شكّلت الأفراح رافدًا أساسيًا من روافد الشخصية المصرية عبر الزمن، ولطالما داعبت هذه الأفراح خيال صُنّاع السينما والأدباء، بكل ما فيها من طقوس وفقرات وأغنيات. وقد تباينت الأفراح فيما بينها من حيث البيئة الجغرافية والمستوى الاجتماعي. فأفراح المناطق الشعبية مختلفة عن أفراح المناطق التي يقطنها الأثرياء وكذلك سُكان الأرياف والصعيد. فهذا الاختلاف لم يكن وليد اللحظة، لكنّه تشكل وتبلور مع الوقت من جيلٍ إلى جيل ومن عصرٍ لآخر. وهكذا ظلّ يراودني هذا السؤال: كيف اختلفت الأفراح المصرية بمرور الوقت وما هي أبرز الفقرات والطقوس التي كانت حاضرة في أغلبها قديمًا؟
أحمد محفوظ صاحب كتاب "خبايا القاهرة" يعد من أبرز المؤرخين الذين اهتموا بالكتابة عن طقوس الأفراح قديمًا، وكذلك محاولة تشريحها من حيث الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية. وحاول في كتابته أن يضيف عنصر خفة الظلّ إلى جانب السرد السلس في تناول الحقائق والشخصيات. وإلى جانب محفوظ، شكّلت المادة الأرشيفية الصحفية وثيقة ثرية للتعرف أكثر وأكثر على هذا الموضوع بكل أبعاده. فقد نشرت مجلة "الدنيا المصورة" التابعة لـ"دار الهلال"، بتاريخ 26 حزيران/يونيو عام 1930، تحقيقًا ثريًا تحت عنوان "غرائب الأفراح الشعبية القديمة في مصر"، وفيها نتعرف على الكثير من المعلومات الشيّقة والثرية حول الأفراح بين القديم والحديث وليلة الحنة وليلة الزفاف وزفة العروس والعريس وغيرها من الأشياء النادرة.
من كتخدا إلى أفراح الأنجال
استند التحقيق السابق إلى ما أورده الجبرتي في كتابه "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" في وصفه للفرح الذي جمع بين إسماعيل بك مملوك علي بك الكبير وابنة الأمير إبراهيم كتخدا. يقول الجبرتي: "وفي هذه المدة ظهر شأن علي بك بلوط قبن واستفحل أمره، وقلد إسماعيل بك الصنجقية وجعله أشراقه وزوجه هانم بنت سيده وعمل له مهمًا عظيمًا احتفل به للغاية ببركة الفيل. وكان ذلك في أيام النيل سنة 1174 فعملوا على معظم البركة أخشابًا مركبة على وجه الماء يمشي عليها الناس للفرجة. واجتمع بها أرباب الملاهي والملاعيب وبهلوان الحبل وغيره من سائر الأصناف والفرج والمتفرجون والبياعون من سائر الأصناف والأنواع، وعلقوا القناديل والوقدات على جميع البيوت المحيطة بالبركة، وغالبها سكن الأمراء والأعيان أكثرهم خشداشين بعضهم البعض ومماليك إبراهيم كتخدا أبي العروس. وفي كل بيت منهم ولائم وعزائم وضيافات وسماعات وآلات وجمعيات".
ويضيف: "استمر هذا الفرح المهم مدة شهر كامل، والبلد مفتحة والناس تغدو وتروح ليلًا ونهارًا للحظ والفرجة من جميع النواحي. ووردت على علي بك الهدايا والصلات من إخوانه الأمراء والأعيان والاختيارية والوجاقلية والتجار والمباشرين والأقباط والإفرنج والأروام واليهود، والمدينة عامرة بالخير والناس مطمئنة والمكاسب كثيرة والأسعار رخيصة والقرى عامرة. وحضرت مشايخ البلدان وأكابر العربان ومقادم الأقاليم والبنادر وبالهدايا والأغنام والجواميس والسمن والعسل، وكل الأمراء الإبراهيمية كأنه صاحب الفرح والمشار إليه من بينهم صاحب الفرح علي بيك".
يوضح الوصف السابق الذي أورده الجبرتي الطقوس العامرة التي حظي بها هذا الفرح وطبيعة الحضور والفقرات والهدايا التي كانت تُقدم حينها بين هذه الطبقات. ولم يكتفِ الجبرتي عند هذا الوصف، بل راح يصف لنا، زفة العروس وما بها من عجائب. يقول في المُؤَلف ذاته: "وبعد تمام الشهر زُفت العروس في موكبٍ عظيم شقوا به من وسط المدينة بأنواع الملاعيب والبهلوانات والجنك والطبول ومعظم الأعيان والجاويشية والملازمين والسُعاة والأغوات أمام الحريمات، وعليهم الخلع والتخاليق المثمنة، وكذلك المهاترة والطبالون وغيرهم من المقدمين والخدم والجاويشية والركبدارية والعروس في عربة. وكان الخازندار لعلي بيك في ذلك الوقت محمد بك أبو الذهب ماشيًّا بجانب العربة، وفي يده عكاز ومن خلفها أولاد خزنات الأمراء ملبسين بالزرد والخود واللثامات الكشميري مقلدين بالقسي والنشاب وبأيديهم المزاريق الطوال، وخلف الجميع النوبة التركية والنفيرات".
وإذا كنا قد تحدثنا عن البذخ في الأفراح، فينبغي التنويه بحفلات الزفاف التي أقامها الخديو إسماعيل وعُرفت تاريخيًا باسم "أفراح الأنجال". ففي العام 1873، قرر الخديو تزويج أربعة من أولاده هم: توفيق (ولي العهد) وحسين وحسن وفاطمة. فالمؤرخ جمال بدوي يورد في كتابه "مصر من نافذة التاريخ" أنه أراد أن تفوق تلك الأفراح في أبهتها وفخامتها حادث زواج الأميرة قطر الندى بنت حكام مصر آنذاك خماوريه بن أحمد بن طولون، بالخليفة العباسي في بغداد. فقد دامت أفراح الأنجال أربعين ليلة كاملة، بمعدل عشرة أيام لكل فرح. فاختلط الليل بالنهار وتحوّلت القاهرة إلى كرنفالٍ ضخم تسطع فيه الأضواء. وأصبحت القصور الخديوية في عابدين وقصر النيل والقبة بمثابة موائد عامرة بأصناف الطعام والشراب التي تُقدم لآلاف المدعوين. وإذا أردنا أن نتعرف على شكل شوار زفة الأميرة أمينة على ولي العهد الأمير محمد توفيق، علينا العودة إلى مقالة المؤرخ المسرحي د. سيد علي إسماعيل في جريدة القاهرة بتاريخ 11 حزيران/يونيو 2019، والتي سنكتفي منها بالوصف الأول.
يقول سيد إسماعيل إن جريدة "الجوائب" اهتمت بوصف موكب شوار الأنجال – جهاز العروس – فأفردت لهذا الوصف موضعين، قالت في الأول بتاريخ 22/1/1873: "موكب فاخر لإرسال هدايا الجهاز من سراية عابدين إلى سراية الحلمية التي فيها حضرة الكريمة المشار إليها [أي أمينة إلهامي] وإلى مقر كريمة أفندينا الخديو المعظم [أي فاطمة] التي يتأهل بها الأمير الجليل حضرة دولته طوسون نجل المرحوم سعيد باشا طاب ثراه. وكان هذا الموكب مؤلفًا من نحو ألفي نفر من العساكر فخرجوا من سراية عابدين ومروا بالموسكي وكان أمامهم نحو عشرين فارسًا من الخيالة الخاصة وبعدهم أصحاب الموسيقى العسكرية وهم يضربون بآلات الطرب وبعدهم ست صواني كبيرة يحمل كل منها أربعة من العسكر ففي الصينية الأولى تاج فاخر باهر مرصع بالألماس النفيس يرى لمعانه من مسافة بعيدة وهو تاج ملوكي من صنع باريس من أول طبقة وبعده صينيتان عليهما تاجان آخران مرصعان بحجارة ثمينة جديران بأن يُهديا إلى أية ملكة كانت وفي الصينيتين الأخريين قطع من الحلي مرصعة بالماس والجواهر الفاخرة مما يعز وجوده إلا عند الملوك والسلاطين وبعدهم مشى نحو مائتي نفر ثم الخيالة الخاصة ثم أصحاب الموسيقى ثم ثماني صواني أخر يحمل كلاً منها أربعة من العسكر وعلى كل منها قطع حلي من الماس والجواهر البهية فكان منظرها يدهش الناظرين وكانت مغطاة بقماش رفيع جدًا لكن القماش لم يخف لمعانها المتتابع ثم جاءت أصحاب الموسيقى ثم سائر العساكر ثم صينية أخرى عليها تاج من الماس بهي المنظر جدًا ثم مائة وعشر صواني كبار يحمل كلًا منها ستة من العساكر وعلى كل منها صحون وشمعدانات وكاسات ونحو ذلك بعضها من الذهب وبعضها من الفضة مما لا يمكن وصفه".
رحلة التختروان ومعارك الفتوات
في التحقيق السابق للمجلة، نعرف أن زفة العروس قديمًا كان تنقسم إلى شكلين: الأولى هي الزفة التي تسير فيها العروس من دار أبيها إلى دار زوجها. والشكل الآخر، تدخل فيه الزفة إلى حجر المنزل. أما زفة الشارع، فكانت تسير حسب النظام المتفق عليه. ففي المقدمة، يجتهد المهرج في ملابسه الجلدية في إضحاك الحضور والتقلب في الهواء. وذلك قبل أن يتبعه الطبالون فوق الجمال والذين يتقدمهم شاعر بربابة وكل جمل يمسك به رجل في الزي العربي. وأمام هذا الشاعر، أبطال زائفون في زي العرب وفي يدهم ثمة بنادق وسيوف، لكنّها للعروض فقط. وهم يتظاهرون بالكَر والفر أثناء الزفة كأنهم في ميدان معركة. وفي بعض الأحيان، يسير في الزفة موكب مزيّف لملكٍ كالذي في بيت التمثيل، إيهامًا بأن هذا الملك تنازل وخرج من قصره لحضور هذا الزفاف. ومن خلف هذه الجمال، كان التختروان يتهادى. وهو عبارة عن حجرة خشبية تشبه الهودج، صُنعت بدقةٍ ومهارةٍ من الزخارف الخشبية العربية وتم تطعيمها بالصدف والعاج والأبنوس. وكان يتولى أمر الزفة، رجال يثق أهل العروس فيهم وغالبًا ما يكونوا من الوكلاء والموظفين والعملاء، فلم يكن يُشترط أن يكونوا من الأقارب. والغريب في الأمر، أن العربة الأخيرة من الزفة، كانت تُسمى أحيانًا بعربة المطبخ وهي تضم العاملين في البيوت من النساء والمعارف. فكانت الزغاريد تنطلق من العربات كافة، إذا كانت هذه الزفة لأولاد البلد أو العربة الأخيرة فقط إذا كانت الفرح لأحد الوجهاء أو البشاوات.
كانت هذه الزفات أيضًا يتم حمايتها من قبل الفتوات والذين يأخذون على عاتقهم مهمة تأمين الزفاف. وعندها يجتمع الفتوة بفتوات الحي ويتقدمهم في الموكب. ويسير وهو يمسك بعصاه الغليظة في يد ويربت بالأخرى على كتف أحد ضاربي النقارية. فقد جاء في تحقيق شيّق نشرته "الدنيا المصورة" بتاريخ 14 أيلول/سبتمبر 1930 تحت عنوان "الفتوات في مواكب العُرس"، أنه قد لا تمر دقيقة أو دقيقتان حتى تسمع نداءً يقول: "الجدعان.. وكمان مرة الجدعان وأنا وأنت".
وعندما ينتهي هذا النداء، تبدأ الفرقة الموسيقية بالعزف. وهنا يتقدم الفتوات وينفح كل منهم بدوره رئيس الفرقة. بل ومن الواجب أن يذكر الفتوة أسماء فتوات الجهة وأهل العريس زهاء ربع الساعة ويختمها بقوله: "وكمان الجدعان... وكمان الجدعان... وأنا وأنت". وكان يطيب لهم أيضًا أن يوقفوا الزفة في منتصف الشارع ويشرعوا في الرقص على صوت الطبل البلدي والمزمار رقصات متزنة وقد ينزل إلى الميدان فتوة آخر فيتساجل معه في ضرب العصا والتحطيب. والأهم أنه قبل أن تنطلق الزفة، يرسل الفتوة المسئول عن تأمينها إلى فتوات الشوارع والحواري الأخرى التي سيجتازها الموكب، ليعلمهم بخط سيرهم. ويطلب من الفتوات الأشداء حماية العروس، لأن تلك الجولات والزفات كانت تنتهي – في الغالب – بمعارك دامية فيما بينهم. والفتوة الذي ينتصر في النهاية وينجح في تأمين الموكب، تطوف شهرته الآفاق ويتحدث به القاصي والداني في الحارات المجاورة.
أغاني الأفراح والليالي الملاح
ظلّت الموسيقى عنصرًا أساسيًّا في الأفراح قديمًا وحديثًا. ففي الماضي، كان الوجهاء والأثرياء يستقدمون الفرقة الأميرية إلى الفرح، بينما أولاد البلد يجلبون فرقة حسب الله أو دربكة فرحات. وكانت تأتي إلى الفرح، عربة مزدانة بالشال الكشميري والورود وحولها جماعة الضوية الذين يرتدون ملابس فضفاضة ولهم عمامة أيضًا.
كانت عربة العروس تشبه العربة الملكية مع وجود بعض الاختلافات. فكانت تُجر بواسطة جياد أربعة وخلفها يوجد شخصان يرتديان بذلة خاصة وطربوشًا أحمر. وخلف عربة العروس، تجري عربات أخرى (الكوبيل) وهي من العربات المغلقة التي لم يكن قد تبقَى منها حينها سوى القليل. ومن بين العربات كذلك، عربة مكشوفة تقل كلًّا من المطاهر أو الحاج في طقوس أخرى، لكن أغلب الحجاج كانوا يفضلون ركوب الخيل أو الجمال المزركشة. وتبدأ بعدها عادة رشح الملح على صيحة: "ملحة في عين اللي ما يصلي على النبي". وعندما تنزل العروس من عربتها، تسير في طريق مفروشٍ من الخيام وتُرش عليها النقود حتى تصل إلى الكوشة. نعرف كذلك من كتاب (أغانٍ مصرية) الذي جمعت مادته وترجمتها إلى اللغة الإنجليزية، بهيجة صدقي رشيد والمنشور سنة 1958، بأن أغنية الزفة تقول بعض كلماتها: "اتمخطري يا حلوة زينة/ يا وردة من جوه جنينة/ يا عود قرنفل يا عروسة/ والورد ضلل علينا". ويساند العروس حينها، صديقتان تحملان باقات ورد وشمعدانات. وعندما تعود إلى الكوشة، تبدأ السيدات في تقديم الهدايا إليها وعندها تنادي إحداهن بنوع الهدية وصاحبتها. أما المدعوات من السيدات، فيتبرعن بالنقود إلى العوالم اللائي يحيين العُرس.
ومن بين العوالم اللاتي اشتهرن بإحياء الأفراح، الصيرفية وبمبة كشر. ففي الوقت الذي كان العريس يصعد فيه إلى بيته، تنصرف العوالم ويبدأ المطرب في الصهللة وخصوصًا أنه مع انصرافهن، تقل الضوضاء وتخف ضربات الدف والدربكة. وكان العريس يسير بين أصدقائه وهم يحملون الصحب والفنانير (الشمعدانات) ويمشي أمامه صفان من المعارف والأحباب وبينهم المطرب الذي يجلجل بصوته في الأرجاء. وأمامهم على بعد أمتار الطبل البلدي وأبطال الرقص وفي المقدمة المزيكاتية وجماعة الإسكندرانيين الذين يبدون شجاعة كبيرة في حمل الدكة الخشبية بأسنانهم والجلوس بها على الأرض بينما يتراقصون. ولا شك أن المشاهد التي ذكرناها هنا، هي مجرد صورة مصّغرة للعديد من التفاصيل التي تحتاج إلى استفاضة أخرى وخصوصًا فيما يتعلّق بطقوس الاحتفال وفقرة العوالم والمطربين. والحق إن الأفراح ظلّت حتى يومنا مرآة للعديد من الظواهر المجتمعية والإنسانية.












