لا يزال قاموس الحياة المصرية يدهشنا بالعديد من المهن التي توارت مع الزمن وأصبحت طي النسيان. وبات من النادر أن تعثر على أخبارها إلا لمامًا، سواء في قصاصات الصحف القديمة، أو صفحات المجلات العتيقة، أو بعض الكتب المتوارثة.
صحيح أن بعض هذه المهن كان يحتاج إلى مجهود عضلي شاق للقيام به، لكن البعض الآخر كان يقوم على الذكاء والقدرات الذهنية العالية، وكذلك القدرة على التحدث من خلال طلاقة اللسان. ومن بين هذه المهن التي كانت تجمع بين الذكاء وطلاقة اللسان، مع خفة الظل، مهنة "اشمعنى" أو "القافية المصرية".
القافية تحكم
على الرغم من أن هذه المهنة كانت منتشرة في المجتمع المصري، وخاصةً في عشرينيات القرن الماضي، إلا أنه لا يوجد تعريف محدد يمكن من خلاله استنباط بياناتها ومعرفة تفاصيلها كافة. ولذلك، كان لا بد من الرجوع إلى "قاموس العادات والتقاليد والتعابير المصرية" (1953) لمؤلفه أحمد أمين، الذي يقول فيه: "القافية على لسان عوام المصريين نوع من المزاح، يقول أحدهم كلمة فيرد عليه الآخر بكلمة تثير الضحك. ولكل حرفة من الحرف قافية؛ فقافية للمزينين، وللجزارين، ولكل شيء ولذلك يحترسون عند الكلام الجد فيقولون بلا قافية، يريد أنه لا يمزح بل يجد".
وأورد أمين في أمثلته مجموعة واسعة من القوافي المصرية في مجالات عديدة، كأن يقول أحدهم في قافية النحو: "كيسك! اشمعنى"! فيرد الأخر: "ممنوع من الصرف"! وهنا تتضح بسهولة جزالة المعنى عن طريق ربط فكرة صرف النقود في الأكياس الشخصية بقواعد المنع من الصرف في علم النحو.
وهناك أيضًا قافية الحلاق مثلًا، كأن يقول أحدهم: "أنت في النصب! اشمعنى!"، ليرد الآخر: "أوسطى"! فكلمة أوسطى تدل على المهارة والحرفية في عمل أي شيء عند المصريين، لكنهم أيضًا يطلقونها على الحلاق الماهر. ويتم أحيانًا استدعاء القافية عند لعب "الضومنة"، وهي واحدة من ألعاب التسلية التي تُمارس في المقاهي الشعبية ولها ألفاظها الخاصة بها وقواعد لعبها، كأن يقول أحدهم: "أحط صباعي في عينك.. تقول بوَّظ زر طربوشك.. دوبارة.. أصلك.. دبش. عيونك.. شيش بيش". وهنا تم دمج المفردات الخاصة بلعبة الضومنة مع أوصاف حياتية عن عدم الخبرة أو قلة الكفاءة في العموم.
ومن بين القوافي أيضًا الكتاكيت، وذلك مثل قول أحدهم: "الفشر عندك.. كتر كتر. أنت في وسط الناس.. بتلقط. هدومك.. خطفتها العرسة. الجزم اللي على راسك.. عتاقي". ويبدو جليًا هنا القدرة على دمج مصطلحات تربية صغار الكتاكيت مع التوبيخ.
ليالي الأفراح الملاح
أصبحت هذه المهنة "اشمعنى" من الفقرات الثابتة في الأفراح المصرية، التي كانت تتميّز بوجود سرداق ضخم، حيث تصطف الأعلام هنا وهناك وترتص الكراسي في صفوف مع السجادات الحمراء. كما اعتاد المطربون أن يرافقهم خلال فقراتهم الغنائية فئة "المطيباتية". وهؤلاء هم الأشخاص الذين يعملون على مدح المطربين وإطرائهم بعبارات الاستحسان والاستزادة طوال فترة غنائهم في الأفراح، وهم يكررون عباراتهم بانتظام حتى ينتهي المطرب من أداء وصلته الغنائية. ويصبح من المألوف سماع عبارات من شاكلة: "سمع.. يا إخوانا.. هس.. كمان.. كمان يا سيدنا". وكانوا يحصلون في المقابل على أجر. وفي وقت الاستراحة من الوصلات الغنائية في تلك الأفراح، كانت تُقدم المشروبات والحلويات والمرطبات، حسب الذوق الشخصي.
وخلال فترات استراحة المطربين في هذه الأفراح أيضًا، كانت تطل فئة "اشمعنى" لإلقاء نكات هازئة من كل صنف ولون لتسلية الحضور. ومع الوقت، أصبحت من الفقرات الأساسية، وبدأت تُعتمد بشكل رسمي في برنامج السهرة.
وبحسب مقالة بعنوان "أفراد يعيشون من النكات في ليالي الأفراح"، نشرتها مجلة "الدنيا المصورة" بتاريخ 17 تموز/يوليو 1930، فقد اشتهر من هذه الفئة ثلاثة أشخاص: الأوسطى أحمد المزين، والشيخ مرجان، ودولي اليهودي. وقد احترف هؤلاء، مع الوقت، هذه المهنة التي جمعت بين إلقاء النكات الساخرة والعبارات الهازئة التي تقترن بلفظ "اشمعنى"، وكأنها تحولت مع الوقت إلى مبارزة كلامية بين فريقين يصبح الرابح فيها هو الشخص الذي يمتلك ناصية الكلام والقدرة على توظيف المفردة في مكانها السليم، وباتت هذه القافية بالنسبة لهم مصدر رزق ثابت.
ثلاثة محترفون
لقد أمدتنا المقالة السابقة بمجموعة من المعلومات الوافية حول هؤلاء الثلاثة والمكانة التي كانوا يحظون بها في محيطهم المهني. فأولهم، هو الأوسطى أحمد المزين، وهو رجل معروف للجماهير في الأحياء الوطنية، ناهز عمره التسعين، وعُرف بلقب "حلقوم الجمل"، وهو زعيم مهنة "اشمعنى" بلا منازع، وكان الأشهر بين أفرادها والأكثر حضورًا للأفراح.
كما تجمعه بالمطربين صلة صداقة قوية، بل إنه كان يمر على المطربين في بيوتهم لمعرفة أماكن ومواعيد الأفراح الجديدة في الأحياء. كما اعتاد أن يسبق المطربين إلى مواقع الأفراح، دون دعوة رسمية من أصحابها. وعلى الرغم من تقدمه في السن، فإنه كان يقطع مسافات بعيدة لحضور فرحين في ليلة واحدة.
وكان يعتمد على عكازه الطويل في السير على قدميه، وقد وُصِف بأنه كان يقف في وسط السرداق كما يقف المحامي في ساحة المحكمة. ولم تكن تبدو عليه أية علامة من علامات السعادة أو الضحك، إذ كان جادًا في عمله، لا توثر به أية قهقهة من الحضور. وكانت له عبارات مشهورة يبدأ بها كلامه أو مبارياته الكلامية الهزلية، مثل: "يا أرباب الهلس"، "يا أرباب التفاريح"، "مين ليه هوى"، "مين له ميل يخش لي آفية"؟ وكان له أيضًا مجموعة من الأبواب الثابتة في القوافي والتي لا ينبغي، في نظره، أن يحيد عنها أحد، وذلك مثل: باب "آفية المركب"، و"آفية الكتاكيت"، و"آفية الكتابة"، و"آفية النحو"، وغيرها من القوافي التي يحفظها عن ظهر قلب.
أما الشيخ مرجان، فكان رجلًا ضريرًا في هيئة العلماء ولكنه لم يكن منهم. وكان يحلو له أن يدخل في مبارزات كلامية مع الأوسطى أحمد المزين وهو يردد عبارته الشهيرة: "أنا يا واد أخش معاك أي آفية تعجبك". وهناك أيضًا شخصية دولي اليهودي، وهو رجل ضرير كان يضع على جبينه منديلًا أزرق يتدلى على عينيه. وكثيرًا ما جمعت هؤلاء الثلاثة، تحديدًا، معارك كلامية هزلية طاحنة.
مقاهي القافية الشعبية
لم يكن فن القافية من الفنون التي ارتبطت بالأفراح الشعبية فقط، بل كان جزءًا من المقاهي الشعبية أيضًا. فبعد أن انتشر صيته في المقاهي، انتقل بعد ذلك إلى الصحافة شأنه شأن الكثير من فنون القول، التي انتقلت من الحياة اليومية إلى سطور الورق ثم برامج الإذاعة وأفلام السينما وحلقات التليفزيون.
يقول المؤرخ عبد المنعم شميس في كتابه "قهاوي الأدب والفن في القاهرة" (1991): "ولم يكن أصحاب هذا الفن القولي من المحترفين، بل كانوا من الهواة، وهم قوم ظرفاء من أبناء البلد يقولون كلمات لاذعة تخدش، ولكنها لا تحرج ولا تدمي".
ويردف في موضع آخر: "وتعتمد القافية على النكتة في معظم الأحيان حتى تشيع البهجة والسرور في السامعين، وتدعوهم إلى التصفيق والاستحسان حتى لو كانت نكتة جارحة. ومن الواضح أن هذا الفن القولي يستمد براعته من واقع الحياة، لأن أصحابه كانوا يستخدمونه للتعبير عن نفوسهم وما يلاقونه من متاعب، تخرج من أفواههم في أقوال ظريفة يشيع فيها جو الفكاهة والضحك والسخرية".
وهكذا يتضح لنا هذا الدور الخطير الذي لعبته المقاهي الشعبية في انتشار العديد من فنون القول الشعبية من زمن إلى آخر، إذ كان جمهور هذه المقاهي يلعب دور المشجع حتى تنتهي المباراة الكلامية لصالح أحد الطرفين. ويبدو أن هذه السجالات اللفظية بين طرفي القافية كانت تمتد أحيانًا لجلسات طويلة، ولم يكن من السهل أبدًا حسمها من أول جولة.
كما يبدو واضحًا أن حرص الجمهور على حضور هذه المباريات، دليلٌ جلي على الشعبية التي حظي بها فن القافية بين رواد تلك المقاهي. ولا نستبعد كذلك وجود بعد تجاري، فكلما زاد عدد الحضور وطالت الجلسات، كلما تعددت أنواع المشروبات وارتفعت تكلفة الحساب. وهكذا كان من مصلحة أصحاب تلك المقاهي أن تظل هذه المباريات الكلامية متواصلة، وأن يزداد عدد جمهور الحضور حتى يضمنوا أكبر ربح ممكن.
وكما انتشر فن القافية في هذه المقاهي الشعبية، فإن فنونًا أخرى قد لاقت شهرة وانتشارًا وذيوعًا كذلك، وقد لخصها المؤرخ عبد المنعم شميس في ثلاثة فنون أساسية إلى جانب فن القافية، وهي: بتوع رمز، والحكواتية، والأدباتية. ويبدو أن ذيوع هذه الفنون الشعبية بين رواد المقاهي لم يكن كفيلًا بأن تحظى باحترام الأجيال السابقة من أولياء الأمور الذين كانوا ينصحون أولادهم بضرورة الابتعاد عن هذه الأماكن، وعدم الاستماع إلى مثل هذه الفنون وما بها من أقوال لاذعة. ومع الصحافة الورقية، خاض فن القافية المصرية مغامرة جديدة مع جمهور آخر.
فوق أسطر البعكوكة
في كتابه "البعكوكة وتاريخ الصحافة الساخرة في مصر" (2013)، يقول الباحث عبد الرحمن بكر عن باب "قافية اشمعنى" بالمجلة: "وهو من أشهر الأبواب التي جذبت الكثير من المصريين لشراء البعكوكة، لبساطتها، وكثرة التهكم وقد كانت تجذب الكثير من القراء النصف مثقفين وهي "القافية"، والقافية يقصر فيها القول، وتزداد فيها السخرية بشخص، وتتكرر في كل قافية منها كلمة "اشمعنى" وتكون كل مرة في موضوع واحد، وهذا الفن الهجائي عبارة عن حوار بين اثنين، يقول "أ" مخك، فيقول "ب" اشمعنى، فيرد "أ" مقفول، والذي حدث هو تتميم الكلمة التي بعد اشمعنى للكلمة التي قبلها، فنفاجأ بالمعنى المرتبط بالموضوع، ويكون بها الكثير من الإسفاف مع الأسف".
والمعروف أن "البعكوكة" كانت مجلة هزلية ساخرة، وهي أطول المجلات الساخرة في مصر عمرًا، فقد بدأت في العام 1934 واستمرت حتى العام 1953 قبل أن تنقطع عن الظهور. وقد عمل الكاتب الساخر الراحل عبد الله أحمد عبد الله "ميكي ماوس" على أن يصدرها بشكل فردي ومتقطع في فترات لاحقة، وذلك بعد أن بدأ حياته فيها محررًا صغيرًا، قبل أن يترأس تحريرها فيما بعد.
بين الماضي والحاضر
صحيح أن هذه الحرفة أو هذه المباراة الكلامية، اختفت اليوم من واقع حياتنا المصرية، لكن تأثيرها امتد لأجيال عديدة، وأصبحت مع الوقت من الموروثات التي تناقلت الدوريات والمراجع تفاصيلها من حين لآخر.
وعلى الرغم من تعدد فقرات الأفراح والسهرات ما بين الغناء والمونولوجات الفكاهية وإلقاء النكات، فإنها خلت من هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يحرصون على التنافس بالكلمات والإيقاع طوال السهرة من أجل كسب المال. والغريب أيضًا في أمر هذه الحرفة - على الرغم من اختفائها تدريجيًا من الحياة المصرية - هو تأثيرها المعنوي الممتد لفترة بعيدة. ويكفينا أن نتطلع إلى موجة الإعلانات التي سيطرت على التلفزيون المصري في فترة من فتراته حتى نجد أن هذه المباراة الكلامية كانت تُستخدم أحيانًا في واحد من هذه الإعلانات، للترويج لسلعة غذائية ما، بعد أن كانت مقتصرة على تسلية حضور السهرات والأفراح الشعبية.