الجفاف في العراق

من الفيضانات إلى الجفاف: تاريخ سياسي موجز للعطش في العراق

17 نوفمبر 2024

باسل رزق الله - سفيان البالي 

 

وصلت مخزونات المياه في العراق إلى أدنى مستوياتها منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة، ما يفاقم بشكل حاد أزمة الجفاف المتواصلة التي تعيشها البلاد منذ أكثر من ثلاثة أعوام، والتي تهدد السكان والزراعة والتنوع الحيوي والإرث الثقافي، وتزيد من زحف الصحراء نحو مناطق كانت خضراء.

تجمع التقديرات على وصول العراق إلى وضع مائي خطر. وفي حال استمرار شح المياه وانخفاض التدفق عند مستوياته الحالية، فإن المياه قد تتوقف تمامًا عن الجريان مرة أخرى في نهري "بلاد الرافدين"، مما ينذر بأزمة كبيرة في بلد هش يعاني من انعدام الاستقرار منذ نحو ثلاثة عقود.

وتكشف أزمة المياه عن تداخل معقد وشائك بين السياسة والجغرافيا السياسية نتيجة عدم سيطرة العراق على مصادر المياه، ما ينذر بمستقبل خطير تتحقق معالمه الأولية يومًا بعد يوم، دون وجود أي خطوات ملموسة تُجنّب البلاد واحدة من أسوأ أزماتها على الإطلاق.  

 

شح المياه.. أزمة تتصاعد

يحصل العراق على معظم مياهه من نهري دجلة والفرات، إذ يوفران 98% من المياه السطحية في البلاد، مما يجعلهما عاملًا حاسمًا لتحقيق "الأمن المائي" للعراق. وبحسب ما أعلنته وزارة الموارد المائية العراقية، في أيلول/سبتمبر 2023، فقد خسر العراق 60% من إيرادات المياه الخارجية، علمًا بأنه يحصل على 70% من إجمالي المياه الخام من دول الجوار، منها 50% تأتي من تركيا وحدها. مما يعني أن كميات المياه التي تصل إلى العراق لن تكفي للزراعة، ولن تمكّنه من إعادة الحياة إلى الأهوار العراقية، بل وستخلق أزمة حقيقية في تلبية احتياجات السكان من المياه.

ويمتلك العراق حاليًا 20 سدًا لاحتجاز المياه داخل حدوده، لكنها تعاني من قلة المياه الواردة إليها مع ارتفاع معدل المياه الخارجة منها، إذ يستقبل سد الموصل من نهر دجلة 275 مترًا مكعبًا من المياه في الثانية، لكنه يطلق 400 متر مكعبًا في الثانية، في حين يطلق سد حديثة على نهر الفرات 200 مترًا مكعبًا في الثانية، لكنه يستقبل 153 مترًا مكعبًا في الثانية.

وتتفاقم أزمة العراق المائية مع تلوث مصادر المياه. ووفقًا للأمم المتحدة، فإن 90% من أنهار البلاد ملوثة، لن يلبي العراق سوى 15% فقط من احتياجاته من المياه بحلول عام 2035.

وبحسب منظمة اليونسيف، لم يستطع نحو 3 من كل 5 أطفال في العراق، في عام 2021، الوصول إلى خدمات المياه المدارة بشكل آمن، وتحصل أقل من نصف المدارس في البلاد على المياه الأساسية، مما يهدد صحة الأطفال وتغذيتهم ونموهم المعرفي، وسبل عيشهم في المستقبل. واعتُبِر موسم هطول الأمطار 2020-2021 ثاني أكثر المواسم جفافًا خلال الأربعين عامًا الماضية، مما تسبب في انخفاض تدفق المياه في دجلة والفرات بنسبة 29% و73% على التوالي.  

من الفيضانات إلى الجفاف

وبالنظر إلى الموسم الفائت، باعتباره العام الأبرز في الجفاف بالعراق، فإن أرقام النصف الثاني من عام 2021 تكشف عن أزمة حقيقية يمكن عكسها على الأعوام القادمة مع تزايد أزمة الجفاف، إذ عانى 37% من مزارعي القمح و30% من مزارعي الشعير من فشل المحاصيل، بما لا يقل عن 90% من المحصول المتوقع.

كما فقدت 37% من الأسر الماشية أو الأغنام أو الماعز في الأشهر الستة الماضية بسبب عدم كفاية المياه، أو عدم كفاية الأعلاف أو المرض. وانخفض متوسط ​​الدخل الشهري في ست من أصل سبع محافظات عراقية، إلى أقل من العتبة الشهرية، للسبب نفسه: أزمة المياه.

بلد الماء يَعطَشْ!

عُرف العراق، تاريخيًا، بوصفه واحدًا من أكثر بلدان المنطقة وفرةً بالمياه، لدرجة أنه كان يعاني من الفيضانات بشكلٍ متكرر، وآخرها تلك التي وقعت في منتصف ثمانينات القرن الماضي. كما كانت تقوم فيه زراعات تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، مثل الأرز. أما الآن، يخسر العراق 100 ألف دونم سنويًا من الأراضي الزراعية بسبب الجفاف. 

وكان العراق في وضع مائي جيد بفضل نهري دجلة والفرات حتى منتصف السبعينيات، عندما بدأت تركيا في إنشاء السدود على النهرين، حيث بدأت إمدادات المياه تتراجع تدريجيًا منذ ذلك الحين.

ويعود سبب نقص المياه الجارية في العراق، بصورة رئيسية، إلى قطع تدفقات المياه من نهري دجلة والفرات من قِبل تركيا. ويعد نهر دجلة ثاني أطول نهر في جنوب غرب آسيا، ينبع من جنوب شرق تركيا، ويبلغ طوله 1718 كيلومترًا، ويمر عبر الأراضي السورية مسافة 50 كيلومترًا، ويدخل إلى العراق عند قرية فيشخابور شمال غرب إقليم كوردستان. وتتدفق إلى العراق خمسة روافد: الخابور، والزاب الكبير، والزاب الصغير، والعظيم، وديالى. يلتقي نهري دجلة والفرات عند القرنة ليشكلا شط العرب.

ويضاف إلى ذلك تغيير إيران لمجرى العديد من الأنهار المهمة بالنسبة للعراق، بينها نهر سيروان الذي حاولت تجفيفه عدة مرات، وتغيير مجرى الأنهار في المناطق الحدودية في ديالى وخانقين، لكي تتدفق إلى أراضيها.

ويشير الناشط البيئي جاسم الأسدي إلى أن العراق كان يتمتع في الماضي بوفرة مائية مريحة، لكنه يواجه الآن: "شحًا مائيًا، وليس إجهادًا مائيًا فقط، فقد تجاوز مرحلة الإجهاد المائي".

وقال المختص العراقي في السياسات المائية رمضان حمزة، لـ"ميغازين"، إن العراق يمر بمرحلة ضعف مائي تاريخية لم يشهدها من قبل نتيجة عوامل بشرية تمثّلت في تحكم دول المنبع بالحصص منذ سنوات طويلة. وأشار إلى أن العراق في موقف ضعيف منذ حرب الخليج الأولى والثانية. موضحًا أن للأزمة أسبابها الخارجية والداخلية.

ووصف المختص العراقي في شؤون المياه، تحسين الموسوي، في حديثه لـ"ميغازين"، المرحلة الحالية في العراق بـ"الإفلاس المائي"، مشيرًا إلى أن العراق "يمر بأسوأ أزمة مائية في تاريخه، إذ وصل إلى مرحلة الإفلاس المائي والشواهد التي تثبت ذلك كثيرة، أبرزها تقلص الخطة الزراعية إلى أكثر من 20% وجفاف البحيرات والأنهار والمسطحات المائية، فضلًا عن تقدم نسب التصحر لتصل أكثر من 90% من أراضيه". 

ولفت إلى أن "الشاهد الأبرز هو لجوء العراق لاستخدام الجزء الميت من خزينه المائي، وهو بحيرة الثرثار، لأول مرة في محاولة لإنعاش حوض الفرات". كما قال عن وضع الأنهار في العراق "أصبحت بعض أحواض النهرين مناطق للعبور وساحات للعب وليس فيها أي وجود للمياه".

الطريق إلى أزمة المياه

تتداخل مسببات أزمة المياه في العراق بشكلٍ كبير، ما بين بناء السدود من قبل تركيا وإيران، وصولًا إلى التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة، بالإضافة إلى طرق استخدام المياه، وارتفاع عدد سكان البلاد، بالإضافة إلى عدم تعاطي الحكومة مع هذه الأزمة بجدية.

أما الملح الأبرز لأزمة العراق المائية، فقد كان في منتصف السبعينيات، مع بداية الحكومة التركية ببناء السدود على نهري دجلة والفرات في مشروع جنوب شرق الأناضول، الذي تضمن أكثر من 22 سدًا، و19 محطة طاقة هيدروليكية، بشكلٍ أحادي.

وكانت نتيجة هذه المشاريع الأحادية خفض التدفقات المائية إلى العراق بشكل عام، مما منح تركيا القدرة أيضًا على إيقاف تدفق المياه في اتجاه مجرى النهر. ورغم وفرة المياه في تركيا عمومًا، إلا أنها تستخدم هذه السدود من أجل تطوير منطقة جنوب شرق البلاد، مع تجاهل النقص في كميات المياه التي تصل إلى العراق وسوريا.

وترتبط مشكلة المياه في العراق بجيرانه بشكلٍ كبير، إذ ساهمت سياسة إيران المائية على المقلب الآخر في خفض الواردات المائية للعراق، خاصةً أن الروافد التي تصل إليه من إيران تساهم بنسبة 40% من مياه شط العرب. وتحققت هذه السياسة من خلال بناء 600 سد في إيران، وتحويل مياه الأنهار، مثل نهر كارون والكرخة، لتبقى داخل الأراضي الإيرانية، مما منعها من التدفق إلى العراق، وقد أدى ذلك إلى تأثيرات إضافية، مثل ارتفاع نسبة الملوحة في المياه. 

الجفاف في العراق

إلى جانب ما سبق، ساهم التغير المناخي وارتفاع نسبة التبخر وقلة الأمطار في زيادة أزمة المياه، حيث ارتفعت درجة الحرارة في العراق ما بين 1-2 درجة مئوية بين الأعوام 1970 - 2004، وانخفضت نسبة الأمطار بنسبة 10%، مما يشي بخطر التصحر إلى جانب شح الماء.

أما لناحية الأبعاد البيئية للأزمة، فإن العراق يحتل المرتبة 129 من أصل 181 دولة على مؤشر هشاشة البيئة، مما يجعله واحدًا من أكثر دول العالم ضعفًا وهشاشةً من الناحية البيئية.

وأصبح متوسط ​​هطول الأمطار السنوي في العراق أقل قابلية للتنبؤ به منذ سبعينيات القرن الفائت، حيث انخفض بنسبة 10% في العشرين عامًا الماضية. ويقدر العلماء أنه بحلول عام 2050، سينخفض ​​هطول الأمطار في العراق بنسبة 25%.

 

الماء كأداة للتفاوض

تحولت المياه إلى أداة جيوسياسية تستخدم في المفاوضات والمساومة السياسية وخاصةً من قِبل تركيا، البلد صاحب التأثير الأكبر على مياه العراق، والذي يتخذ خطوات أحادية بشكلٍ متكرر في إدارة المياه التي تصل إلى العراق، كان آخرها بناء سد إليسو على نهر دجلة لتوليد الطاقة الكهرومائية، مما أثار توترات جيوسياسية مع العراق وسوريا.

وتمتلك تركيا، في إطار مشروعها "جنوب شرق الأناضول"، 22 سدًا و19 محطة للطاقة الكهرومائية على طول نهري دجلة والفرات، بالقرب من حدودها مع سوريا والعراق. وتشير التقديرات إلى أن مشاريع بناء السدود والطاقة الكهرومائية المختلفة في تركيا قد خفضت إمدادات المياه في العراق على طول النهرين بنسبة 80% منذ عام 1975، وأن سد إليسو سيقلل من تدفق مياه نهر دجلة إلى العراق بنسبة إضافية تصل إلى 56%. وبالنسبة للعراق، فإنه من المرجح أن يفرض السد ضغوطًا أكبر على الزراعة والموائل الطبيعية، مما يسهم في  زيادة التصحر والملوحة في مناطق بعيدة مثل الأهوار الجنوبية.

ويدور النقاش بين العراق وتركيا حول مجموعة من القضايا، من أبرزها رغبة تركيا في الحصول على أسعار تفضيلية لنفط العراق، والوصول إلى تسوية في ملف حزب العمال الكردستاني الذي يتمركز في العراق، وخط نقل النفط العراقي التركي المعروف باسم "كركوك جيهان"، إضافةً إلى مسائل التجارة والأمن العام، والمياه. 

جميع هذه القضايا مهمة بالنسبة إلى تركيا، باستثناء المياه التي تشغل العراق وحده وتتحول إلى ورقة تفاوض أساسية للحصول على تنازلات في الملفات الأخرى. وترى بعض التقديرات العراقية أن تركيا تعمل على ربط ملف المياه بملف حزب العمال الكردستاني تحديدًا.

وتستخدم المياه بشكل أمني أيضًا، إذ تشير المناطق الكردية إلى أن سد إليسو قد أسهم في غمر الأراضي ذات الأهمية التاريخية والثقافية للأكراد، ودمر مدينة حسن كيف الكردية القديمة. وبشكل عام، يجعل التحكم التركي في المياه الزراعة العراقية خاضعة لتركيا بشكل كامل.

وعلى الرغم من إجماع كافة التقديرات على أن تركيا لها التأثير الأكبر على مياه العراق، إلا أن المشاريع الإيرانية تترك هي الأخرى تأثيرًا كبيرًا، خاصةً في ظل النفوذ الإيراني في العراق. وتتركز السياسة الإيرانية على منح مواطنيها أولوية الحصول على الماء. في المقابل، يجد العراق نفسه، بوصفه بلدًا مصبًا للنهر، أمام خيارات محدودة في التعامل مع دول الجوار.

وفي سياق الحديث عن علاقة إيران مع العراق، قال رمضان حمزة لـ"ميغازين" إنها تعود "إلى عام 1975، عندما وهب العراق لإيران نصف مياه الخليج بمعاهدة الجزائر، إذ خسر العراق حق الملاحقة في المنطقة ليصبح الإيرانيين على مرمى حجر من البصرة". 

ويتركز التأثير الإيراني بشكل كبير في نهري سيروان (ديالى)، والزاب الصغير. كما قامت إيران بالعمل على بناء 600 سد والتخطيط للمزيد، ثم تحويل مياه الأنهار مثل نهر كارون والكرخة لتبقى داخل الأراضي الإيرانية بدلًا من أن تتدفق إلى العراق. ولم تؤدِ هذه التحويلات إلى خفض تدفق المياه إلى العراق فحسب، بل أسهمت كذلك في زيادة نسبة الملوحة في المياه. 

وحاولت الحكومة العراقية التباحث مع إيران على ملف المياه، وخاصةً قضية تجريف ممر شط العرب، لكن دون التوصل إلى منطقة تقاطع. وتقدر بعض الأبحاث أن أزمة المياه تساهم في استمرار الاضطرابات في العراق، ما يمنح إيران فرصة لاستغلال هذه الظروف لتعزيز تدخلها ونفوذها في البلاد.

وهددت الحكومة العراقية بتدويل أزمة المياه من خلال تقديم شكوى رسمية إلى الأمم المتحدة، إذا استمرت إيران في الحد من المياه. ومع ذلك، لم تتابع الحكومة الأمر وفشلت في صياغة أي خيارات بديلة قابلة للتطبيق للتعامل مع إيران أو تركيا.

وحول هذه التقاطعات الجيوسياسية لأزمة ندرة المياه في العراق، قال رمضان حمزة إن "الداخل العراقي منقسم بين أطراف تؤيد تركيا ولا تقف أمام سياستها بخصوص المياه، وأطراف أخرى تقف مع إيران ولا ترضى باتهامها بملف المياه، كما يوجد من يدافع عن سوريا، ولذلك فلا قرار موحد حول الملف وهذه التقاطعات المهمة ستفجر الأزمة".

الماء ليس أولوية!

تُجمع تقديرات عدة على أن الحكومة  العراقية لا تمتلك الكثير من أجل معالجة أزمة المياه داخل البلاد، خاصةً مع اعتمادها الكبير على نهري دجلة والفرات، الأمر الذي جعلها عرضة للابتزاز السياسي الذي يؤثر سلبًا على استقرار البلاد. 

وإضافةً إلى ما سبق، تفتقر الحكومة العراقية إلى رؤية واضحة للتعامل مع الأزمة التي تعتبر تهديدًا وجوديًا للبلاد. كما لم يكن موضوع المياه أولية للحكومات العراقية المتعاقبة وفق ما قاله الناشط البيئي جاسم الأسدي لـ"ميغازين"، مضيفًا أن هذه الأزمة ليست مسؤولية الحكومة الحالية أو تلك التي سبقتها، بل تعود جذورها إلى عام 1975 مع النظام السابق.

وفي بلد يعاني من عشرات الأزمات، بينها تلك التي تهدد الحياة مباشرة، فإن موضوع المياه وخطر الندرة المطلقة للمياه في عام 2040 قد احتل موقعًا متأخرًا في قائمة أولويات الحكومة العراقية، التي لم تفعل الكثير لتحديث أنظمة الري وتحويل أنماط الزراعية إلى تلك التي تحتاج كميات أقل من المياه.

وثمة جانب آخر يشار إليه باستمرار، وهو عدم دخول الحكومة العراقية في مفاوضات جدية وناجعة مع إيران وتركيا من أجل التوافق على إدارة المصادر المائية المشتركة، خاصةً مع اتخاذ أنقرة وطهران خطوات أحادية بشكلٍ متكرر. كما لم تصل تهديدات الحكومات العراقية المتعاقبة بتدويل القضية مرحلة التنفيذ.

ولم تبذل الحكومة العراقية جهودًا كافية لنشر ثقافة الترشيد المائي ومحاولة التوعية بشأن الإسراف في استخدام المياه، على الرغم من أن معدل استهلاك الفرد كان يصل إلى 392 لترًا يوميًا، في حين يبلغ المعدل العالمي 200 لتر، وهذا يعود إلى أن العراق كان، وعلى مدار سنوات، بلدًا ذا وفرة مائية. 

وبحسب تقديرات بحثية، فإن واحدة من جوانب إلقاء اللوم على الحكومات العراقية مرتبط بارتفاع نسبة التلوث في المياه، إذ يقدر بأن ما يصل إلى 70% من النفايات الصناعية في العراق يتم التخلص منها مباشرة في المياه، مما أسفر عن ترك نحو ثلاثة من كل خمسة مواطنين دون مصدر صالح للمياه. كما أن العراق يسيء إدارة المياه التي تصل إليه نتيجة البنية التحتية القديمة والمتهالكة التي، التي تتسبب بفقدان جزء كبير من المياه التي تصله.  

وهناك مسألة أخرى تقلل الحكومة العراقية من أهميتها، ولا تقوم بما يكفي لمراقبتها أيضًا، وهي استخراج النفط الذي (عدا عما يسببه من أضرار بيئية) يساهم في أزمة شح المياه في العراق، حيث تقوم شركات النفط الأجنبية العاملة في البلاد بضخ كميات كبيرة من المياه إلى باطن الأرض من أجل الدفع بالنفط إلى الأعلى. وفي مقابل كل برميل من النفط، يتم ضخ ما يصل إلى ثلاثة براميل من الماء. ومع ارتفاع صادرات العراق من النفط، انخفضت مستويات المياه بشكل كبير. 

وتستخدم هذه المياه من حصة السكان في مناطق استخراج النفط، حيث تزايدت نسبتها وارتفع الطلب عليها بشكل كبير منذ بداية الحرب الروسية على أوكرانيا.

وقال الناشط البيئي جاسم الأسدي إنه كان من المفترض منذ سقوط النظام السابق عام 2003، أن يبني صانعوا القرار خططهم على أساس قلة المياه، والقيام بإجراء مباحثات وبروتوكولات واتفاقيات ثنائية ملزمة مع تركيا وإيران، على أساس المصالح المشتركة. 

وفي الوقت نفسه، العمل على تغيير استراتيجية الري السيحي والسومري، الذي يتطلب كميات هائلة من المياه في قنوات مفتوحة ومضخات عالية التصريف، إلى الري بالتنقيط والرش ووسائل الري الحديثة، التي تقلل من استخدام المياه بمقدار كبيرة جدًا.

وفي هذا السياق، قال الخبير رمضان حمزة لـ"ميغازين"، إن عدم وجود سياسات مائية واضحة ورصينة وكفاءات تدير الملف، ساهمت في تفاقم أزمة المياه داخليًا. كما تعاظم ملف التجاوزات بوجود المتنفذين الذين يمتلكون مساحات شاسعة تسيطر على مناسيب المياه لغرض الزراعة، وذلك على الرغم من أن أراضيهم خارج الخطة الزراعية التي تثبتها الوزارة.

الجفاف في العراق

وأوضح أن أحد جوانب الفساد وهدر المياه في العراق "الانتشار الكبير لبحيرات تربية الأسماك، إذ باتت الإجازة للعمل بها تمنح مقابل مبالغ مالية كبيرة ليتحول إلى ملف فساد ومساومات"، مؤكدًا أن "هذه البحيرات أغلبها تجاوزات على الأنهر والروافد، ولذلك ساهمت في استنزاف كبير لمناسيب المياه، أسرع مما كان متوقعًا".

كما أشار رمضان حمزة إلى العلاقة بين البنية التحتية الضعيفة وندرة المياه، موضحًا أن "سدود العراق جميعها غير قادرة على تخزين كميات مياه كبيرة، حيث يتحمل سد الموصل خزن 8 من أصل 11 مليار متر مكعب، وهو الحد الأقصى. كما يوجد سد دوكان الذي يخزن 6 مليارات متر مكعب، وسد حمرين الذي يخزن أكثر من 2 مليار، وسد دربندخان الذي يخزن 3 مليارات متر مكعب". لافتًا إلى مقترح يرتبط بتأهيل بحيرة الثرثار، التي يمكن أن تساهم في تحسين الوضع المائي في العراق. 

واعتبر الباحث المختص في المياه، تحسين الموسوي، أن حل ملف المياه من ناحية جيوسياسية، أصبح يحتاج إلى تدخل المجتمع الدولي، بعد عجز العراق عن حله والحصول على حصة عادلة، مشيرًا إلى فشل كل المفاوضات عبر العقود الماضية.

 

عطش العراق: خسارة حياة وتنوع حيوي

بدأت الأزمات الناتجة عن الجفاف ونقص المياه في العراق بالظهور مع موجات الجفاف الصغيرة، أو تلك التي تقتصر على حدود مناطق معينة، مثل رغبة العديد من السكان بالهجرة الداخلية نتيجة نقص المياه. وأفادت المنظمة الدولية للهجرة التابعة للأمم المتحدة، في عام 2019، أن 21.314 عراقيًا نزحوا داخليًا في المحافظات الجنوبية والوسطى بالعراق بسبب نقص المياه الصالحة للشرب.

وخلال الأعوام الماضية، أثارت ندرة المياه نزاعات قبلية بلغت ذروتها في اندلاع اشتباكات مسلحة في أكثر من مناسبة. وبحسب تقدير بحثي: "من المرجح أن يكون نقص المياه حافزًا لمزيد من العنف بين القبائل الجنوبية. هناك أيضًا سيناريو مخيف يمكن أن يؤدي فيه نقص المياه أيضًا إلى تأجيج التوترات الطائفية على المدى الطويل حيث إن معظم السدود الرئيسية في البلاد تقع في المناطق ذات الأغلبية السنية. وفي حالة حدوث موجات جفاف شديدة، فمن الممكن أن يطالبوا بتخفيض إطلاق المياه إلى المناطق الواقعة في جنوب البلاد ذي الأغلبية الشيعية".

وهددت حكومة إقليم كردستان، التي تقع في الشمال وتسيطر على جزء كبير من تدفق المياه إلى أجزاء أخرى من العراق، بخفض إمدادات المياه بسبب الخلافات السياسية مع الحكومة المركزية في بغداد في عام 2016. كما قطعت حكومة الإقليم تدفق المياه إلى المحافظات العربية بعد أن خفضت إيران إمدادات المياه إلى نهر الزاب الصغير عام 2018.

كما تتناقص المناطق المخصصة للزراعة في العراق، الأمر الذي يزيد نسبة الملوحة في الأراضي، وهو ما يخلق أزمة متشابكة تهدد 54% من الأراضي الصالحة للزراعة. ويقضي هذا الوضع على الزراعة وأيضًا النشاطات المرتبطة بها، مثل تربية الجواميس في الأهوار العراقية، وهي منطقة تعتمد بشكل كبير على المياه.

وبرزت المعاناة الكبيرة لمربي الجواميس في الأهوار العراقية في تموز/يوليو عام 2022، إذ دعت منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة (الفاو)، إلى تنسيق دعم طارئ لهم، حيث تعد الأهوار العراقية من أفقر المناطق في العراق، وواحدة من أكثر المناطق تضررًا من تغير المناخ ونقص المياه. وقد أدى ذلك إلى أزمة كارثية طالت أكثر من 6 آلاف أسرة ريفية فقدت جواميسها، وهي أصولها المعيشية، وتدفع الناس إلى الهجرة بحثًا عن أماكن جديدة للحياة والعمل.

إحدى عوارض الأزمة العينية حدثت في البصرة صيف عام 2018، وذلك عندما تم إدخال ما لا يقل عن 118 ألف شخص إلى المستشفى بسبب أعراض حددها الأطباء بأنها مرتبطة بتلوث المياه. وقد أدى ذلك إلى اندلاع موجة احتجاجات في المحافظة التي تعاني من نقص المياه التي تصل إليها، رغم وقوعها على شط العرب. وأسفرت الاحتجاجات عن مقتل 9 محتجين، دون العمل على معالجة جدية لهذه الأزمة.

وفي العموم، يهدد نقص المياه حاليًا التنوع الحيوي في العراق، ويعرض العديد من الحيوانات المهددة بالانقراض للخطر، بالإضافة إلى تأثيره السلبي على أنماط الزراعة الحالية وسبل العيش لعدد كبير من السكان. كمت يشي بإمكانية خسارة إرث ثقافي كبير، خاصةً في مناطق مثل الأهوار العراقية. وفي المستقبل القريب، الذي قد يكون على بعد حوالي 20 عامًا فقط، قد يصل الأمر إلى تهديد الحياة برمتها في العراق.

 

  • ساهم فريق موقع "الترا عراق" في إعداد هذه المادة.

الكلمات المفتاحية

الأكثر قراءة

1

فن التلاوة: مِن ماضٍ عريق إلى حاضر مليء بالأزمات

قراءة في رحلة فن التلاوة العريق من ماضٍ حافل بالقراء الكبار، إلى حاضر مليء بالأزمات

2

حيلة البقاء.. لماذا لا نستطيع التوقف عن اللعب؟

الألعاب وسيلة لتحفيز الإبداع في شركات التكنولوجيا الكبرى مثل غوغل ومايكروسوفت، حيث تُدمج في بيئة العمل كأداة لشحن الطاقة الذهنية وتحرير الأفكار، وليس فقط للترفيه، بهدف تعزيز الابتكار والانضباط

3

حكاية سيد درويش.. الحب والثورة والزوال

اعتُبر سيد درويش مخلّصًا للأغنية المصرية من عجمتها التركية، وقال البعض إنه أعاد الموسيقى إلى أصلها العربي كما كانت في زمن الخلافة العباسية

4

من صدّام حسين إلى النسوية الحديثة: سيرة ذاتية للشنب

سيرة الشوارب من ثقافات الشعوب إلى النسوية الحديثة

5

من غزة إلى سازان.. الاستعمار العقاري ورسم خرائط الإمبراطورية الجديدة

عن جزيرة سازان الألبانية التي أصبحت أرضها فريسة لأطماع استثمارية يقودها جاريد كوشنر

اقرأ/ي أيضًا

تدمير البيئة في غزة

من قمة المناخ إلى ركام غزة: أين العدالة البيئية؟

العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة مثال صارخ على تجاهل مؤتمرات المناخ دور الحروب في تفاقم الكوارث البيئية

إبراهيم عز الدين

المجاعة الصامتة
المجاعة الصامتة

المجاعة الصامتة: التلوث البيئي وجهٌ آخر لأزمة الغذاء

يترك التلوّث البيئي، سواءً كان تلوّثا في التربة أو المياه أو الهواء، آثارًا سلبية على الزراعة، مُشكلًا تهديدًا خطيرًا للأمن الغذائي العالمي

زاهر هاشم

مؤتمرات مناخية على صفيح كوكب ملتهب

كثير من الكلام قليل من العمل.. مؤتمرات مناخية على صفيح كوكب ملتهب

تُثير مؤتمرات المناخ تساؤلات لا تنتهي حول جدواها وقدرتها على مواجهة الأزمة المناخية، خاصةً أنها تُنتج الكثير من الكلام، والقليل من العمل

زاهر هاشم

يستخدم زيت طهي الطعام كوقود في غزة

من المطابخ إلى الطرقات.. كيف أصبح زيت الطهي بديلًا للوقود في غزة؟

في ظل منع الاحتلال إدخال الوقود إلى غزة، لجأ الغزيون إلى زيت الطهي كبديل يضمن لهم استمرار حركة مركباتهم، خاصةً لناحية نقل النازحين في ظل أوامر الإخلاء الإسرائيلية المتكررة

دعاء شاهين

الحروب والبيئة

دماء لا مرئية.. البيئة في عالم الحروب

تمتد الآثار الكارثية البيئية للحروب إلى تدمير الطبيعة واستنزاف الموارد، وإلحاق أضرار جسيمة بالتنوع البيولوجي، مما يسهم في تسريع وتيرة التغير المناخي وتهديد مستقبل البشرية

زاهر هاشم

المزيد من الكاتب

فريق التحرير

فريق التحرير

الكارثة بوصفها فرصة: كيف يطلق الاحتباس الحراري سباق التسلح في العالم؟

لم تتعامل الدول الكبرى مع التغيرات المناخية في منطقة القطب الشمالي بوصفها "كارثة" وإنما "فرصة" تسعى إلى استغلالها بطريقة تجعل المنطقة ساحة صراع

الوحدة غير الممكنة.. الحياة الاجتماعية للقراءة

يقول إدموند وايت إنه قرأ الكتب من عدة زوايا؛ كباحث، ومعلم، ومحكم، وناقد. وعلى الرغم من أنه يجد قراءة الكتب من أجل المتعة أعظم فرحة، إلا أنه في حالات النقد والمراجعة يشعر بأنه مقيد بالالتزام

خوسيه ساريّا: أنا شاعر أندلسي

يتحدث ساريا في هذا الحوار عن علاقته بالشعر، والتجارب المؤثرة في تشكيل توجهه الشعري، وحضور الإرث الثقافي للأندلس في تجربته الشعرية

ما الولايات المتأرجحة في الانتخابات الأميركية؟

الولايات المتأرجحة ولايات حاسمة في مسار الانتخابات الرئاسية الأميركية، وعادةً ما تكون "ساحة المعركة" الحقيقية بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري

فرنسيس كومب: أكتب ضد ما يرعبني

يؤكد فرنسيس كومب في أعماله الشعرية ونشاطاته المختلفة على انتمائه للتغيير وللشعوب المقهورة، وأصدر مؤخرًا مختارات بالفرنسية عن غزة

التنين الأخضر: كيف أصبحت الموارد الأولية للتحول الأخضر ساحة صراع بين الصين والغرب؟

يشكّل الصراع على موارد الطاقة الجديدة والمعادن النادرة بين الصين والدول الغربية أحد أهم التحديات أمام تحقيق التحول الأخضر في العالم