العالم يمنع أطفال فلسطين من قطعة شوكولا (ميغازين)

الشوكولا.. الوجه الحلو للعبودية الحديثة

2 يوليو 2025

ليست الشوكولا بالحلوى البريئة. إنها صورة لعالم غير عادل. تُباع بورقٍ ذهبيّ في المتاجر الباريسية، وتُزرع بعرق الأطفال في ساحل العاج، وتُحرَّم على المحاصرين في غزة. في كل قضمةٍ تُطحن سلاسل من العبودية الحديثة، وأوهام "المسؤولية الاجتماعية" التي تسوّقها الشركات. من المعبد الأزتيكي إلى المصنع السويسري، ومن حقول إفريقيا إلى أنقاض رفح، تمضي الشوكولا خفيفة في فم العالم، لكنها ثقيلة في ضمير من يعرف تاريخها.

منذ أن اعتقد سكان أمركيا الوسطى أن حبوب الكاكاو هدية من الآلهة، لم تتوقف البشرية عن إعادة تأويل الشوكولا، كرمز وليس كمجرد طعام، رمز للسلطة، وللترف، وللاستعمار، وأحيانًا للمقاومة. في كل قطعة صغيرة، تختبئ قصة طويلة من الرحلات، من المصانع، من السفن، من الدماء.

في إفريقيا، تحديدًا في ساحل العاج وغانا، لا تُزرع حبوب الكاكاو فحسب، بل تُنتزع من الأرض والأجساد معًا. هناك، حيث يُنتج أكثر من 60% من كاكاو العالم، ما يزال آلاف الأطفال يعملون في الحقول، بأيدٍ صغيرة لا تعرف المدرسة، يقطعون القرون الثقيلة بالسواطير، ويحملونها على ظهورهم في طقسٍ لا يرحم. لا عقود عمل، لا حماية قانونية، ولا حتى طعم للشوكولاتة التي لن يتذوقوها. كثيرون منهم تم بيعهم من بلدان مجاورة، أو وُعدوا بأجور لم تُدفع، واختفوا في الحقول التي تصدر الحلوى للعالم وتبتلع طفولتهم بصمت. خلف قوالب الشوكولا الفاخرة، توجد منظومة من الاستغلال المعولم، حيث تنخفض الأسعار في أوروبا بقدر ما يُستنزف المزارع في إفريقيا، ويعلو الطلب بقدر ما يُطمَس الوجه الحقيقي للمنتِج، أو يُختزل إلى "ابتسامة سمراء" على عبوة لامعة.

رغم وعودها المتكررة بتحسين ظروف العمل، ما تزال الشركات الكبرى المسيطرة على سوق الشوكولاتة، مثل نستله ومارس وهيرشي وباري كاليبو؛ تدير ظهرها للمعاناة التي يقوم عليها منتجها الأكثر ربحًا. فمنذ أوائل الألفية، تعهّدت هذه الشركات بالتخلص من العمالة القسرية وعمالة الأطفال في سلاسل التوريد الخاصة بها، لكنها لم تفِ بتعهداتها. وعلى مدار العقود، بقيت الأرباح تتضخم، بينما بقيت الأجور في الحقول أقل من دولار واحد في اليوم، وكأن الشفافية لا تصل إلى الغابات التي يُقطف فيها الكاكاو، ولا إلى الأطفال الذين يعملون بالسكاكين الثقيلة في عمر العاشرة. 

في 2021، رفعت مجموعة من الأطفال السابقين الذين عملوا بالسخرة في مزارع الكاكاو، في مالي وساحل العاج، دعوى ضد هذه الشركات في الولايات المتحدة، متهمين إياها بـ"التواطؤ في نظام استغلال قائم على العمل القسري"، لكنّ القصة لم تتغير. فالشركات، رغم كل حملاتها التسويقية "الأخلاقية"، ما زالت تعتمد في أرباحها على نظام عالمي يجعل الفقر والتعتيم شرطًا دائمًا للرفاهية المطلية بالسكر.

ولهذا حين نرى الشوكولا اليوم مغلّفة بورق ذهبي في واجهات المحلات الأوروبية، لا بد أن نتذكّر أنها وصلت هناك على ظهور الغزاة، وأن مذاقها الحلو مرٌّ في أصله. كان ذلك، حسب اعتقاد الباحثين، قبل 1750 سنة قبل الميلاد، وقد بدأ التعامل معها كمشروب وطعام في البداية، ودلّ على ذلك نقوش وُجدت على بعض الأواني قرب سواحل المكسيك، والتي تُظهر كيفية تحضير الشوكولا. وبحلول القرن الخامس عشر، وكعادة المستعمرين، حين سيطر الأزتيك على جزء من أمريكا الوسطى، أدخلوا الكاكاو إلى ثقافتهم، لكنهم شربوه باردًا هذه المرة، وأضافوا له بعض النكهات مثل الفانيلا والعسل والفلفل الحار. لم يتمكن الأزتيك من زراعة أشجار الكاكاو، لأنها ببساطة لا تنبت في بلادهم؛ فالشجرة تتمتع بحسّ الأصالة فيما يبدو، وتحتاج إلى أرض خصبة، وحرارة معتدلة، وماء وفير. ولذا، ظلّوا يستوردون ثمارها، وقد استُخدمت حبوب الكاكاو آنذاك كعملة في عمليات المقايضة.

بعد غزو الأمريكتين، أصبح مشروب الشوكولا، كما تمثّله لوحة الفنان بيترو لونغي، طقسًا اجتماعيًا لدى الطبقة المخملية. وعندما جلب الرحّالة كولومبوس حبوب الكاكاو معه في رحلة عودته إلى إسبانيا، لم يلقَ المشروب المُرّ الترحيب الذي يستحقه، إلا بعد أن استخدمه رجال الكنيسة، وأيضًا بعد أن أُضيف إليه السكر والعسل والتوابل لجعله أكثر قبولًا. وبعد ذلك بمئة عام، انتشر شراب الشوكولا وصار يُعدّ من المقوّيات الجنسية، ويُوصف كمقوٍّ للصحة بشكل عام.

ومع اتساع دائرة استخدامها، لم تعد الشوكولا مجرد شراب غريب، بل أصبحت رمزًا للتمييز الطبقي في أوروبا الحديثة. قُدّمت في صالونات النبلاء، وترافق تناولها مع طقوس محددة وأوانٍ فاخرة، حتى باتت جزءًا من أدوات تشكيل الذوق الأرستقراطي. كانت الشوكولا تُستهلك ببطء، بصفاء، كأنها فعل تفكّر لا مجرد متعة حسّية. هكذا، تمّ تحويل منتج استُخرج من أراضٍ نُهبت بالقوة، إلى سلعة تمثل "الرقي" الأوروبي، سلعة تُكرّس الفارق بين من يملكون القدرة على التذوّق، ومن يكدّون لإنتاج ما لا يذوقونه.

أما عن التطوّر الحقيقي في عملية صناعة الكاكاو، والذي يُعدّ أقرب ما يكون إلى الشكل الحالي، فقد حدث بعد الثورة الصناعية، ثم في عام 1815 على يد الكيميائي الهولندي فان هوتن، حيث عالج كتلة الكاكاو بالأملاح القلوية، مما أدّى إلى تخفيف مرارتها. ثم اكتشف طريقة لإزالة كمية من الدهن من كتلة الكاكاو، ما جعلها أقلّ ثمنًا، ومهّد الطريق للتحكم في قوامها. وكان ذلك بداية العهد الجديد لإنتاج الشوكولا، الذي تطوّر لاحقًا بإضافة الحليب والزبدة، ليصبح المنتج أفضل نسخة عن نفسه في ذلك الوقت، وقد تطوّر الاهتمام بإنتاجها بشكل لافت مع أواخر القرن التاسع عشر في سويسرا وألمانيا.

شهد قطاع غزة في أعقاب اختطاف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2006 حصارًا مشددًا فرضته سلطات الاحتلال، شمل منع دخول العديد من السلع التي صُنّفت على أنها "غير ضرورية"، من بينها الشوكولا والمقرمشات. وقد مثّل ذلك الحصار اختبارًا أوليًا لنمط جديد من العقوبات الجماعية، حيث جرى إعادة تعريف الحاجات الأساسية وفق اعتبارات عقابية. في مطلع عام 2008، وفي أعقاب تفجير الحدود مع مصر، اندفع سكان غزة إلى الأسواق المصرية لشراء السلع التي حُرموا منها طويلًا، وكانت صناديق الشوكولا من بين أكثر المنتجات طلبًا، قبل أن يُعاد إغلاق المعابر ويُستأنف الحصار من جديد.

في الحقول الإفريقية، يُنتج الكاكاو بأجساد منهكة لا تملك صوتًا. وفي قطاع غزة، يُحرم الناس من تذوّقه، لا لأنهم لا يزرعونه، بل لأنهم محاصرون داخل اقتصاد عقابيّ يُعيد تعريف الحاجة وفق مشيئة المحتل. وبين طرفي المعادلة، تكتمل صورة نظام عالمي لا يرى في الإنسان إلا وظيفة: منتِج بلا حقوق، أو مستهلِك بلا كرامة. فالطفل الذي يُستعبد في ساحل العاج ليقطف الكاكاو، والطفل الذي يُقتل في غزة بحثًا عن ربطة خبز، كلاهما ضحيتان لنظام واحد، يفرض معاييره على من يستحق العيش ومن يُمنع عنه الحليب والسكر والشوكولاتة. هنا تُصادَر الطفولة لتُباع على هيئة حلوى، وهناك تُجوَّع الطفولة وتُعاقَب على وجودها. وما بين القارتين، تمضي الشوكولاتة، سلسة وناعمة، تغلّفها الشركات بشعارات المسؤولية الاجتماعية، بينما تخفي تحتها صفقات استعمارية جديدة، تعيد تدوير العنف في أشكال جذابة.

مع ذلك لم يرتقِ أي شيء ليشبه ما يحدث الآن في غزة، مع أنّه كان تدريبًا بشكل ما على كلّ ما ظلّ القطاع يواجهه من أزمات لا تنتهي! لكن منذ بداية حرب الإبادة الجماعية في تشرين الأول/أكتوبر 2023، تعيش غزّة حرمانًا وعقابًا جماعيًا، وصل إلى السلع الأساسية بعد إعطاب معظم مناحي الحياة عبر إغلاق كل ما يمكن أن يسهّل على الناس طرق التعافي أو إيجاد البدائل، مما يضطرهم إلى اختراعات عجيبة وتقبّل مذاقات صعبة من أجل التحايل على التجويع وتمرير العدم.

قبل اندلاع الحرب، بدأت إحدى الشركات المحلية في غزة بإنتاج الشوكولاتة الفاخرة، في خطوة لافتة نحو تصنيع منتج لطالما كان يُستورد حصريًا من أوروبا ويباع بأسعار مرتفعة. ومع الإقبال الكبير على شرائها، خاصة في مواسم الأعياد، بدا واضحًا أن التصنيع المحلي لم يكن مجرد رفاهية، بل ضرورة اقتصادية واستراتيجية.

وإذا كان وجه الشوكولا في إفريقيا هو الاستعباد الصامت، فإن وجهها في فلسطين هو الحرمان الصاخب، حيث تتلاعب دولة الاحتلال بالقيمة، قيمة الإنسان وقيمة ما يقوم باستهلاكه، فتقلب هرم الاحتياجات الإنسانية رأسًا على عقب ليصبح الطعام الحافظ للحياة في أولوية السعي، وليتضاءل الشعور بالذات عبر سحق الكرامة وتذويب الحدود بين الفضائل والسلوك العدواني "الحيواني". يحدث ذلك على نطاق ضيّق إذا ما قارناه بعدد السكّان، ويتمّ الإضاءة عليه ليصبح الصورة العامة المستجدّة. كأن هذا التحوّل في السلوك يدين الفلسطيني ويجعله أقلّ مكانةً من أن يستحق الحياة والحرية والسيادة وبالتالي الأرض. هل هو مجرّد عقاب جماعي؟ أم أنه يحفر في الذاكرة الجماعية ليؤسس لشيء آخر سبق وأن جرّبه الأجداد المهجّرون من قبل، وخلصت التجربة إلى تكرار الفعل المقاوم والبحث المستمرّ عن الخلاص من الاحتلال أو الاستعمار في أبشع صوره المستجدّة والمتمثلة بإسرائيل؟!

لا تزال القوى العظمى في العالم تستجلب المواد الخام من البلدان التي سبق أن استعمرتها، حتى بعد زوال الاحتلال العسكري المباشر. فالنظام العالمي، منذ ما بعد الاستعمار الكلاسيكي، أرسى منظومة من الاتفاقيات التي تمنح الدول المستعمَرة أعلامًا وأسماء وحدودًا، لكنها تحرمها من السيادة الفعلية على مواردها. ما زال الصمغ العربي والبترول والذهب والقهوة والموز والكاكاو، والمعادن النادرة التي تدخل في الصناعات التكنولوجية الحديثة، تُنهب تحت عناوين الشراكة والتعاون. ويكفي تأمل الخريطة الاقتصادية والسياسية اليوم لندرك أن الهيمنة لم تنتهِ، بل أعادت تشكيل نفسها بطرق أكثر نعومة، وأكثر فتكًا.

وإذا عدنا إلى غزة، التي يُقتل أبناؤها في طوابير الخبز، ويُدفنون تحت أنقاض المستشفيات والمدارس، ويُحرم سكانها من السكر والشوكولا والدواء والماء، عقابًا على وجودهم. وبعد أن دُمّرت بنيتها الزراعية والصناعية والتجارية، لم يبقَ لأهل غزة سوى أن يخترعوا طرقًا للبقاء من فتات العالم، وسط صمتٍ أخلاقيٍّ دولي يفضح كل شعارات الإنسانية. هنا، يُختبر الضمير العالمي ويفشل.فالإنسان الذي يدّعي الذكاء، ويحتفي بثوراته التكنولوجية، لا يزال يستهلك الكاكاو المُنتزَع من أكتاف أطفال إفريقيا، ويمنع عن أطفال فلسطين من قطعة شوكولا، ولا يزال مشوّهًا يضبط أفقه على مقياس الربح والهيمنة. وهذا، في جوهره، تعريف جديد للوحشية: أن يُمنح القاتل حقّ السوق، ويُمنع الضحية من حبة سكر.

فوق رقعة الشطرنج التي تشكّل عالمنا المريض، على الشوكولا أن تذوب وتغطي كل المربعات حدّ الوصول إلى حجرة الملك، ليختنق "الشرير" الذي يحكم العالم، هذا الذي لا يرى ولا يسمع ولا يشعر بصرخات المعذبين في الأرض.

الشوكولا التي تبدأ من أصابع طفل مُستعبَد، وتمرّ عبر ماكينة رأسمالية لا ترحم، وتنتهي في فمٍ لا يعرف طعم الجوع، ليست مجرد سلعة. إنها استعمار ناعم، يذوب في أفواه العالم، بينما يترك وراءه أطفالًا بلا مدارس، وأرواحًا بلا طعام، ومدنًا بلا سيادة.

حين نكسر قطعة شوكولا، يجب أن نسمع الطقطقة جيدًا. ليس فقط لأنها لذيذة، بل لأنها صوت العالم وهو ينكسر معنا، مرّة أخرى، وبصمتٍ مُغلف.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

فن التلاوة: مِن ماضٍ عريق إلى حاضر مليء بالأزمات

قراءة في رحلة فن التلاوة العريق من ماضٍ حافل بالقراء الكبار، إلى حاضر مليء بالأزمات

2

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

3

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

4

المتنبي مثقفًا: التوازن المستحيل بين الوعي والمصلحة

محاكمة لشعر المتنبي في ضوء المعايير الأخلاقية التي يُفترض أن ترسخها الثقافة.

5

للكتاب آباءٌ شتّى: عن سُلطة المُترجم وتشكُّلات النص

عن سُلطة المُترجم على النص وحدودها، وعلاقاتها مع الكاتب والناشر والقارئ

اقرأ/ي أيضًا

فن التلاوة بين ماضٍ عريق وحاضر مأزوم (ميغازين)

فن التلاوة: مِن ماضٍ عريق إلى حاضر مليء بالأزمات

قراءة في رحلة فن التلاوة العريق من ماضٍ حافل بالقراء الكبار، إلى حاضر مليء بالأزمات

هيثم أبو زيد

الألعاب القديمة
الألعاب القديمة

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

حسام هلالي

النقود

تاريخ موجز للنقود.. من أوعية الملح إلى سلاسل البلوكتشين

كان الناس يثقون في الطين الذي يرمز إلى الشعير. ثم في الملح، ثم في الذهب، ثم انتقل إلى النقود المعدنية المزخرفة، ثم الأوراق النقدية التي تطبعها الدولة

حسن زايد

الكسكسي المغربي

قبل أن يصبح الكسكس أيقونة.. كيف تفاوضت المائدة المغربية مع المجاعات؟

لعبت المجاعات والكوارث الطبيعية دورًا محوريًا في تشكيل الذوق الغذائي للمغاربة، بعيدًا عن الصورة الرومانسية المروّجة عن "الكسكس" و"الأتاي" كرموز ثقافية فقط

عبد المومن محو

جواز

الجغرافيا ليست كما تراها.. حين يرسم جواز السفر خريطة أخرى

سيُصاب كثير من المسافرين بخيبة أملٍ كبيرة، حين يتحوّل جواز السفر من وثيقة عبور إلى تهمة يُجبَر صاحبها على حملها

فريق التحرير