الإبادة الجماعية في رواندا

الاستعمار وخرافة العِرقْ.. الجذور الخفية للإبادة الجماعية في رواندا

10 ديسمبر 2024

ألقى اعتراف الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بأن فرنسا وحلفائها الغربيين لم تكن لديهم الإرادة لوقف الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994، والتي راح ضحيتها نحو 800 ألف شخص معظمهم من عرقية "التوتسي"، بالإضافة إلى المعتدلين من عرقيتي "الهوتو" و"التوا"؛ الضوء على الدور الذي لعبته القوى الاستعمارية الغربية في البلاد وأدت إلى حدوث المذبحة.

وتبرز في هذا السياق حادثة وثقتها الكاميرات، تُبيّن عدم تدخل القوات الفرنسية لوقف مذبحة ارتكبتها ميليشيات "الهوتو" ضد ألف شخص من عرقية "التوتسي"، في حزيران/يونيو 1994، بمنطقة بسيزيرو غرب رواندا.

كانت القوات الفرنسية مفوضة من قبل الأمم المتحدة لوقف المجازر في إطار عملية "تركواز"، وأظهرت المقاطع المصورة العقيد جاك روسيه يتبادل الحديث مع أحد العسكريين، الذي أخبره أن اغتيالات وعمليات قتل واسعة النطاق قد استهدفت أفرادًا من عرقية "التوتسي" في تلال منطقة بسيزيرو.

وأضاف العسكري، الذي لم يكشف عن هويته، قائلًا: "أمس كنا في قرية لا أعرفها. وقعت عمليات اعتداء وضرب طوال اليوم. أُحرقت خلالها المنازل الواقعة على التلال، فيما كان بعض الرجال يتنقلون من مكان إلى آخر وفي أياديهم بقايا من الأشلاء المنزوعة من الأجساد". وتابع: "المشكلة أنني لا أدري كيف يعالجون أنفسهم، لا سيما أنهم يعانون من جروح خطيرة".

واصل العسكري حديثه مع العقيد روسيه، موضحًا أن الدليل الذي يعمل مع القوات الفرنسية قد يكون من عرقية "الهوتو"، قائلًا: "نجونا من الموت لأن الدليل الذي كان يرافقنا كان يقود في الأيام الماضية الميليشيات، وعندما وجدنا أنفسنا وسط جمع غفير من الناس الذين فروا من التلال وهم من عرقية التوتسي وتعرفوا عليه، رفع هذا الرجل من حدة صوته ليدافع عن نفسه. كنت أعتقد أنهم سيقتلونه".

اتهم ناجون من المذبحة القوات الفرنسية بالتخلي عنهم عمدًا وتركهم يواجهون مصيرهم أمام متطرفي "الهوتو"، الذين قتلوا المئات منهم في المنطقة في غضون أيام.

 

لا مبالاة بمصير البشر

يتقاطع هذا الاعتراف مع ما كشفه قائد قوات حفظ السلام الأممية في رواندا أثناء الإبادة الجماعية، الجنرال الكندي روميو داليير، الذي قال إنه عندما طلب من الدول الغربية التدخل لوقف الإبادة في رواندا، كانت الإجابة بأن الأمور تسير على هذا النحو: إذ قتل البعض البعض الآخر هنا، فهذا يعود إلى قبليتهم، وقد يستغرق الأمر عدة أسابيع، وهو ما سيؤدي إلى قتل الكثيرين. وهنا سيتدخلون ويقومون بضخ بعض المال لتتحسن الأمور. تلك كانت مقاربتهم لما يحدث في إفريقيا. يقول داليير: "لقد كانت القبلية هي حجتهم الكبيرة". 

وأشار داليير إلى أن معظم عمليات القتل ارتكبها الشباب المنتمين إلى ميليشيات "ﺍﻷﻧﺘﺮﺍﻣﻮﻱ"، التي كان يقف وراءها كبار ضباط الجيش والدرك والسياسيين الروانديين، الذين خططوا للإبادة ونفذها شباب "الأنتراموي" بالمناجل.

مخيم للاجئين الروانديين في تنزانيا
مخيم للاجئين الروانديين في تنزانيا (Sebastiao Salgado/ ميغازين)

كان أفراد تلك الميليشيات يقفون على نقاط التفتيش، بعدما قام أعضاء في حزب "الحركة الثورية الوطنية من أجل الديمقراطية والتنمية" الحاكم بالتعاون مع تحالف الدفاع عن الجمهورية والأحزاب المتشددة، بتلقينهم ما عليهم فعله، وخصوصًا التعامل مع كل أفراد عرقية "التوتسي" على أنهم "صراصير" يجب التخلص منهم.

وعندما اعتُبِر البشر مجرد حشرات، وفق الجنرال داليير، تجلت ملامح الإبادة الجماعية القادمة. وفي كتابه "مصافحة الشيطان: فشل الإنسانية في رواندا"، ذكر داليير أنه خلال لقاءاته مع قادة مليشيات "ﺍﻷﻧﺘﺮﺍﻣﻮﻱ" أثناء الإبادة، أعربوا عن غضبهم من الاتهامات الموجهة إليهم بالمسؤولية عن المجازر، قائلين: "كيف تجرؤون على اتهامنا؟ أنتم أيها الرجال البيض الأوروبيون، دمرتم الناس وملايين الأفارقة وجعلتمونا عبيدًا لمئة أو مئتي عام. لذا لا تأتون الآن وتخبرونا بأننا وحوش، فأنتم من بدأ بفعل إبادة البشر". وأكمل: "كانوا يقولون إن الهوتو هم الغالبية العظمى وقد تعرضوا للاضطهاد من قبل إمبراطورية التوتسي، وكان ملك التوتسي يُحمل على أكتاف الناس ويجولون به في البلاد".

يفتح هذا الاعتراف الباب للتأمل في تاريخ رواندا المعقد، وكيف تم تشكيل هذا البلد. كما يدفعنا إلى التساؤل عن الأسباب والعوامل التي أدت إلى أن يقتل الجار جاره وينكل به، بعد سنوات طويلة من العيش المشترك.

 

تقسيم الأعراق للسيطرة

توجد في رواندا ثلاث عرقيات رئيسية: يشكل "الهوتو" 85 بالمئة من سكان البلاد، بينما يمثل "التوتسي" 14 بالمئة، و"التوا" 1 بالمئة فقط. ولا يزال معنى هذه التسميات، قبل الاستعمار، محل جدل  في رواندا بين المؤرخين. فعند وصول الأوروبيين إلى البلاد، كان قد مر على تأسيس مملكة رواندا ستة قرون، وقد تم تصنيف الناس في فئات مختلفة: الأغنياء وملّاك الأراضي الذين كانوا يسمون "التوتسي"، والفقراء والناس العاديين "الهوتو". وكان ممكنًا أن يقتني أحد أفراد "الهوتو" عددًا كبيرًا من الماشية، أو غير ذلك، ليصبح من "التوتسي". كما أنه كان يُنظر إلى فقراء "التوتسي" على أنهم من "الهوتو".

يؤكد العديد من المؤرخين الروانديين أنه كانت في البلاد مجموعة عرقية واحدة، فالجميع يملكون ثلاث أشياء مشتركة، وهي: اللغة، والثقافة، والمعتقدات. كما كان هناك نظام عشائري قوي يضم نحو عشرين عشيرة، وكانت كل من "الهوتو" و"التوتسي" و"توا" ممثلة في جميع هذه العشائر، ما يدل على أنهم كانوا جزءًا من المجموعة العرقية نفسها. لكن الأوروبيين، عند وصولهم إلى البلاد، تبنوا رؤية مختلفة وتحدثوا عن ثلاث مجموعات عرقية. لقد كان ذلك إذن اختراعًا أوروبيا.

في القرن التاسع عشر، قسّم العلماء الأوروبيون البشرية إلى عدة أعراق، وفق تصنيف هرمي؛ العرق القوقازي، ويضم ثلاثة أعراق صغرى: العرق الآري، يضم السكان الأصليين لأوروبا وإيران وباكستان وأفغانستان والقوقاز وشمال الهند، وهم الناطقون باللغات الهندو-أوروبية؛ العرق الحامي، يضم السكان الأصليين لشمال إفريقيا من مصر وشمال السودان ودول القرن الإفريقي والدول المغاربية وشمال مالي، وهم الناطقون باللغات الأفرو-آسيوية؛ والعرق السامي، يضم السكان الأصليين لشبه الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام، وهم الناطقون باللغات السامية.

العرق المغولي، ويضم بدوره عدة أعراق صغرى تتمركز في آسيا والقارة الأميركية وأجزاء من شمال شرق أوروبا. والعرق "الزنجي"، الذي يضم كل سكان افريقيا باستثناء العرق الحامي، بالإضافة إلى سكان جنوب الهند واستراليا وغينيا الجديدة.

وجادل الأوروبيون بأن العرق الأبيض هو الأرقى والأكثر تقدمًا، وأن "الزنجي" الأدنى مرتبة على الإطلاق. وكان هذا منهجهم لفرض الاستعمار على الشعوب الأخرى. فقد حاول الأنثروبولوجي الأميركي ومالك الرقيق، جوسياه سي نوت، المزاوجة بين وحدة الأصل وتعدد الأصل. فبعد تقصيه لآثار المصريين القدماء، وقصص الكتاب المقدس، استنتج أن البيض وبعض الشعوب يشتركون في أصل مشترك بوصفهم أبناء نوح. أما "الزنوج"، فهم من بني آدم لكنهم ليسوا من أبناء نوح، مما يفسر الاختلافات الجسدية الكبيرة. وبيّن نوت عبر رسومات توضيحية كيف أن السود "يقعون بين البشر البيض والشامبانزي".

وفي رواندا، صنف الأوروبيون "التوتسي" على أنهم حاميون، وكانوا يُعتبرون الأقرب للعرق الأبيض، وبالتالي "أكثر تطورًا من العرق الزنجي"، وفق التصنيفات العرقية التي وضعها الاستعمار. وهناك تعريف للمؤرخة الأميركية إيديت ساندرز من جامعة كولومبيا تقول فيه إن: "كل شيء لديه قيمة في إفريقيا جلبه الحاميون إلى هناك".

أدخل الباحثون الأوروبيون خرافة "شعب الحاميين" إلى رواندا في نهاية القرن التاسع عشر، وخلصوا إلى أن "التوتسي" كانوا ما يسمى بـ"الحاميون الزنوج"، الذين هاجروا من الشمال وسيطروا على "الهوتو" الذي يفترض أنهم من السكان الأصليين لمئات السنين، وقد سادت هذه الرواية لفترة طويلة.

أعاد الاستعمار تعريف هويات الروانديين، حيث قدّم الباحثون الأوروبيون وصفًا لـ"التوتسي"، باعتبارهم: "عرق رائع يبلغ عددهم 200 ألف نسمة يسيطرون على ثلاثة ملايين نسمة من الهوتو، وبفضل انضباطهم الصارم يحافظون على هيمنتهم ونقاء عرقهم".

 

الأنثروبولوجية الاستعمارية الألمانية 

في عام 1894، وصل المستكشف الألماني، غوستاف أدولف فون غوتزين، إلى رواندا والتقى بملكها كيغيلي. في ذلك الوقت، كانت القوى الأوروبية تتنافس للاستيلاء على أجزاء في القارة الإفريقية، وكانت رواندا تتعرض لهجمات متعددة من القوات البلجيكية التي أرادت ضمها إلى "دولة الكونغو الحرة"، التي سيطر عليها الملك البلجيكي.

وفي وقت لاحق، وجد ملك رواندا نفسه مضطرًا للخضوع للألمان، إذ كان بحاجة إليهم للحفاظ على سلطته الهشة ضد أعدائه الداخليين، ولحمايته من البلجيكيين. هكذا، أصبحت رواندا في عام 1897 جزءًا من الإمبراطورية الاستعمارية الألمانية، وصار الطبيب والباحث الألماني ريتشارد كاندت، في عام 1907، أول مندوب استعماري دائم في رواندا.

يقول المؤرخون الروانديون إن كلًا من غوتزين وكاندت انبهرا برواندا عندما جاءا إليها وشعرا: "ببعض الهوس بكل ما شاهداه من جمال ورقي وهندسة معمارية وفن"، وكان ذلك واضحًا في كتابات فون غوتزين في وصفه للبلاط الملكي وما كان عليه من حيوية بوجود آلاف الأشخاص المحاربين والمحيطين بالملك، وعبّر عن إعجابه بالاحتفالات التي كانت تجري ووصفها بأنها رائعة.

وقد خلق هذا الانطباع، الذي عبّر عنه كاندت وفون غوتزين، اعتقادًا عنصريًا استعماريًا مفاده أنه لا يمكن لما سبق أن: "يأتي من هؤلاء الزنوج أو السود، لا بد أن يأتي هذا منا نحن البيض". 

وفي هذا الجانب، كتب كاندت عام 1899: "رواندا بلد مليء بالأمل إذا تمكنا من تدمير قوة التوتسي"، وكان كاندت شخصية محورية في احتلال رواندا، فقد اهتم بدراسة الثقافة واللغة والجغرافيا، وكان له تأثير مهم على التصور الغربي عن رواندا. 

لم يغير الألمان البنية الاجتماعية للبلاد كثيرًا، لكنهم مارسوا نفوذًا كبيرًا من خلال دعمهم للملك يوهي موسينغا، والتسلسل الهرمي في البلاد، وتفويض السلطة إلى الزعماء المحليين. لكنهم لم يكونوا ضيوفًا مرحبًا بهم، بل جاءوا وفرضوا سلطتهم واستولوا على الأرض لصالح القيصر ومن أجل إمبراطوريته. 

وخلال بداية حقبتهم الاستعمارية، قام الألمان بدراسات لمحاولة معرفة الأصول العرقية للروانديين، لكن الأمر لم يأخذ أبعادًا أكاديمية، بل سجلت فظاعات في هذا الإطار، حيث كشفت دراسة ألمانية - رواندية أن 900 جمجمة بشرية محفوظة في ألمانيا قد سُرقت من رواندا بين عامي 1907 و1908، استولى على معظمها عالم أنثروبولوجيا يُدعى يان تشيكانوفسكي، عمل مع فريق من المبشرين في البلاد الذين علموا بأن الروانديين يدفنون موتاهم في الكهوف، لذلك كان من السهل عليهم معرفة الأماكن التي يمكن الذهاب إليها دون الحاجة إلى الحفر والتنقيب. 

روانديون يحفرون القبور
روانديون يحفرون القبور (The Washington Post/ ميغازين)

شُحنت الجماجم التي أُخذت من الكهوف إلى ألمانيا، حيث استُخدمت في دراسات الغاية منها تصنيف الروانديين، وإثبات وجود فوارق عرقية بينهم. واستندت هذه الدراسات إلى نظرية "العرق الحامي"، إذ قُسّمت الرفات البشرية إلى "هوتو" و"توتسي" و"توا" بالاعتماد على معلومات قد تكون خاطئة.

واستنادًا إلى هذه الخلاصات غير الدقيقة، وضِعَ الأساس المستقبلي للأعراق في رواندا رغم عدم وجود حدود واضحة أو فوارق بين "الهوتو" و"التوتسي" و"التوا".  وكان ذلك دليلًا على التصنيف العرقي الزائف الذي قام به الأوروبيون في رواندا. 

قبل ذلك، كانت النظريات العنصرية، التي تقسم البشر إلى أعراق مختلفة، تحظى بشعبية كبيرة في المتحف الملكي لعلم الأعراق في ألمانيا. وقد كَلّف مدير قسم إفريقيا وأوقيانوسيا في المتحف، العالم الأنثروبولوجي فيليكس فون لوشان، الباحثين في المستعمرات الألمانية بجلب أكثر من 9 آلاف قطعة رفات بشرية أغلبها جماجم، وهياكل عظمية. كان الهدف من ذلك تحليل اللغات والثقافات المادية، وغير المادية، والمظهر الجسدي للناس، بهدف إنشاء تصنيفات عرقية، بحيث يقال إن هناك عرق متفوق، وعرق هاجر من منطقة واختلط بعرق آخر، ثم جرى تصنيف هذه الأجناس وفق تسلسل هرمي. 

يذهب باحثون إلى القول بأن الدراسات الأنثروبولوجية الاستعمارية الألمانية لها علاقة بالانقسامات العرقية التي أدت إلى الإبادة الجماعية. لقد تم وضع الحجر الأساس لهذا الأمر في ذلك الوقت، وتم الاستمرار في هذا الأمر إلى أن تم تنفيذه وترسيخه قانونيًا.

 

سياسة التفرقة العنصرية البلجيكية

دفع الملك الرواندي يوهي موسينغا، خلال الحرب العالمية الأولى، بنحو ألف من جنوده للقتال إلى جانب الألمان. وفي عام 1916، استولى البلجيكيون على رواندا بعد أن خسر الألمان الحرب. ورغم دعمه للألمان، احتفظ موسينغا بمنصبه كملك لرواندا، لكن البلجيكيين جردوه تقريبًا من كل سلطاته.

في بداية عهد سيطرتهم على رواندا، ساهم البلجيكيون بشكل منهجي في توسيع دائرة الانقسام بين "التوتسي" و"الهوتو"، وفق خرافة "عرق الحاميين" التي جلبها الألمان إلى رواندا.

يقول المؤرخ الرواندي دانتيس سينغيز إن المسؤول عن أبعاد "الهوتو" عن السلطة وامتيازاتها لم يكن زعماء "التوتسي" أو ملك رواندا، بل الإدارة البلجيكية، حيث فرض البلجيكيون سياسات عنصرية عبر طرح قوانين جديدة تسمى "إصلاحات فوازان"، وقاموا بتفضيل "التوتسي" وتهميش "الهوتو". 

حصل أفراد "التوتسي" على فرص التعليم في المدارس وإمكانية شغل المناصب الحكومية أيضًا، في حين قامت السلطة الاستعمارية البلجيكية بمصادرة الأراضي والماشية من "الهوتو"، الذين كانوا يتلقون تعليمهم في المدارس التبشيرية ليصبحوا قساوسة كاثوليك.

وهكذا، بدءًا من عام 1926، أصبح "الهوتو" مواطنين من الدرجة الثانية بشكل قانوني. كما بات لـ"التوتسي" وحدهم، ابتداءً من 1928، الحق في أن يصبحوا زعماء، وتم استبدال جميع زعماء "الهوتو" بزعماء من "التوتسي"، والنتيجة نسف الطريقة التقليدية التي كانت تُحكم بها رواندا. وخلال هذه الفترة، رعت بلجيكا بشكل خاص "أيديولوجيا الكراهية" بين "الهوتو" و"التوتسي". 

وفي عام 1931، خلع البلجيكيون الملك يوهي موسينغا لرفضه التعاون معهم، وتولى الحكم ابنه روداهيجوا الذي أصبح يحمل لقب "موتارا الثالث"، وكان قريبًا من الأوروبيين ويتحدث الفرنسية، وبديلًا جيدًا لوالده. 

وإسهامًا منها في التفرقة، طرحت بلجيكا عام 1932 بطاقة هوية في رواندا تتضمن خانة يُذكر فيها عرق الشخص، ليُصنّف بعدها كل رواندي على أنه: "توتسي"، أو "هوتو"، أو "توا". وكان الهدف من ذلك إظهار "التوتسي" على أنهم يعيشون بشكل منفصل تام عن "الهوتو". وبذلك، تعززت سياسة الفصل العنصري بين الروانديين.

إضافةً إلى ذلك، سار البلجيكيون على خطى الألمان، حيث كان عالم الأنثروبولوجيا البلجيكي، جان هيرنوا، وحتى نهاية خمسينيات القرن الفائت، يأخذ قياسات لمواطنين روانديين ليثبت اختلاف أعراقهم. 

في تلك الفترة، بدأت تتصاعد موجات التحرر من الاستعمار في إفريقيا، وشهدت رواندا انتفاضة لإنهاء الاستعمار البلجيكي قادها نخبة من "التوتسي"، مع الإبقاء على الملكية الحالية. لكن بلجيكا قاومت هذه الانتفاضة، وقامت بتحريض "الهوتو" على "التوتسي" ليس حبًا بهم، بل من أجل مصالحها الخاصة كقوة استعمارية. 

وفي عام 1959، قاد غريغوار كايباندا، وهو رجل سياسة وقومي من "الهوتو"، ما يُعرف بـ"ثورة فلاحي هوتو"، أو "الثورة الاجتماعية"، التي بدأت بسلسلة من الهجمات والحرائق المتعمدة ضد منازل "التوتسي".

انتشر العنف بسرعة على طول البلاد، وسعى الملك كيغيلي الخامس وسياسيو "التوتسي" لشن هجوم معاكس لإيقاف هجمات "الهوتو" وطرد البلجيكيين، لكنهم فشلوا واستطاع الكولونيل البلجيكي غاي لوغيست، الذي أُحضِر من قبل الحاكم الاستعماري البلجيكي من أجل إعادة الهدوء إلى البلاد. وبذلك، فشلت انتفاضة "التوتسي" وأدى العنف ضدهم إلى قتل الألاف منهم، وتهجير أكثر من 336 ألف شخص إلى البلدان المجاورة. 

أعاد لوغيست تأسيس النظام عبر برنامج للترويج وحماية نخبة "الهوتو". كما قام البلجيكيون بعد ذلك باستبدال العديد من زعماء وقادة "التوتسي" في البلاد بخصومهم من "الهوتو"، وجعلوا الملك كيغيلي الخامس ملكًا صوريًا. بل ونظمت بلجيكا انتخابات محلية سيطرت على إثرها أحزاب "الهوتو" على معظم المقاطعات في البلاد.

وفي العام 1961، أعلن القائد العسكري البلجيكي، الكولونيل غاي لوغيست، إلغاء الملكية في رواندا التي أصبحت جمهورية متمتعة بالحكم الذاتي، لتصبح في العام اللاحق جمهورية مستقلة، ويتقلد زعيم "الهوتو"، غريغوري كايباندا، منصب أول رئيس للبلاد.

روانديون يدفنون الموتى
روانديون يدفنون الموتى (The Washington Post/ ميغازين)

استمرت حلقة جديدة من الصراع والعنف الطائفي بعد الاستقلال، إذ شهد عهد كايباندا استبعاد "التوتسي" من تقلد أي منصب مدني أو عسكري. في المقابل، بدأ اللاجئون من "التوتسي" في تنزانيا وزائير، الساعين لاسترداد مواقعهم السابقة في رواندا، ينظمون أنفسهم ويشنون الهجمات على أهداف للحكومة المشكلة من "الهوتو". وكان أكبر هجوم نفذوه ذلك الذي وقع في أواخر عام 1963، والذي اقتربوا بفعله، وبشكل مفاجئ، من العاصمة كيغالي. لكن قوات الحكومة هزمت المهاجمين، وأسفر الهجوم عن عمليات قتل انتقامية وحشية لأعداد كبيرة من "التوتسي" خلّفت موجات جديدة من اللاجئين.

وفي العام 1973، وقع انقلاب عسكري في رواندا قاده قائد الجيش حينها جوفينال هابيا ريمانا، الذي نصب نفسه رئيسًا للبلاد بعد أن أزاح كايباندا. ومع أنه وعد بالسلام مع "التوتسي"، لكنه قام في الواقع باستبعادهم من كل الخدمات التي تقدمها الدولة، بما في ذلك التعليم والخدمات العامة.

وزاد في عهده عدد اللاجئين "التوتسي" في البلدان المجاورة، الذين حرمهم حتى من العودة إلى ديارهم، بحجة أن زيادة الضغوط السكانية وقلة الفرص الاقتصادية المتوفرة لا يسمحان باستيعاب أعداد كبيرة من لاجئي "التوتسي".

أبقت الحكومات الرواندية المتعاقبة منذ الاستقلال عام 1962 وحتى الإبادة الجماعية عام 1994، على إرث الاستعمار. كانت بطاقة الهوية والعديد من الوثائق الرسمية تحمل خانة يحدد فيها العرق ما بين "هوتو" و"توتسي" و"توا"، وتسببت هذه التقسيمات في المزيد من الدمار والخسائر في الأرواح. 

وفي قراءة للتاريخ الرواندي، يتجلى أمامنا بوضوح أن جذور الإبادة ظهرت مع قدوم المستعمر الأوروبي الذي طبّق سياسات تحافظ على  مكاسبه الخاصة من أجل تثبيت وجوده، لكن الكلفة على الروانديين كانت كبيرة جدًا حين اعتقدت فئة منهم أن وقوف المستعمر الأوروبي إلى جانبهم يعد مكسبًا لهم.

وبعد ثلاثين عامًا على الإبادة، خُلق جيل جديد يعيش اليوم في رواندا، وأصبحت بالنسبة له مصطلحات "توتسي" و"الهوتو" و"توا" من الماضي، كما أُزيلت الخانة التي تدل على العرق من بطاقات الهوية.

لكن الجيل القديم الذي عايش الإبادة لا يزال بعض أفراده يؤمنون بنظرية الأعراق. رغم ذلك، توصل الجميع إلى قناعة بأن تاريخ البلاد لا يُترك للغرباء ليكتبوه ويشكّلوه بشكل مشوه، لأن تداعيات ذلك ستكون مزيدًا من القتل والإبادات الجماعية. 

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

2

أم كلثوم وصناع مجدها.. هل كانت ستصبح أسطورة في زمن آخر؟

كانت أم كلثوم بِنتَ لحظتها التاريخية بامتياز، تلك اللحظة التي هيّأت المكان والمكانةَ لأسطورةٍ تكتسب خلودَها من صوْتها ومن ظرْفها التاريخي ومن دورها التاريخي

3

معهد الموسيقى العربية.. حكاية نادٍ صغير صار صرحًا موسيقيًا

بدأت حكاية هذا الصرح من الاجتماع في بيت صغير لعازف القانون مصطفى بك رضا، وذلك قبل أن تتبدل الأحوال نتيجة أمور عديدة يطول شرحها

4

بين صافرتي البداية والنهاية.. كرة القدم كاستعارة للحياة

إنها لعبة معقدة، تحمل العديد من التشابهات مع الحياة اليومية، ففيها يمكنك أن تعمل ضمن مجموعة واضحة المعالم، وأن تقدم التضحيات على صخرة 'الكورفا' المقدسة، وأن تتحمل المسؤولية

5

فقاعة الأمان تحت الاحتلال.. كيف يُصنع الخوف في الضفة الغربية المحتلة؟

إن وجد غطاء للأمان فهو وهمي وغير حقيقي، لأنه في نهاية المطاف يوجد من يتحكّم بمجريات الحياة الفردية والجماعية والتخطيط لها

اقرأ/ي أيضًا

حكاية معهد الموسيقى العربية

معهد الموسيقى العربية.. حكاية نادٍ صغير صار صرحًا موسيقيًا

بدأت حكاية هذا الصرح من الاجتماع في بيت صغير لعازف القانون مصطفى بك رضا، وذلك قبل أن تتبدل الأحوال نتيجة أمور عديدة يطول شرحها

محب جميل

المسمط.. ثقافة شعبية وليست مجرد أكلة
المسمط.. ثقافة شعبية وليست مجرد أكلة

"يا جابر.. على الله": المسمط ثقافة شعبية وليست مجرد أكلة

يعكس المسمط جزءًا من الثقافة الشعبية المصرية، إذ يمثل مزيجًا فريدًا من البساطة والتقاليد المتوارثة التي ساهمت في صياغة الهوية الغذائية للمجتمع المصري، منذ عصر الخلفاء المسلمين وصولًا إلى يومنا هذا

محب جميل

أوداغست

حكايات عن أوداغستْ.. موريتانيا ومعالمها المجهولة

تعاني المعالم الأثرية الموريتانية من إهمالٍ كبير رغم تاريخها العريق والممتد في أعماق الزمن، وتعد حالة مدينة أودغاست مثالًا حيًا يحمل دلالات عميقة

أحمد ولد جدو

الأفراح المصرية

الأفراح المصرية قديمًا.. ما الذي جمع بين التختروان والفتوات؟!

شكّلت الأفراح، على تنوّع طقوسها بين الأرياف والطبقات الثرية، عنصرًا أساسيًا في تشكيل الهوية الثقافية المصرية

محب جميل

ahzab-almghrb

التجربة الحزبية في المغرب.. سيرة التفكك والانشقاق

كيف تحولت الزاوية الدينية من أداة للتعبئة السياسية إلى نواة لتأسيس الأحزاب؟ وكيف أسهمت الدولة في تشكيل مشهد حزبي متعدد لكنه مأزوم بالانشقاقات؟

عبد المومن محو

المزيد من الكاتب

محسن القيشاوي

كاتب وصحافي فلسطيني

قبل الكارثة.. عن الحاجة إلى إعادة إحياء منظمة التحرير

جرى الحديث في الكثير من المناسبات عن ضرورة إصلاح منظمة التحرير، لكن الأمر ظل مجرد حبر على ورق

قطاع غزة.. تاريخ مقاوم

راكمت غزة على مدار أكثر من 100 عام تجارب مختلفة في العمل المقاوم، بدأت مع الانتداب البريطاني، ثم النكبة، فعدوان 1956، وصولًا إلى النكسة وما بعدها

الاستيطان في فلسطين.. مشروع استعماري لإعادة رسم خارطة المنطقة

كل الجهود التي بُذلت لتوطين اليهود في فلسطين لم تكن سوى ذريعة لإيجاد كيان حليف يتم تسخيره لخدمة المصالح الاستعمارية الغربية في الشرق الأوسط

جبهة إسناد غزة.. من الالتزام بقواعد الاشتباك إلى الأيام العشرة القاسية في عمر الحزب

تلقى حزب الله ضربات متتالية استنزفته، ورغم كل ذلك ظل على نشاطه في جبهة الإسناد، وصعّد من عملياته، بالموازاة مع إدارته للمعركة البرية بشكل يُحسب له

المرتزقة الكولومبيون.. قتلة تحت الطلب

تحوّلت كولومبيا إلى خزان للمرتزقة الذين وظّفوا خبراتهم، التي اكتسبوها في القتال ضد اليساريين وتجار المخدرات أثناء خدمتهم في الجيش، في العمل كقتلة تحت الطلب

طيف جيم كرو الذي لم يغادر الولايات المتحدة

أضفت قوانين جيم كرو شرعية قانونية على سياسة الفصل العنصري، وساهمت في ترسيخ ثقافة فوقية تضع السود في مرتبة أدنى من البيض، وتعزز العنف الممنهج ضدهم