وكان الفندق قد أقيم لأول مرة عام 1866 ونزل به ضيوف حفل افتتاح قناة السويس، ثم أعيد بناؤه عام 1908.

شغلت حوادث النشأة والعصر الملكي القسم الأكبر من رواية الشيخ مصطفى، ويبدو أنّ مذيع الحوار -عبد الخالق عبد الوهاب- تعمّد عدم التطرق إلى العهد الجمهوري، فانصرف إلى أسئلة عامة من بينها طلب نصيحة الشيخ للقراء الجدد، لكنّ الشيخ، الذي يتداعى إليه الكلام حُرًّا، انتقل من هذا السؤال إلى قصة حاضرة وقصتين قديمتين.

نصح الشيخ القراء الجدد بإتقان مخارج الحروف والأحكام والوقف والابتداء، ومعرفة النغم، ثم لا حرج عليهم ما التزموا بأحكام التلاوة وآدابها أن يُطرّبوا ما شاؤوا. وانطلق مِن جوابه ليرُدّ على قارئ معاصر له كان يهاجمُهُ بتُهمة التلاعب بالقرآن، مُتّخذًا من براعة الشيخ مصطفى في التنغيم والتطريب حُجة لهذه التهمة. وهي تُهمة باطلة مردودة ما دام القارئ ملتزمًا بأحكام التلاوة.

وفي سبيل الاحتجاج لنفسه رجع الشيخ إلى الوراء واحدًا وثلاثين عامًا، ليستدعي قصة اختباره للقراءة في الجامع الأزهر الشريف، على يد شيخ عموم المقارئ المصرية حينئذ الشيخ علي الضباع عام 1946، إذ بعد أن فرغ الضباع من اختباره في الحفظ والأحكام سأله: ماذا تعرف من النغم؟ ثم سمّى له أنغامًا طلب منه القراءة بها. ويستدل الشيخ بعمل الضباع على صحة مذهبه في التطريب والتنغيم، وبُطلان مذهب من يُنكر عليه ويزهد في التطريب.

وتتابعت التفاصيل، ليحكي لنا الشيخ قصة دخوله الجامع الأزهر أول مرة بعد اعتماده قارئًا رسميًّا له، حيث استقبله على الباب شيخ مهيب عظيم اللحية، ومشى به إلى المحراب القديم (المحراب الفاطمي) ناصحًا إياه بصلاة ركعتين فيه، قائلًا إن أسرار الأزهر كلها في هذا المحراب. ويُصرح الشيخ مصطفى أنه لم يرَ هذا الشيخ مرة أخرى، رغم بقائه قارئًا للأزهر أكثر من ثلاثين عامًا.

والغريب أن هذا المحراب القديم كان مطمورًا بعد التوسعة العثمانية التي انتقل إليها محراب الصلاة، وظل كذلك حتى عام 1933 حين كشفه الأثري الشهير حسن عبد الوهاب، ولا ندري حقيقة النصيحة التي فاه بها ذلك الشيخ المجهول، أهي من مبالغات المجاذيب؟ أم أنّ كشف المحراب بعد طمره جلب إليه فضولهم؟ أم أنّ راسبًا من الإرث الفاطمي ظل ينتقل في الثقافة الشعبية مُتعلقًا بهذا الموضع حنينًا إلى أيامهم؟ لسنا نعرف الإجابة، وتبقى حكاية الشيخ مصطفى شاهدًا فريدًا على هذا المعتقَد الشعبي الغريب، كما كانت شاهدًا فريدًا على كثير من التفاصيل التي ضربنا عنها صفحًا، إذ لن تسعَها إلا الكتب.

 

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

فن التلاوة: مِن ماضٍ عريق إلى حاضر مليء بالأزمات

قراءة في رحلة فن التلاوة العريق من ماضٍ حافل بالقراء الكبار، إلى حاضر مليء بالأزمات

2

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

3

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

4

المتنبي مثقفًا: التوازن المستحيل بين الوعي والمصلحة

محاكمة لشعر المتنبي في ضوء المعايير الأخلاقية التي يُفترض أن ترسخها الثقافة.

5

للكتاب آباءٌ شتّى: عن سُلطة المُترجم وتشكُّلات النص

عن سُلطة المُترجم على النص وحدودها، وعلاقاتها مع الكاتب والناشر والقارئ

اقرأ/ي أيضًا

فن التلاوة بين ماضٍ عريق وحاضر مأزوم (ميغازين)

فن التلاوة: مِن ماضٍ عريق إلى حاضر مليء بالأزمات

قراءة في رحلة فن التلاوة العريق من ماضٍ حافل بالقراء الكبار، إلى حاضر مليء بالأزمات

هيثم أبو زيد

الألعاب القديمة
الألعاب القديمة

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

حسام هلالي

النقود

تاريخ موجز للنقود.. من أوعية الملح إلى سلاسل البلوكتشين

كان الناس يثقون في الطين الذي يرمز إلى الشعير. ثم في الملح، ثم في الذهب، ثم انتقل إلى النقود المعدنية المزخرفة، ثم الأوراق النقدية التي تطبعها الدولة

حسن زايد

الكسكسي المغربي

قبل أن يصبح الكسكس أيقونة.. كيف تفاوضت المائدة المغربية مع المجاعات؟

لعبت المجاعات والكوارث الطبيعية دورًا محوريًا في تشكيل الذوق الغذائي للمغاربة، بعيدًا عن الصورة الرومانسية المروّجة عن "الكسكس" و"الأتاي" كرموز ثقافية فقط

عبد المومن محو

جواز

الجغرافيا ليست كما تراها.. حين يرسم جواز السفر خريطة أخرى

سيُصاب كثير من المسافرين بخيبة أملٍ كبيرة، حين يتحوّل جواز السفر من وثيقة عبور إلى تهمة يُجبَر صاحبها على حملها

فريق التحرير

المزيد من الكاتب

عبد الرحمن الطويل

كاتب وشاعر وباحث مصري

نجوم حول الكوكب.. فرقة أم كلثوم في وجدان السميعة

كان عازفو الست يفهمون عاداتها على المسرح ويقرؤون إشاراتها ورغباتها في الإعادة أو الانتقال، ويسدّون لحظات صمتها بالعزف ويسعفونها في أوقات الارتباك والنسيان

يوسف عيد.. نجم الظل الذي أعاد تعريف البطولة

لم يكن يوسف عيد من نجوم الصف الأول، لكنه فرض على المشاهد حضورًا عميقًا جعله يحفظ اسمه ولا ينساه بانتهاء مشهده في الفيلم، وربما لا يذكر من الفيلم إلا مشهده

دولة التلاوة.. قوة الإسلام الناعمة

لم يبدأ تاريخ فن تلاوة القرآن مع بداية حقبة الإذاعات، ويكاد أن يكون عمره من عمر الإسلام

تسعة عشر عامًا من الزمن.. غزة تحت الإدارة المصرية

يستعرض النص أبرز المحطات التاريخية بارزة للعلاقات المصرية الفلسطينية في ظل الإدارة المصرية لقطاع غزة، التي بدأت بعد نكبة 1948، واستمرت حتى نكسة 1967

مدينة لا تهدأ: كيف أعاد الهدم تشكيل صورة القاهرة؟

تعرّضت القاهرة لعمليات هدم وبناء متكررة، لأسباب سياسية أو اقتصادية وشخصية أحيانًا، ساهمت في تشكيل ملامحها الحالية

فريد الأطرش.. خمسون عامًا على رحلة الطرب والألم

يُستعاد فريد الأطرش في الذكرى الـ50 لوفاته بوصفه أحد أهم أركان الغناء الطربي مطربًا وملحنًا لم يفرط في عروبة ألحانه وأصالتها