راكمت مصر طبقات حضارية عبر رحلتها التاريخية الموغلة في القدم والحافلة بالتحولات، والتي شهدت تغيير لغتها أكثر من مرة، وكذلك ديانتها، لكن رغم تقلب وضع البلاد والعباد عبر مراحل التاريخ المختلفة، وكثرة الوافدين والمحتلين، فإن هناك استمرارية ما؛ ظلت تربط المصري بتاريخه القديم، عبر استقدام قصص بعينها وأساطير بتفاصيلها، وإعادة استخدامها مع إلباسها ثوبًا جديدًا يناسب الحالة الدينية التي يمر بها المصري في كل عصر من العصور، فعبر تتبع مصير بعض الأساطير الدينية التي عاشت عبر القرون وما تزال حية في الممارسة الشعبية، يمكن أن نضع أيدينا على بعض المداخل التي حاول من خلالها المصريون إضفاء معنى على عالم تسوده الفوضى، والكشف عن استمرارية ثقافية عبر سرديات رمزية، بتأويل الرمز الديني وإعادة توظيفه في تجارب التدين الشعبي.
الأسطورة هي الأداة الأساسية في حياة الإنسان، عبر التاريخ، لتفسير ما يقع خارج نطاق العقل، أو ما وراء المحسوس (الميتافيزيقا)، فهي النص المروي شفهيًّا -غالبًا- المكثِّف لدلالات حضارية وثقافية، لبيان كيفية تعامل الإنسان مع ظواهر الطبيعة واللامعقول من حوله، فكانت الوسيلة التي حاول من خلالها المصري القديم معرفة الغيبي، وتحويله إلى مدرك ومادي بإقامة علاقة مباشرة مع الطبيعة بعد إيجاد شفرة التعامل معها. ومع التطور العقلي والاجتماعي صوب الأديان التوحيدية بقيت بعض المعتقدات الشعبية التي ترتبط بالأسطورة راسخة في العقل الجمعي، وتغزل من تفاصيلها رداء تطرحه على ما تؤمن به، وتعيد من خلاله تأويل حدث تاريخي ليخدم تصوراتها.
يقول فراس السواح في كتابه (الأسطورة والمعنى): إن الأسطورة هي حكاية مقدسة ذات مضمون عميق له صلة بالكون والوجود وحياة الإنسان، فالأسطورة جزء من كل ثقافة عالمية، هدفها المساعدة في تفسير الظواهر الطبيعية، وتقديم التفسير لقيم ثقافية وعادات وتقاليد سائدة، فأحد تعريفات الأسطورة أنها: قصة تُعرض كما لو كانت أحداثها قد وقعت بالفعل في عصر سابق، تفسر السنن الكونية والتقاليد فوق الطبيعية، لقوم وآلهتهم وأبطالهم وسماتهم الثقافية ومعتقداتهم الدينية.
من منطلق هذه التعريفات نعيد النظر في تحولات الأساطير المصرية من العصور القديمة مرورًا بالعصور المسيحية والإسلامية، والتي تحكي لنا كثيرًا عن التدين الشعبي للمصريين، باعتبارها ذاكرة ثقافية، فهنا نرى كيف طوّع الإنسان المصري، في مختلف المحطات التاريخية وتحولاتها، الأساطيرَ التي ورثها منذ العصر القديم، واستخدم رموزها ومعانيها الرمزية لكي تعيش في رداء معتقده الديني في التصور الشعبي.
سنعتمد هنا على نظرية جيمس فريزر التي وضعها في كتابه (الغصن الذهبي) عن انتقال الرموز بين الأديان في التصور الشعبي، فهو يرى أنه عند انتقال ثقافة ما إلى اعتناق دين جديد، تُحول رموزها القديمة إلى شخصيات وطقوس جديدة تحقق نفس الوظيفة، ويتم هذا في إطار أسطوري، بينما يركز جان أسمان على الأسطورة كنظام رمزي معقد يُعقلن الفوضى، فمثلا فكرة تجدد الحياة في المجتمع النهري يُرمز لها بالموت والانبعاث في أسطورة أوزيريس، والتي استُعيدت بصور مختلفة في المراحل التالية، وهي ضرورية في أفكار مجتمع اعتمد في تنظيم حياته على دورة فيضان النهر.
البداية مع رمزية السيدة زينب، التي تحظى بمحبة هائلة بين المصريين، فالمشهد المنسوب لها في وسط حي شعبي يحمل اسمها بقلب القاهرة، يُعد محور حركة أساسية للتدين الشعبي بنزعته الصوفية في مصر كلها، إذ يأتي الزوار من جميع المحافظات المصرية لزيارة السيدة التي تحمل ألقابًا عدة منها: أم العواجز وأم هاشم.
يمكن إرجاع مركزية السيدة زينب في التدين الشعبي الذي يفيض عليها الكثير من الأساطير والحكايات حول معجزاتها، إلى الميل بشكل فطري إلى قصة السيدة زينب، بكفاحها وما واجهته من مصائب حلت على عائلتها بصبر وجلد، خصوصًا حمايتها نسل أخيها الحسين بعد مذبحة كربلاء، فكانت هي السند لأسرتها وقت عز الناصر، فأعيد توظيف رمزيتها شعبيًّا، فكل سيدة رأت في قصة السيدة زينب التعويض والسند النفسي لمواجهة مصاعب الحياة، فرغم ما تقابله سيكون في سيرة "أم المصائب" العزاء، فكل مصاب إزاء مصابها قليل.
هنا نلمح في تقديس المصريين للسيدة زينب بعض أصداء تقديس الأم المقدسة في الديانات المصرية القديمة، فمصر عرفت عبادة الإلهة إيزيس التي لعبت دورًا محوريًّا في الديانة المصرية القديمة، وأسطورتها في الأساس قائمة على التضحية بعد قتل زوجها أوزيريس على يد شقيقه ست، وكيف هربت إلى أحراش الدلتا لتربي ولدها حورس، الذي عاد وانتقم لوالده، لذا لم يكن غريبًا أن ترث مكانتها السيدة مريم العذراء التي هربت بوليدها المسيح إلى مصر خوفًا من اضطهاد اليهود، فأصبح لمريم العذراء مكانة روحية ضخمة في التدين المصري، انتقلت إلى السيدة زينب، فكلتاهما من أكبر رموز التدين الشعبي، وحولهما يُنسج الكثير من الأساطير والقصص الإيمانية.
اللافت أن هناك مشهدًا آخر يُنسب إلى السيدة زينب في مدينة أسوان بجنوب مصر، فخلف المتحف النوبي بأعلى تبة بالمدينة، تقع قبة تنسب إلى أم هاشم، هنا نلتقي بمحبة أهالي أسوان للسيدة زينب، التي يبدو أنها ورثت محبة إيزيس المعبودة المصرية القديمة، التي كُرست عبادتها في أسوان بالعديد من المعابد، أحدُها يقع غير بعيد عن موقع مشهد السيدة زينب، ففي الفترة الإسلامية تحولت المحبة من إيزيس إلى السيدة زينب، وانتقلت إليها الرمزية الدينية كلها، فأصبحت صاحبة أهم مشهد ديني في أسوان، حتى إنه يقام لها مولد أسبوعي، وليس مولدًا سنويًا كما جرت العادة مع الأولياء وآل البيت والقديسين.
وللسيدة زينب مقام في مدينة الأقصر، إلا أن الأخيرة تدين بحياتها الصوفية وسط معابد المصريين القدماء ذات الشهرة العالمية، للعارف بالله أبي الحجاج الأقصري الحسيني، الذي يعد حامي حمى الأقصر بلا جدال، فمقامه هو مركز العبادة الروحية الرئيسي لأهالي المدينة، ونقطة الجذب الديني الأولى بها، لكن هنا نلتقي بهذه المتتالية الحضارية التي تكثفها الأسطورة، ففي المولد السنوي لأبي الحجاج الأقصري الذي يأتي في منتصف شعبان، يعد الطقس الأشهر في المولد هو الموكب أو الدورة، وفيه تتجلى أصداء الأسطورة المصرية.
في الليلة الكبيرة للمولد، يطوف قارب (أبو الحجاج) أو المَحمَل الموضوع على سيارة، وكان في الزمن الماضي يحمل على جمل، والقارب مغطى بالكسوة الخضراء يتبعه ستة قوارب لعدد من الأولياء التابعين لطريقة الأقصري، ويعترف أبناء الطريقة أن فكرة القارب في المولد إحياء للطريقة التي تعود إلى مصر القديمة، وهو واقع يؤكد الاستمرارية الحضارية، فالأسطورة هنا تعيش في أشكال مختلفة، ما يمكن استكشافه من تفاصيل الدورة والتي تعكس احتواء لأسطورة مصرية قديمة.
يتحرك موكب الدورة بين معبدي الكرنك والأقصر في المدينة، وهو نفس مسار احتفال مصري قديم، فمعبد الأقصر الذي بناه الملك رمسيس الثاني، والذي كان يشهد الطقس الأبرز لاحتفال عيد الأوبت، والذي يشبه المولد عند المصريين القدماء، عبر موكب تماثيل ثالوث طيبة والمكون من الآلهة آمون وموت وابنهما خونسو، داخل قواربهم أو مراكبهم المقدسة في موكب احتفالي كبير، انطلاقًا من معبد آمون في الكرنك وعبر طريق الكباش وصولا إلى معبد الأقصر، وقد انتقل الاحتفال بتفاصيله إلى الاحتفال بمولد (أبو الحجاج الأقصري). وهو نفس الطقس الذي نراه في احتفال مولد العذراء بدير درنكة في محافظة أسيوط، حيث يعد موكب الدورة من أهم طقوس هذا المولد المسيحي.
وإذا كانت الأسطورة استوعبت ممارسة عيد الأوبت في الموكب أو الدورة في موالد الأولياء والقديسين، فالرمزية الدينية انتقلت مرة أخرى في أسطورة حورس ورمزيته باعتباره حامي البلاد، واستُوعِبت في كرامات الأولياء والقديسين، فإذا اتجهنا شمالا عبر نهر النيل وفرع رشيد، فسنجد أهم مركز روحي في محافظة كفر الشيخ التي تقع شمال القاهرة بـ 132 كيلومتر، يتمثل في جامع سيدي إبراهيم الدسوقي، آخر الأقطاب الأربعة عند الصوفية على مستوى العالم، مع الرفاعي والجيلاني وأحمد البدوي.
تحول مشهد القطب الصوفي بدسوق إلى واحد من أكبر تجمعات الصوفية في مصر، ويقام له مولد سنوي ضخم، خصوصًا أن الطريقة البرهانية الدسوقية لها كثير من الفروع في مختلف أنحاء العالم، لذا يشارك في المولد الكثير من أبناء الصوفية من السودان وبلاد المغرب وإفريقيا وبعض الدول الغربية.
أساطير كثيرة تروى عن كرامات إبراهيم الدسوقي، منها حماية المدينة أمام غزوات الصليبيين والمغول، كما هو حال حورس في القديم المسؤول عن حماية مصر، إلا أن كرامة الدسوقي الكبرى التي يرويها أبناء طريقته، تحكي قصة مفادها أن سيدة من أهالي مدينة دسوق خرج التمساح من النهر وأكل ابنها الصغير، فهرولت وهي تبكي وتصرخ إلى الدسوقي طلبا للنجدة، فهبّ الولي وأجبر التمساح على رد الطفل ثم قتل التمساح.
القصة رغم روعتها التشويقية فيها أثرٌ من حكايات مصرية قديمة، فحورس الذي خرج من أحراش بوتو (عاصمة مملكة الشمال في مصر القديمة والتي تقع بقاياها بالقرب من دسوق)، تُصوره بعض الجداريات وهو يمتطي الفرس، ويطعن إله الشر ست في صورة تمساح، وهي الصورة نفسها التي انتقلت في المسيحية وتجسدت في الأيقونة الشهيرة للقديس مارجرجس، وهو يعتلي الحصان ويطعن التنين ويحمي المدينة، ثم ارتدت الأسطورة حلة إسلامية مع الولي إبراهيم الدسوقي، فعاشت القصة آلاف السنين تعبيرًا عن الرغبة في الحصول على الحماية من غضبة الطبيعة.
هذه النماذج للأساطير التي تعيش عليها تجارب التدين الشعبي بطقوسه بين المسلمين والمسيحيين المصريين على حد سواء، تكشف أن الأساطير القديمة لم تمت، بل أُعيد استعارتها وتوظيفها في إطار جديد يناسب شكل التدين، وهنا تتحول الاستعارة الرمزية لعملية ملء الفراغ الذي شعر به المصري خلال تحوله الديني، فعندما غيّر دينه من الوثنية إلى المسيحية، أو من المسيحية إلى الإسلام، لم يقطع الصلة تمامًا بكل ما كان يحمله من طقوس وأساطير، بل عمل على نقل هذه الأفكار إلى أقرب نموذج في الدين الجديد، وإلباسها نفس الوظيفة القديمة لإرضاء حاجة النفس البشرية للاستمرارية. هنا تتحول القصص الأسطورية والممارسات الشعبية إلى فروع في شجرة تمتد بجذورها في عمق التربة السحرية لمصر.